أحد أهمّ أسباب تخلّفنا عن عصرنا هو تخلّفنا عن ديننا، فإسلامنا جاء مرناً متجدّداً صالحاً لمواكبة الزمان والمكان، فجمدنا عند آراء السابقين، كأنّها وحي منزَل، فأنتجنا متعصّبين جامدين كما نرى في كلّ ميدان علميّ، فالجمود في كلّ التخصّصات والصناعات، ليس مقتصراً على التخصّص الشرعيّ فقط، فثقافة إبداع حلول جديدة، ما زالت تحبو في مجتمعاتنا!
وإن كان التقليد والجمود في المجال الشرعيّ أكبر، لاستخدام القامعين- والصادّين عن الاجتهاد- لسلاح الزجر الدينيّ: أتريد تحريف دين الله؟ أتريد الابتداع في الدين؟ أأنتَ خير من الأئمة السابقين؟
فأصبح خطابنا الإسلاميّ بأطيافه: السلفيّ والتقليديّ لا يناسب واقعنا الذي تغيّر عن السابق بما لم يخطر على قلب بشر! فكيف نحتكم في زماننا لأقوالٍ دينيّة اجتهاديّة كُتبت لزمانٍ الفرقُ بينه وبين زماننا كبير؟!
كما أنّ الغالب على خطابنا الدينيّ الأقوال المتشدّدة التي تميل للانعزال عن الأمم الأخرى والانسحاب من الحياة، والجفول من كلّ جديد!
وسأتكلم هنا عن المدرستين المسيطرتين على الساحة الإسلامية في أيامنا، المدرسة التقليدية والمدرسة السلفية:
أولاً: هيمنة الخطاب التقليديّ:
يسيطر الخطاب التقليديّ الذي يحصر الفقه بالمذاهب الأربعة، والعقيدة بمذهبَين (الأشعري والماتوريدي)، ويتفاوتون بتعلّقهم بالتصوّف بتدرّجاته ومدارسه، ويغلب عليهم التقليد، ويبتعدون عن الاجتهاد والترجيح.
وهنا للإنصاف علينا أن نذكر أهم ميزات المدرسة التقليدية: أنهم حفظوا لنا الدين ونقلوا اجتهادات السابقين وكان منهم المفتي والواعظ والمربي والعالِم الذي ينشر العلوم الشرعية المختلفة، وعليهم درسنا ومنهم نهلنا أصول العلوم الشرعية، وهم غيورون على الدين متمسّكون به مدافعون عنه، لكن ما نأخذه عليهم أنهم يجمدون على أقوال السابقين.
ومع الأسف أغلب تربيتنا العلميّة والفكريّة تقوم على التلقين والحفظ، وتصبّ في ثلاثة مهام، كلّما أتقنها الطالب)الذي سيصبح عالماً يكون مقدَّماً وراسخاً ((عندهم:
1- كيف تحفظ المقرّرات؟
2- كيف تجتهد بنشرها وتتفنّن في ذلك؟
3- كيف تدافع وتنافح عن تلك المقرّرات؟
وتلك المقرّرات ما هي إلا اختياراتٌ من أقوال متعدّدة، فهناك مدارس ومذاهب أخرى، لا تُدرس تلك الأقوال أصلاً، بل إن دُرست فلا تُدرس بإنصاف، فكثيراً ما يأتون بالأقوال غير المعتمدة، ولا ينقلون أدلّتها كلّها، فيظهر قول المدرسة الأخرى ضعيفاً هزيلاً ثمَّ يردّون عليه، فيُورِث ذلك طالبَ العلم تعصّباً لمذهبه الذي درسه.
وهذا ما يسمّونه في المغالطات المنطقيّة: (مغالطة رجل القَشّ)، حيث تُصَوَّر الفكرةُ تصويراً هزيلاً كرجل القشّ، فيسهل حرقه والقضاء عليه! بينما الفكرة الحقيقية تكون أقوى من (رجل القشّ) بمرّات وكَرَّات، لكن لو صوّروها على حقيقتها لعجزوا عن إحراقها، أو الردّ عليها أو نقدها! فيلجؤون لمغالطة (رجل القشّ).
لذلك من المتعارف عليه في المنهج العلميّ، أنّ الأقوال تُنقل من كتب أصحابها، لا ممّن نقل عنهم، لاحتمال الخطأ بالنقل، أو الوهّم بالفهم أو التحيّز وعدم التثبّت، أو غيرها من العلل والآفات.
وكان من أهم مظاهر المدرسة التقليدية حصرهم للفقه بالمذاهب الأربعة.
1-حصر الفقه بالمذاهب الأربعة:
أمّا حصر المذاهب الفقهيّة المعتبرة بالمذاهب الأربعة، فتلك أيضاً قضيّة أضرّت بالفقه الإسلاميّ عموماً، فالمذاهب الأربعة لم تستوعب كلّ الاجتهادات، كما أنّها لم تغطِ الوجوه الخلافيّة المحتمَلة للمسائل كلّها، والواقع أكبر دليل على ذلك، فهناك أوجه خلاف خارج المذاهب الأربعة، خلافاً لمن يزعم أنّ المذاهب الأربعة تقاسمت وجوه الخلاف الذي تحتمله المسائل!.
صحيح أنّ بعض المجتهدين من أتباع المذاهب حقّقوا ودقّقوا، لكن ضمن المذهب، ونادراً ما يخرجون عن أقوال الإمام، ولو خرجوا لما كان خروجهم مرحباً به عند كثيرين، فمثلاً: الإمام الوليّ العراقيّ الشافعيّ غضب من ترجيحات الإمام النوويّ الشافعيّ (التي خالف فيها أقوال الإمام الشافعي) وقال: “وَنَحْنُ شَافِعِيّة لَا نَوَوِيّة” لكن رغم ذلك أصبح الإمام النوويّ مرجّحاً ومحرّراً ومحقّقاً في المذهب الشافعيّ.
فحَصْر المذاهب المقبولة بالمذاهب الأربعة نفعها كثيراً، حيث تركّزت عقول العلماء فيها، فخُدمت هذه المذاهب الأربعة، ولكن ذلك أضرّ بغيرها (من المذاهب والأقوال) واندثر كثيرٌ منها.
كان الإمام الشافعيّ رحمه الله يقول: “الليث أفقه من مالك، إلا أنّ أصحابَه لم يقوموا به”.
كما أنّ حَصْر مَنْ تأهّل للاجتهاد بمذهب من تلك المذاهب الأربعة، ضيّق إمكاناته كثيراً، كالحصان القويّ الذي تَربِط قدميه وترخي له الوثاق قليلاً، بحيث تسمح بفرجة قصيرة بين أقدامه، فتحرمه من الانطلاق، وتجعله يمشي ببطء شديد بسبب قيوده، وهو المؤهّل أن يجري ويسابق الريح! وكذلك بعض العلماء الذي تقيّدوا بالمذاهب، لعلّ بعضهم كان إماماً ربما يفوق إمامه مؤسّس المذهب بالاجتهاد والرأي.
لكنهم حَجرُوا عليه وقالوا: لا يحقّ لك الاجتهاد المطلق، أي مباشرة من الكتاب والسنّة بقواعدك الاستنباطيّة التي تختارها، بل لا بدّ من التقيّد بقواعد إمام المذهب، ولا يجوز لك مخالفة الإمام، بل تستنبط أقوالاً وتستخرجها من كلام الإمام!! وهو ما يُعرَف بالتخريج على قول الإمام.
والمشكلة المعاصرة التي نواجهها أنّ الواقع ضاق بأقوال المذاهب الأربعة، ولم تعد أقوالهم تسعف الواقع، واحتجنا إلى الخروج على أقوالهم إلى بعض اجتهادات غيرهم من السلف أو المعاصرين! لكن الخارج عن المذاهب الأربعة لا يسلم من الهجوم عليه، لأنّه خالف المذاهب الأربعة! الذين كثيراً ما يسمّونهم: (الجمهور)، بل بعضهم يسمّي اتفاقهم: (إجماعاً)، عملياًّ لا نظريّاً، فلا يقول: (المذاهب الأربعة) إذا اتفقوا يعدّ اتفاقهم إجماعاً لا يجوز الخروج عليه، لكنّه عمليّاً هكذا يفعل، فمن يخالف ما اتفق عليه المذاهب الأربعة، يقولون له: أنت تخالف (الجمهور) ومن يخالفهم فقوله (شاذّ مردود)!
مع أنّنا نقول: لو كان أئمة المذاهب الأربعة في زماننا لغيّروا من اجتهاداتهم، لتغيّر الواقع.
لكن الجامدين يرمون كلّ مخالف للمذاهب الأربعة بالشذوذ ويحذّرون منه، كأنّ الله تعبّدنا بهذه المذاهب فقط!
والجمود على أقوال السابقين يعطيها عصمة وقدسيّة لا تجوز لغير الوحي، كما أنّها تنافي أنّ الوحي لا تنقضي عجائبه عبر العصور!!
ناقشتُ مرّة أحد أساتذتي الراسخين في موضوع: (فتح باب الاجتهاد المغلَق)، فقال: “لا تتعب نفسَك بهذا الموضوع واجتهد، لا أحد يمنعك!”
وصدق أستاذي (إلى حدٍّ ما) فهذا ما يفعله بعض الفقهاء الراسخين، وبخاصّة في المجامع الفقهيّة، والكتابات الفقهيّة المعاصرة، والدراسات الأكاديميّة العليا، لكن عدم تعميم هذه الفكرة، أعني: (فتح باب الاجتهاد لكلّ من يمتلك المؤهّلات الممكنة والمعقولة ويبذل وُسْعه في اجتهاده) وتشجيع الجميع على ذلك، وترك الشروط التعجيزيّة، أقول: إذا لم نفعل ذلك فنحن نحرم أنفسَنا من طاقات كبيرة وجبّارة، فلو فتحنا الباب أمام المؤهّلين، وشجّعناهم لقدّموا لنا حلولاً للكثير من الإشكالات.
تجدر الإشارة هنا إلى (الشروط التعجيزيّة للمجتهد[1]) التي وضعها المصنّفون (في زمن الجمود الفقهيّ) وأدعو للعودة إلى زمن الازدهار الفقهيّ في القرون الخمسة الأولى، (وإن كان هناك طفرات مشرقة في القرون التي تلتها، لكنّها كانت كالاستثناء الذي يؤكّد القاعدة).
2-تكريس التقليد:
تم تكريس ثقافة التقليد عبر قرون (من القرن السادس الهجري إلى القرن الثاني عشر الهجري تقريباً)، حيث بنوا للتقليد منظومة فكرية متكاملة يشدّ بعضها بعضاً، من وجوب تقليد أحد المذاهب الأربعة، وإغلاق باب الاجتهاد، واعتبار الأخذ من أكثر من مذهب تلفيقاً غير مسموح به، والطعن بمن خالف هذا؛ بل السعي به عند الحكام وسجنه، وإغراء العامة بالاعتداء عليه، وربما وصل الأمر إلى السعي في قتله.
واعتقاد أنّ حل كل مشاكلنا والإجابة عن تساؤلاتنا موجود ومسطور في كتب التراث، لكن مشكلتنا بعدم العلم والاطلاع على كنوز التراث! فالأجوبة للتحديات المعاصرة كلها موجودة تحتاج من يستخرجها من كتب التراث.
3-الشروط التعجيزيّة للاجتهاد:
يمكن أن نتفهّم سبب إغلاقهم باب الاجتهاد بعد القرن الخامس، وذلك بسبب عدم وجود نوازل جديدة تُذكَر، لم ينصّ على حكمها القدماء، فالعصور تكاد تكون عصراً واحداً مكرّراً، لا جديد فيها!!
ففي عصر الازدهار الفقهيّ (القرون الخمسة الأولى) تفنّن فقهاؤنا بالاجتهاد والتصنيف والنصّ على حكم كلّ مسألة واقعة، بل تعدّوا واقعهم إلى افتراض مسائل لم تقع وأجابوا عنها، ومرّت عدّة عصور وهم يصنّفون، ثمَّ جاء زمن جمع هذه المادّة العلميّة وترتيبها وتصنيفها (زمن المتون)، فأغلقوا باب الاجتهاد الجديد، وهاجموا كلّ من حاول فتح ذلك الباب، وكان من وسائلهم في إغلاق ذلك الباب (الشروط التعجيزيّة) التي اشترطوها لمن يريد بلوغ (درجة الاجتهاد)، بينما كان الأصل أنّ كلّ فقيه مجتهد، فبمجرّد أن تكون فقيهاً فأنت مجتهد في استخراج الأحكام، حتّى اشترطوا الاجتهاد في المفتي والقاضي وحتّى الحاكم! ممّا يدلّ على أنّ صفة الاجتهاد ينبغي أن تكون منتشرة جدّاً.
ومما كرّس هذه الفكرة سيطرة سوء الظن بزماننا على العقل المسلم فدائما ما سبق خيرٌ مما سيأتي!
4-سوء الظنّ بزماننا:
مع الأسف بقيت أدبيّات ورواسب هذا الجمود إلى أيّامنا هذه، فلو سألت عن مجتهد في زماننا لضنّوا أن يشيروا إلى أحد!! فهل خلا زماننا من المجتهدين؟!
الحقيقة لا، لم يخل من مجتهدين، ففي زماننا الكثير من المجتهدين، وهم يمارسون الاجتهاد بتفاوت، بين درجات الاجتهاد (مطلق، مقيّد، بمسألة، بترجيح، بفتوى) لكنّها الصورة النمطيّة التي رسموها في مخيّلتنا للمجتهد الذي يحوز (منصب الاجتهاد!) فلا تنطبق على أحد!!
كما أنّ سوء الظنّ في زمان كلّ كاتب أو متكلّم سمة عامّة، والحنين للماضي المتخيّل وليس الحقيقيّ صفة عامّة في المتكلّمين والكتّاب، ولو رجعت إلى قدماء المصنّفين لوجدت ذمّ زمانهم والترحّم على السابقين، فمن هم أولئك السابقون إذا كان كلّ جيل يعيب زمانه!! وهذا من زمن الصحابة رضوان الله عليهم!!
الحقيقة أنّ كلّ زمان فيه الخير وفيه الشرّ، لكنّ الإنسان من إنكاره للواقع وتشوّقه لعالم المثاليّة (غير الموجود أصلاً) يهرب إلى المستقبل (المأمول)، أو الماضي (الجميل)!
وقديماً قالوا: (المعاصرة حرمان) وقالوا أيضاً: (المحروم من حُرم بركة أهل زمانه)، لكنّ العاقل يعرف قدر الرجال، فلا يحرمه القرب المكانيّ (مزمار الحيّ لا يُطرب) أو القرب الزمانيّ (المعاصرة حرمان)، فكثير من الأئمة ربّما كانوا في زمانهم لا يسمّونهم أئمة، ثمَّ أطلقوا عليهم لقب (الإمام) في العصور اللاحقة، والواقع أنّ عصرنا أفضل من العصور السابقة، من حيث انتشار العلم والوعي والقراءة والكتابة والتديّن الواعي، وتقلّص مساحة الخرافات والشعوذة والجهل والتقليد.
المنطق يقول: كلّ عالم يأتي بعد من سبقه، من المفترض أنّه اطلع على آخر إنجازات السابقين واكتشافاتهم وتطويراتهم، وهو بدوره يضيف عليها، فينبغي أن تكون معلوماته أنضج ممّن سبقه.
ولو رجعتَ إلى سِيَرِ أئمّة الاجتهاد ستجد أنّهم يتناقشون ويغيّرون آراءهم بعد الاقتناع، وبعضهم يغيب عنه نصُّ حديث، وبعضهم لا يستحضر آية قرآنيّة في الموضوع الذي يتحاورون فيه، فيذكّره الآخرون بالآية، ويعترف بعضُهم بضعفه في مجال ما (من أدوات الاجتهاد الأساسيّة) مثلما روي عن الإمام الشافعيّ أنّه طلب من تلميذه الإمام أحمد أن يساعده ويصوّب له ويذكّره لو خالف حديثاً نبويّاً، ويقول له: (أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فاعلموني حتى أذهب إليه، كوفياً كان أو بصرياً أو شامياً)(1) ولم يعترض أحدٌ على الإمام الشافعيّ رحمه الله ويقول له: فكيف تجتهد؟ وكيف تغيّر مذهبك؟ وكيف تخالف أستاذَك الإمام مالكاً؟ بل كيف تتجرّأ وتكتب ردّاً عليه!! إلا ما كان من بعض متعصّبي المذهب المالكيّ ممّن تعرّض للإمام الشافعيّ رحمه الله بالضرب المبرّح الذي تسبّب بموته رحمه الله!
فهل نحن في زماننا نقتدي بمن لم يعترض على الشافعيّ رحمه الله؟ أم نحن أشبه بذلك الأحمق الذي قتل الإمام الشافعيّ رحمه الله؟
كم نقتل من أئمة في زماننا، بمناهجنا التعليميّة السقيمة؟ كم نئِد من موهبة بأسلوبنا القاتل في معاملة من يجتهد ويحاول الإتيان برأي جديد؟!
5-آفة كتب المناقب:
وهنا يجب التنبيه إلى أنّك إذا أردت أن تنظر في سير العلماء المجتهدين وحياتهم وصفاتهم ومؤهّلاتهم العلميّة، فعليك أن تنظر في غير كتب (المناقب)، فتلك الكتب آفتها أنّها تقتصر على (المناقب)، وغالباً ما تتساهل في الروايات والمبالغات التي تجعل المترجَمين أقرب إلى الملائكة منهم إلى البشر، ممّا يخرجهم عن واقعيّة القدوة التي يمكن التأسّي بها، فالمباريات كانت حامية الوطيس بين أتباع المذاهب في جمع (مناقب أئمتهم) والحقيقة –مع الأسف- لا تُسعِف في مباريات ومزايدات (مدح الأئمة)، فإذا كان إمام المذهب المخالف يصلّي نصف الليل، فسنجعل إمامنا يصلّي الليلَ كلّه، وإذا كان إمامهم يفعل كذا، فسنأتي بروايات تجعل إمامنا يفعل أضعافَه، وإذا كان إمامهم يحفظ كذا فسنروي أنّ إمامنا يحفظ كذا وكذا أضعاف من ينافسنا.
لكنّ الذي يقرأ شروط المجتهد عند الإمام الغزاليّ رحمه الله في المستصفى – مثلاً – يرى الشروط المقبولة والمعقولة للمجتهد.
كما أنّ الصواب أنّ الاجتهاد يتجزّأ، فيمكن للباحث أن يجتهد في مسألة أو مجموعة مسائل، أو في باب فقهيّ ويبلغ فيه مرتبة الاجتهاد، وهذا ما يمشي عليه كلّ الباحثين في الدراسات العليا في أطروحاتهم العلميّة، أو بعبارة أصحّ: هذا ما ينبغي أن يمشي عليه كلّ الباحثين في بحوثهم.
المشكلة أنّنا بإغلاقكم باب الاجتهاد، لا يلتفت لكلامنا إلا الصالحون، أمّا من نخشى اقتحامه لهذا الباب من غير المؤهّلين، أو من يريدون هدم الدين من داخله، فلن يلتفت إلى كلامنا أصلاً، والواقع أكبر دليل، فنحن -عمليَاً- نمنع الصالحين والمتخصّصين، وعدم وجود الاجتهادات الجديدة التي تراعي الواقع، تدعو الناس لجعل الفقه الإسلاميّ وراءهم ظهريّاً.
كما أنّ عدم صلاحيّة بعض الاجتهادات القديمة للواقع تدفع الحكّامَ ورجال القانون لاعتماد أنظمة معاصرة غير إسلاميّة!
فلندعُ لفتح الباب للاجتهادات الجديدة، ولا نخشَ، فدين الله محفوظ، ((فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)) [الرعد:١٧].
ثانياً: انتشار السلفيّة الأثريّة:
بداية لا بدّ من تسجيل الإعجاب بالمدرسة السلفيّة التي خفّفت كثيراً من التعصّب المذهبيّ، وفتحت باب الاجتهاد، لكنّنا نأخذ عليها أنّها اقتصرت على منهج الحنابلة والمحدّثين الذين يغلب عليهم الظاهريّة في التعامل مع النصّ، وأهملت السلفيّةُ الاجتهاد المقاصديّ الذي انتهجته مدرسةُ أهل الرأي (الحنفية والمالكية)، كما أنّها تعصّبت لما رجّحته من المسائل الخلافيّة! فوقعت فيما ذمّته في غيرها!
يقولون: (لا تقل رأياً ليس لك به سلف)، وقد سألتُ عن هذا أستاذي الدكتور محمد الزحيليّ حفظه الله، فقال: “هذا القول ليس له سلف!”.
فجاءت المدرسة الأثريّة ذات المزاج الظاهريّ، وأعملت النصوص التي اعتبرها الفقهاء مخصّصَة أو مقيَّدة أو منسوخَة أو شاذَّة، لأنّها تخالف المبادئ العامّة التي جاءت النصوص الأخرى لترسيخها ومراعاتها، ودون مراعاة للسياقات العامّة التي رسّختها النصوص الكثيرة، فأصبح فقههم -غالباً- غير منضبط بمقاصد ومبادئ عامّة، فالأحكام عندهم تعبّديّة ليست معلّلة، فلا ينظرون لعللها ومقاصدها.
فهي تجعل النصوص التفصيليّة رائدَها، و-غالباً- لا يقومون بوضعَ نسق عام يضبط النصوص، بل يتعاملون مع كلّ حديث كأصل قائم بذاته، وبالتالي ففيه قوّة على معارضة غيره من المبادئ والقواعد العامّة! التي رسختها نصوص كثيرة.
بخلاف المدرسة التعليليّة المقاصديّة التي تجتهد في وضع أنساقٍ وقواعد، يستخرجونها من علل النصوص ومقاصدها، ثمَّ يجعلونها ضابطاً يرجعون له في فهم النصوص الجزئيّة الظنيّة الثبوت أو الدلالة، التي تخرج عن السياقات والمقاصد، فيقدّمون العمل بالقواعد العامّة على النصوص الجزئيّة التي تعارضها، وليس ذلك بالتشهي والتحكّم بل حسب اجتهادهم في فهم النصوص وعللها ومقصِد المشرّع.
طبعاً هنا لا نطالب بتجديد كلّ شيء، ففي الشرع أحكامٌ نصّ عليها الشارع الحكيم بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، أو قريبة من ذلك، وهي ما لا يتغيّر حسب الزمان والمكان، وهي من الثوابت التي لا يجوز المساس بها ولعلنا نتكلم لاحقاً عن ضوابط وقواعد إرشادية تبيّن ملامح التجديد الذي ننادي به[2].
[1] سيأتي الحديث عنها أيضاً ضمن عوائق التجديد.
[2] في بحث الإلحاد الجديد ومعالم التجديد الديني الستة.