أيّهما أهمّ: المفكّر أم الحركيّ؟[i]
خلال نقاشاتنا وحواراتنا كثيراً ما نسمع من يقول: إنَّ هذا الكلام تنظير.
ويقولون: ما أكثر المنظرين وما أقلّ العاملين.
ويقولون: هذا تنظير بارد، بعيد عن أرض الواقع.
ويقولون: عامل وحركيٌّ واحد على الأرض، خير من ألف منظّرٍ لا ينزل إلى ساحة العمل.
فهل فعلاً لدينا كمّ كبير من المنظّرين؟ وماذا نقصد بالمنظّرين؟ وهل العامل الحركيّ خير من المنظّر؟
لا شكّ أنّ الحركة بركة، والعمل واجب، وأنّ الإيمان لا ينفع ما لم يُشفع بالعمل الصالح، وأنّ التنظير يبقى كلاماً، ما لم يُترجم إلى واقع ملموس.
ولا ريب أنّ بعض الكُتّاب والمفكرين يجلسون في بروج عاجيّة، ويخاطبون الناس من علٍ، دون ملامسة لهمومهم، ودون اكتراث بمعاناتهم؛ فلا يتألّمون لآلام الناس، ولا يأملون آمالهم، ولا يحلمون أحلامهم..
لكن: هل هذا يسوّغ لنا أنْ نعمّم القول، بتفضيل العاملين على العلماء، والحركيّين على المفكّرين، والميدانيّين على المنظّرين؟!
وأن نهاجم كلّ منظّر أو مفكّر أو كاتب أو عالِم ينقد بعض ممارسات العاملين أو تصوّراتهم وأفكارهم؟ أو حتّى ينقض النظريّة كلَّها التي تأسّس عليها عملهم؟!
هل يُلام من يقدّم النصح والتوجيه؟!
هل يجب أن يطبّق الكاتب ما يقوله ويكتبه كلّه؟، حتّى فيما يخصّ الشأن العامّ في المجال السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ والحضاريّ؟! وهل يتأتّى له ذلك فيما لو أراد ذلك؟!
من المؤكّد أنّ الجمع بين التطبيق والتنظير أفضل، لكنّ الحقّ ينبغي أن يقال، وهو أنّ الجمع بين التنظير الدائم والحركة والتنفيذ، أمر لا يتيسّر إلا للنوادر من الرجال.
بل أزعم أنّه من المؤكّد أنّ جانباً سيتغلّب على جانب، عند من يجمع بين الحركة والتنظير، إمّا أن تغلب الحركةُ التنظيرَ، أو يغلب التنظيرُ الحركةَ، وهذا من الضعف البشريّ، فالكمال لله وحده، وحتّى يبقى بعضُنا يحتاج بعضاً، ولا نستغني، ففوق كلّ ذي علم عليم.
الحقيقة أنّ مَهمّة العالم والكاتب والمثقّف والمنظّر أن يقدّم أفكاراً وحلولاً، فينقد ما يراه منكراً أو خطأً أو قاصراً، حتّى إنّه قد ينقد الحسن لنفعل الأحسن، وينقد الصحيح لنفعل الأصحّ، وينقد الجيّد لنحرص على الأَجود، وينقد المناسب ويرشدنا للأنسب.
إذ يفترض أنّنا نطمح للتطوُّر والتميّز في عالَم يتنافس بالجَودة وفق أدقّ المعايير.
العالم يتنافس اليوم في امتلاك المعرفة والمعلومات والتقنيّة، وكلّها نتاج المنظّرين والعلماء والمفكّرين والمخترعين، سواء في الجانب التطبيقيّ المادّيّ أو في المجال الاجتماعيّ الإنسانيّ.
ونحن عندنا شحٌّ في المفكّرين والعلماء والباحثين، إلّا إذا اعتبرنا كلّ من يتكلّم وينقُد -ويهرف بما لا يعرف من عامّة الناس- منظّراً!
من مظاهر تخلّفنا نفورُنا من التخطيط والتنظير والتفكير والنقد، واندفاعنا للتنفيذ والحركة والعمل، فكم من أعمال ومشاريع انطلقت دون تفكير ودراسة وتخطيط كافٍ، فكانت النتائج كارثيّة، وكم من تفكير عميق وخطط رائعة لم تتحوّل إلى عمل وتنفيذ، فبقيت حبيسة الكتب والدراسات!
ومن مظاهر نفورنا من التنظير وصف (الفكر بالبرود) فنقول: (فكر بارد).
وهنا ملاحظة مهمّة ينبغي الانتباه إليها، وهي أنّ المفكّر ينبغي أن يميّز بين معرفة هموم الواقع وحاجاته، وبين أن ينغمس في العمل والتطبيق.
فعليه أن يبتعد عن الانغماس بالتنفيذ والعمل والحركة، فالواقع له تغيّرات ومشكلات وضغوطات، وإلّا عاش حال (طوارئ التنفيذ) فيتشوّش ولا يعود قادراً على الإبداع والتفكير الحرّ، وتصبح أفكاره تحت ضغط الواقع، فينقلب إلى ميدانيّ تنفيذيّ تستغرقه التفاصيل، وإطفاء الحرائق.
وهنا لا بدّ من أن يوازن بين رفرفة الفكر الاستراتيجيّ التنظيريّ، وواقعيّة الفكر التكتيكيّ التنفيذيّ.
ففي المعارك الكبرى يتركون القيادة العليا بعيدة عن ساحة المعركة، يحفظونها في مكان آمن، حتّى يفكّروا للمعركة بعيداً عن ضغطها.
ومن عجائبنا أنّنا نندب حظّنا، ونشكو قلّة مراكز البحث والتفكير، ثمّ نلوم من يتفرّغ ويكدّ في البحث والتنقيب والتفكير، وينتج لنا بحوثاً وكتباً رصينة..
فيندفع أحدهم وينعتها بالمعرفة الباردة..
وننسى أو نتناسى أنّ أصل كلّ حركةٍ ومشروعٍ وعملٍ فكرةٌ، فـ “وراء كلّ مشروع عظيم.. فكرةٌ عظيمة”.
وكثيراً ما تبقى كتابات بعض العلماء مهجورة غير منتفَع بها، وبخاصّة إذا كانت سابقة لزمانها، فالوعي بها يكون ضعيفاً في زمان كاتبها، ثمّ يأتي أوانها، وتعرف الأمَّة قيمتها، ومدى الحاجة إليها، فتقبل عليها، وتنتفع بها أشدّ الانتفاع، بل إنّ بعض الحركيّين يستفيدون من كتابات المنظّرين، ولا يعلنون ذلك!
قد يقول قائل: لكنّ الكُتّاب والمنظّرين عندنا كثيرون، فما أكثر المنظّرين عندنا، وما أقلّ العاملين!
فنقول: هذا الكلام غير دقيق، فكثيراً ما تعترضنا مشكلات وعقبات وتحدّيات تحتاج إلى منظّرين، يقدّمون فيها حلولاً فتكاد لا تجد أحداً، -دعك من الثرثارين ممّن يهرفون بما لا يعرفون- ممّن لو طبّقتَ كلامهم لازداد الأمر سوءاً.
ثمّ إنّ إحصاءات إنتاج الكتب وطباعتها وقراءتها في عالمنا العربيّ تشير إلى أنّنا في ذيل أمم الأرض، هذا من حيث الكمّ.
أمّا من حيث النوع فحدّث عن البحر ولا حرج، فالتكرار يكاد يكون السمة العامّة للكتب، كأنّنا تعاهدنا ألا يخالفَ بعضُنا بعضاً في أفكارنا وأطروحاتنا.
إذن لا يقلّل قدر العلماء والمفكّرين والمنظّرين إلّا مخطئ، ها هي الحكومات المستبدّة تتعامل بحزم مع كلّ صاحب قلم حرّ، لأنّها تعرف (قوّة تأثير الكلمة) ويعرفون أثر الفكر في التغيير.
بصراحة: الذي نحتاجه حقّاً هو: تلاحم العلم مع العمل، والمنظّرين مع الفاعلين، والمختبَر مع المصنَع، والمهندس مع المنفّذ، فينطلق العمل من عقول العلماء والمفكّرين إلى أرض الميدان، ويعود الحركيّون دائماً إلى العلماء والمفكّرين بنتائج أعمالهم ليعدّل العلماء والمفكرون المسار ويصوّبوا ويصحّحوا ويطوّروا، فيحصل الإبداع والتميّز، فلا بدّ من تحالف أُولي الأيدي مع أولي الأبصار.
[i] هذا المقال مقتبس من كتاب بصراحة
تحت عنوان فقيه أم مفكّر؟