تتداول المواقعُ الإلكترونية قصةَ ديك مفادها: أن ديكاً طلب منه صاحبُه تركَ الأذان فجراً وإلا ذبحه.. فتركه مسوّغاً ومبرراً ذلك بفقه: (الضرورات تبيح المحظورات) وأن غيره يقوم بهذه المهمة ومن السياسة الشرعية الإبقاء على نفسي..
وبعد مدة طلب منه تقليد صوت الدجاج.. وإلا ذبحه.. فقلد صوت الدجاج.. وبعدها طلب منه أن يبيض وإلا ذبحه..
فقال الديك: ليتني ذُبِحْتُ وأنا أؤذن ولم أقدّم هذه التنازلات.. متعللاً بفقه الضرورات..
ويخلص كاتب القصة إلى أنّ التنازلات آخرها سيئ جداً والأَولى الصلابة على المبادئ وعدم تقديم التنازلات!!
****
لاشك أن هذه القصة لا تخلو من فائدة.. في تعاملاتنا الفردية اليومية والثبات على المبادئ وعدم بيع الدين لشيء من الدنيا رخيص.. فهي قصة رمزية تصلح لمن يقدِّم التنازلات لأتفه الأسباب دون داعٍ ودون حساب..
ولكن في تعميم هذه القصة على كل الأحوال خطرٌ كبير..
حيث أنها تنسف علم السياسة الشرعية وعلم الموازنات بين المصالح والمفاسد.. وفقه الحال والمآل..
ولا أريد أن أقول: إن هذه القصة تسخر من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة للقواعد الفقهية التي تؤكد فقه الضرورات والموازنات والمآلات..
وتَنْصُر هذه القصة منهج الغلاة والجامدين والمزاودين الذين يحلمون بهدم الواقع كله وإقامة واقع آخر كما يتخيلون!!
ومن العجيب أن الموازنة بين المصالح والمفاسد في الشأن الدنيوي الخاص يتعامل به العقلاءُ كلهم -في كل الدنيا- وبكفاءة عالية..
فإذا جاء بعض المتدينين لأمور الدين عطّلوا هذا المبدأ.. متصورين أنّ الدين مجموعة مبادئ جامدة.. لا تراعي ضرورةً ولا واقعاً ولا حاجةً ولا اعتبار له للمآلات ونتائج الأفعال!!
مع أن المتأمّل في السنة النبوية يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة كان يراعي التدرج ويراعي المصلحة حتى يصل لأهدافه ولا يتصلّب في مواقفه مادام الأمر فيه سعة.. فما خير عليه الصلاة والسلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً..
لكن المشكلة في الجامدين أنهم لا ثقافة لهم ولا خبرة بعلم الاجتماع البشري وسنن التغيير والإصلاح، فلا يمكن تنزيل أفكار إصلاحية على أرض الواقع، دون دراسة لذلك الواقع، فالمبادئ لا تنزل على فراغ، لأنك تتعامل مع بشر لهم رغبات وعواطف وعقول وإرادات حرة وحينما تريد إصلاحهم لا بد من التدرج معهم.. وإلا كان تغييرك للمظاهر دون الجواهر.. للأشكال دون الأشخاص.. وستوجِد مجتمعاً منافقاً لا مجتمعاً فاضلاً.. فالأديان جاءت لإصلاح الإنسان..