تحصيل المَلَكة
لا يُكتفى بتكديس المعلومات، بل باكتساب مَلَكة ذلك العلم، فأسمى ما ينبغي أن يطمح إليه طالب العلم هو تحصيل الملكة في التخصّص العلميّ الذي يدرسه. والمقصود بـ (المَلَكةِ): عقليّة ذلك العلم، وصَنعته، وحِرفته، وإتقانه.
فلا يكفي حفظ قواعده وفهم مسائله –وإن كان لا بدّ من ذلك– لكن الهدف والمقصود هو تحصيل ملكة العلم: وهي القدرة على تطبيق قواعده، والنقد، والترجيح، والإبداع فيه.
الملكة هي تحصيل المهارة والتذوّق، وامتلاك عقليّة ناقدة مبدِعة في ذلك العلم، بحيث يستطيع العالم من خلال تلك الملكة:
- حفظ المسائل بسرعة.
- فهمها وتقويمها.
- إلحاقها بنظائرها.
- إدراجها تحت قواعدها.
- تقويم الأقوال في المسألة أو القضيّة التي يدرسها.
- الترجيح بين وجهات النظر.
- بل واشتقاق واجتراح أقوالٍ جديدة إن أمكن.
والسؤال الآن:
هل هذا الهدف في قائمة الأولويّات لدى مؤسّساتنا التعليميّة عموماً، والشرعيّة خصوصاً؟
واقع التعليم:
الواقع يُظهر أنَّ الهمّ الأوّل هو تحفيظ مسائل العلوم.
والمحفوظات –بطبيعة الحال– لا آخر لها، لكثرة المصنّفات!
وقد سبق تنبيه العبقريّ ابن خلدون رحمه الله بقوله:
“إنّ كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل”.
فعمليّاً، كثير من المعلّمين غافلون عن هدف العلم الذي تخصّصوا فيه، منشغلون بجمع المعلومات وحفظها، ويشغلون طلابهم بها.
وهم لا يفعلون ذلك بسوء نيّة، بل بنيّة طيّبة، ويظنّون أنهم بذلك يزيدون علم تلاميذهم.
الهدف الحقيقي:
ليس هدف العلوم حفظ الأقوال والحجج، بل تحصيل (العقليّة والمَلَكة) في ذلك العلم، حتّى يصبح المتعلّم مؤهّلاً لإبداع أقوال جديدة، أو الاجتهاد في موافقة أقوال سابقة، لا نقلاً وتقليداً.
وهذا هو الفرق بين الحافظ، وبين من يملك الملكة!
طبعًا، هذا لا يلغي أهمّيّة الحفظ؛ فحفظ المعلومات شيء لا بدّ منه، وهو أساس كلّ علم.
لكن ما نريد تأكيده هو: عدم الاقتصار عليه.
من سلّم “بلوم” إلى بناء الملكة:
ينبغي الانتقال من الحفظ المحض إلى بقيّة مستويات التفكير التي ذكرها (بلوم) في سلّمه الشهير:
- الحفظ
- الفهم
- التطبيق
- التحليل
- التركيب
- التقويم
- الابتكار
وهنا ننبّه إلى أنّ:
أدنى مهارات التفكير: الحفظ والتذكّر،
وأعلاها: الابتكار.
ففرق كبير بين:
- من يحفظ ويفهم ويطبّق ويحلّل ويقوّم ويبدع، ويصبح منتِجًا للمعلومات.
- وبين من يكتفي بالحفظ فقط!
مشهد من الواقع:
تجد الكثير من “حفَظة العلوم”:
- يعيد المفردات والمصطلحات نفسها،
- بل حتى الكلمات التي حفظها!
- ولا يقوى على استبدالها بألفاظ أخرى!
وهذا دليل على عدم تمكّن المعاني والفهم العميق، فيبقى الحافظ أسيرًا للألفاظ، مخافة تغيير المعاني التي لم يهضمها!
بينما:
- صاحب الملكة قد تغيب عنه بعض المعلومات،
- لكنه قادر بعقليّته أن يستدركها باجتهاده،
- فعقله، بما ملك من قواعد ومنطق تفكير،
كأنّه أصبح مولّدًا لفروع ذلك العلم،
وأضحى منظّرًا فيه.
وهذا ليس مستحيلاً، بل ممكن بالتدريب والممارسة.
الرد على اعتراض شائع:
قد يقال:
“مستوى التلاميذ ضعيف، فلا تكلّفوهم فوق طاقتهم، وكثير من أساتذتهم لا يستطيعون ذلك!”
والجواب:
الحلّ يكمن في:
- إصلاح المناهج،
- جعلها تراعي (بناء الملكة)،
- اعتماد التطبيقات والتدريبات العمليّة منذ المراحل الأولى،
- تدريب المدرّسين عليها.
عندها، سيدهشنا الأساتذة مع تلامذتهم بقدراتهم ومهاراتهم.
ثمرة بناء الملكة:
لو ربّينا طلابنا على تحصيل المَلَكة:
- سيعرفون قدر العلماء الكبار،
- سيوقّرونهم أكثر بكثير،
- سيفهمون المنزلة التي بلغها هؤلاء العلماء، حين أتوا بتلك العلوم الراسخة.
توجيه تربوي:
علينا أن نوجّه تلاميذنا النابهين لهذا الهدف الأسمى:
بناء الملكة.
ومن قصرت همّته أو استعداده عن بلوغ تلك المرتبة –بعد السعي والمحاولة–
فليكتفِ بما وصل إليه بحسب جهده،
فهذا خيرٌ ألف مرّة من حبسهم في سجن الحفظ فقط!
ولا نشترط في التدريبات صواب الجواب دائمًا؛
ففي الرياضيات –مثلاً– يُعطى التلميذ درجات على خطوات الحلّ السليم،
حتى لو أخطأ في النتيجة، لأن المقصود بناء المهارة، لا مجرد حفظ الناتج!
فلماذا لا نعتمد هذا في علومنا الشرعيّة؟
لماذا نُدرّس المعلومات فقط، ولا نُنمّي “ملكة التطبيق” في تلك العلوم؟
مثال تطبيقي من العلوم الشرعيّة:
- العقيدة:
هدفه: بناء القدرة على الحِجاج، والبرهنة على العقيدة، والدفاع عنها وفق ثقافة العصر. - التفسير:
هدفه: التدبّر، الترجيح بين الأقوال والروايات، وتفسير القرآن بما يلائم الواقع، لا نقلاً فقط. - مصطلح الحديث:
هدفه: الحكم على الحديث قبولًا أو ردًّا (تصحيحًا، تحسينًا، تضعيفًا). - الفقه وأصوله:
هدفه: امتلاك مهارة الاجتهاد، بأنواعه (المطلق، المقيد، الباب، المسألة، الترجيحي). - علوم العربية:
هدفه: تذوّق اللغة، وفهمها، وامتلاك أفضل أسلوب عربي للكتابة والتعبير.
إشكال جوهري:
لماذا في التعليم الشرعي:
- نخرّج تلميذًا لا يجرؤ على استخدام عقله في حكم على مسألة حادثة،
- ما لم يجد النصّ جاهزًا في كتاب قديم؟!
عندما يتّضح الهدف، تسهل الوسائل.
والأمر ليس صعبًا، فالتعليم الحديث:
- يدرّب الطلاب على تحليل الشعر،
- وعلى كتابة الإنشاء الإبداعي،
- وعلى حلّ مسائل جديدة في الكيمياء والفيزياء والجبر…
لم تمرّ بهم حرفيًا، لكن تمرّنوا على القواعد.
الختام بسؤال:
فلماذا لا تكون امتحاناتنا الشرعية مثلها؟
تعتمد اختبار ملكة الطالب وتمكّنه من العلم،
لا اختبار ذاكرته فقط!
وبخاصّة أن عصرنا:
- مليء بالمستجدّات والنوازل التي تتطلب نظراً جديداً.
- ومليء بفيض المعلومات المتضاربة، التي تحتاج إلى ترجيح.
والترجيح لا يصحّ إلا لمن امتلك الملكة…
فهل نبدأ الإصلاح من هنا؟
هذا المقال جزء من كتاب مقدمات منهجية من سلسلة من التكديس للفاعلية