هناك إعصار فكري يجتاح منطقتنا الإسلامية إعصار يحمل أدوات النقد والهدم، فما كان محظوراً الكلام فيه من قبل، أصبح حديث المجالس، لعدة أسباب منها ظهور الإعلام الاجتماعي الذي أتاح لكل أحد الكلام دون أي تكلفة أو رقابة.
ومن أسباب ذلك: الثورات وظهور نماذج إسلامية تنظيمية وعلى شكل دول بل ظهرت الخلافة نفسها كما أعلن تنظيم الدولة.
ولم يعد الخطاب الديني التقليدي يجيب على الأسئلة الجديدة فسياسة عدم إثارة الفتن لم تعد تجدي، فالفتن فتحت أبوابها من كل جهة,
وعلى الخطاب الديني أن يتطور وذلك (شكلاً ومضموناً)، وهذا يستلزم نوعان من التخصص الديني.
أولهما: الفقيه المفتي.
وثانيهما: الداعية المثقّف.
لأن حاجات الناس إما لجواب سؤال فقهي، أو محاضرة فقهية، فيتوجهون للفقيه المفتي.
وإما يحتاج الناس لسماع كلمة توجيهية إصلاحية، وإما لسؤال ثقافي، فيتوجهون للداعية المثقّف، فهما مجالان واضحان.
وأقترح أن يتسلّم الفقيه الإمامة في المسجد، ليحتكّ بالناس يومياً في الأوقات الخمسة، فيراجعه الناس بما يحتاجون.
بينما يتسلّم الخطيب التدريس في المدارس فيحتك بالطلاب على مدار الأسبوع، وخطب الجمعة، فيكون في كل مسجد شخصان: (فقيه مجتهد) وأقصد بالاجتهاد: الملكة الفقهية التي تؤهّل الفقيه للنظر في المسائل وأدلتها، واختيار ما يناسب الوقائع.
والشخص الثاني: (الخطيب المثقّف) الذي يبني ثقافة راسخة تؤهّله لأن يصبح صاحب نظرة نقدية إصلاحية، ترتفع به لمقام الداعية المفكّر.
وكل تخصص من هذه تحتاج بناء علمياً يختلف عن الاختصاص الآخر، ويبقى الاثنان متفرغان لبناء نفسيهما علمياً وتطويرها طول عمرهما، وحضور الدورات وورشات العمل والمحاضرات، التي تضمن دوام نموّهما بما يكافئ التطوّر العلمي في كل مجلات الحياة.
فيكثر الفقيه من القراءة في الفقه المقارن والفتاوى المعاصرة، والمجلات الفقهية المتخصصة، ويطلع على قرارات ونقاشات المجامع الفقهية في القضايا المعاصرة، ويقرأ في المجال الذي يفتي به من العلوم الأخرى ويستشير المتخصصين حتى يفهم الواقع فـ(الحكم على المسألة فرع عن تصورها) كما يقول علماؤنا..
بينما يركّز الداعية المثقّف على تكوين ثقافة شاملة عبر قراءة في التيارات الفكرية المعاصرة والمذاهب العقدية والنظريات الإصلاحية النهضوية، وآخر الأطروحات الفكرية والفلسفية.
ومن المفيد هنا من أن يتخصص كل واحد منهما باختصاص دقيق عبر الدراسات العليا، (الماجستير والدكتوراه) وذلك ضمن خطة وتنسيق مسبَق مع زملائه حتى يغطوا أهم التخصصات في كل منطقة، ليلبوا الحاجات العلمية لمنطقتهم، ولا يكرروا بعضهم، ومن الجيد في هذا السياق أن يدرس المرء تخصصاً شرعياً وتخصصاً دنيوياً فيصبح مرجعاً شرعياً لأهل هذا التخصص العلمي فيدرس مثلا الطب والشريعة فيصبح مرجعاً في المسائل الطبية الشرعية وهكذا..
ولا يحقر أحدُهما اختصاص الآخر(أقصد الفقيه المفتي والداعية المثقف)، فهما يكملان بعضهما بعضاً، فبعد صلاة الجمعة –مثلاً- يجلسان سوياً للإجابة عن أسئلة الحاضرين، كلٌ حسب اختصاصه.
وخلال الأسبوع يحيل كلٌ منهما للآخر الأسئلةَ التي تتعلق باختصاصه، ولا يستحي أحدُهما من عدم الإجابة، بل نعوّد الناسَ على احترام التخصص، كما في كل شؤون الحياة.وهكذا يطير الدين وينتشر في المعمورة عبر هذَيْنِ الجناحينِ القويينِ: الفكرُ والفقه.