ما زال كثير من نخبنا العربية من الإسلاميين المنحدرين من خلفية يسارية أو من التوجه الإسلامي الصرف، مولعون بنقد الحداثة أو الرأسمالية أو (الحضارة الغربية) بين قوسين، وهو ترف فكري لم يعد له كبير فائدة في أيامنا، لأن هذا الخطاب استفرغ أغراضَه وأدّى دورَه، فلم تعد الأكثرية مبهورة بالغرب كما كانت في بداية القرن الماضي، فالكتابات الإسلامية في بداية القرن الماضي كانت دواء لتخفيف حالة الانبهار بالغرب أمام تخلّف دولنا، لكن هل من الصواب الاستمرار بهذه الاستراتيجية (التركيز على نقد الحداثة) إلى ما لا نهاية؟ أما آن لنا أن ننتقل إلى خطوة ثانية؟
لأن الحداثة ليست منتجاً غربياً خالصاً، فالإنسانية كلها ساهمت بصناعتها، وإن كان للغربيين نصيب الأسد! إلا أن ذلك لا يلغي مساهمات بقية العقول (التي لطالما بكينا هجرتها)، هاجرت وساهمت في نهضة الدول المتقدمة وما تزال تساهم، فالدول المتقدمة هيّأت بيئة حاضنة للتطور.
والنقد للحداثة كان أعمقه وأقواه من كتّاب غربيين أصلاً، إما ينقدون بدافع النقد الذاتي بهدف تطوير وتصحيح ما يرونه من أخطاء، وإما انطلاقاً من مخالفة إيديولوجية للفكر السائد كيساريي الغرب مثل: نعوم تشومسكي وغيره، ومثل عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- عندنا.
وما نخبنا أو أكثرهم إلا مترجمون لهذه الانتقادات، ونقد الحضارة الغربية في كثير منه نوعٌ من التعويض عن مركّب النقص عندنا! وبين قوسين: فإن أفضل من نقد الرأسمالية هو ماركس في كتابه: (رأس المال) لذلك يطرب الإسلاميون لنقد اليساريين للرأسمالية الغربية، وبالمقابل يرفضون الشيوعية والاشتراكية، ويقولون: عندنا نظرية ونظام اقتصادي خاص.. يجب أن نستخرجه.. ونحن ننتظر إخراج هذا النظام الفريد!
فتجد كتابات جاءت بالنظرية الرأسمالية أو الاقتصاد الحر ووضعت له طربوشاً إسلامياً. وكتابات أخرى جاءت بالنظرية الاشتراكية ووضعت لها طربوشاً إسلامياً أيام ازدهارها، وكتابات أخرى تلفق بينها.. ولعلّ الصواب مع الفريق الثالث، فالحل مركّب بين النظريتين، فالأصل اقتصاد حر مع مراعاة حقوق الضعفاء وضمانها بتدخّل الدولة الذي يقيّد طمع وجشع الأقوياء ويحمي الضعفاء.
الاعتراف بدلاً من الهجاء: المطلوب الاعتراف بجوانب القصور والتخلّف في بلادنا وجوانب الإشراق والإحسان في ديارنا، وبالمقابل الاعتراف بتطورهم عنا في كثير من المجالات وافتقارهم وانحرافهم في جوانب أخرى. بدلاً من أن ننهال عليهم نقداً وذماً دون إنصاف،
فلا نحن استفدنا من تجاربهم فيما أجادوا فيه، ولا طوّرنا أنفسَنا فيما قصّرنا فيه، كقول ذلك الأعرابي: (أوسعتهم شتماً ومضوا بالإبل)، فالهجاء لا يغيّر من الواقع شيئاً. حالنا كالمدير الذي تراجعت شركته الكبيرة، فجمع تقاريراً عن أخطاء وعثرات الشركات الناجحة المنافسة التي تفوّقت على أرض الواقع وحققت النجاحات، واجتمع مع موظّفيه وبدأ يذكر لهم عيوب وسلبيات الشركات المنافسة، ليستعيدوا الثقة بشركتهم ويحتقروا المنافسين!
هل هذا المدير يحسن لشركته وموظفيه؟ أم أنه يخدع نفسَه وأتباعَه؟ إنّ الرائدَ ينبغي ألا يكذبَ أهلَه، فعلى المدير أن يعترف بتراجعهم أولاً ثم يبحث عن أسباب الفشل ويعالجها، ويبحث عن عوامل نجاح الآخرين فيستفيد منها، ويخطط للنهوض مرة أخرى، ويشجّع موظفيه ويثير فيهم الحماسة، ويقنعهم بإمكانية استئناف النجاح والعودة، إنْ استفادوا من خطط المنافسين، فأخذوا المناسب منها وطوّروا أساليب ووسائل أخرى، حتى تنهض الشركة مرة أخرى وتحقّق نجاحات جديدة، وتصل لدرجة المنافسة لغيرها بإذن الله تعالى. وهذا يحتاج جهداً ووقتاً واهتماماً كبيراً، لكننا نستسهل الأمور، ونكتفي بهجاء الآخرين، وكأنّ الهجاء سيعيد لنا الماضي الجميل! هيهات هيهات!
إنّ إدمان ذمّ الحداثة ومنتجاتها له أثرٌ سلبي على الأمم المتخلّفة، وهو أنه يمنعها من مصدر هام من مصادر المعرفة ألا وهو الاستفادة من التجارب والخبرات البشرية المتطوّرة.
الاستفادة من الآخرين: قديماً قال إمبراطور صيني: “النجاح يبدأ بالتقليد الأعمى، ثم بالتقليد المبصِر، ثم يأتي الإبداع”. ونحن بما توفّر في عصرنا من علوم ووعي ووسائل نقل للمعلومات لا ننادي بالتقليد الأعمى، بل (بالتقليد المبصِر) بداية، التقليد الذي يفهم ويميّز ويختار من وسائل وأدوات وعلوم وأفكار الأمم المتقدمة (التجارب البشرية) ما يناسبنا، التقليد الذي يعدّل ويطوّر ما لا يناسبنا. وحتى نطمئن فإنّ التعديل سيحصل -لا محالة- فعندما نكتفي باستيراد الأشياء الجاهزة فقط، سنقع (بالتقليد الأعمى)، لكننا ننادي (بالتقليد المبصِر) ولا يحصل ذلك إلا إنْ بدأنا ننتج ما نحتاجه بما يناسبنا.
الاختلافات بين الشعوب: ومما يجدر التأكيد عليه أنّ المواصفات الخاصة بنا ليست فروقات جذرية بكلّ شيء، بل الإنسانية تشترك بأكثر من 80 % من الحاجات والقيم والعادات والأفكار، وتختلف ببعض الأشياء التي تتأثّر بثقافتهم وبيئتهم. وهذه الاختلافات ليست كلها بسبب الدين، بل كثير منها يرجع للعرف ولتأثير البيئة والتجارب التاريخية للأمم، وهذه الأشياء المحلية ليست ملزمة لنا كما لا يخفى، ولتوضيح الأمر أكثر أقول: الإسلام جاء بقيم عامة وأحكام ثابتة لكل زمان ومكان، ولم يأت ليعمّم عادات وتقاليد بيئة على بقية البيئات، فالذي تأثّر به المسلمون في كل الكرة الأرضية (من تعاليم الإسلام)، والقاسم المشترك (من تعاليم الإسلام) بينهم في كل الأرض هو الذي يمثّل جوهر الدين، وما يختلف به المسلمون من عادات وتقاليد وغيرها، فهذا ليس من الدين في شيء، فمشروعنا الإسلامي ليس تعميم العادات والتقاليد العربية على البشرية! ولنضرب مثالاً يزيد توضيح الفكرة: اللباس له أشكال وألوان في العالم الإسلامي، والقاسم المشترك بينها هو ستر العورة وهذا هو أهم الواجبات إسلامياً (ستر العورة)، أما ما اختلفت فيه البيئات من أشكال وألوان الألبسة فكلّها مباحة، وهي راجعة لتأثير بيئة تلك المناطق وأعرافهم وأعراقهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهو أمر متسامح فيه ما لم يكن فيه محرم (كلباس الحرير للرجال) فأهم شيء في اللباس هو ستر العورة. ومثلها البيوت، فبيوت المسلمين في كل العالم مختلفة اختلافاً عظيماً، وذلك حسب بيئة تلك البلاد ومناخهم والموادّ المتوفّرة عندهم وأذواقهم، فلم يُلزمهم الإسلام بنمط معين أو شكل خاص؟!!
فلم يأتِ الإسلام بأشكال خاصة لبناء البيوت، وإنما جاء بتعاليم عامة كأن تحفظ حقّ جارك، ولا تعتدي عليه ببناء بيتك، ولا تبني على أرض ليست ملكك، أما ستر العورة فليس شرطاً أن يحققّ البيتُ ذلك، فستر العورة يتحقق باللباس، فلا يشترط في البيت أن يستر العورة! فلو افترضنا أنّ إنساناً سكن بيتاً له سقفٌ وليس له جدران، لجاز له ذلك، ويجب عليه ستر عورته باللباس أو الغطاء.. حتى المساجد ليس لها مواصفات خاصّة، فالمهم أن يكون هناك مكان يجتمع فيه المسلمون لأداء صلواتهم واجتماعاتهم ودروسهم وخطبهم، ورحم الله الخليفة الزاهد عمر رضي الله عنه، قال يوصي من يريد بناء مسجد: (أكنّ الناس ولا تحمّر أو تصفّر فتفتن الناس) أي أظلّ الناس ولا تزيّن المسجد بالألوان الصفراء والحمراء وغيرها فتشغل الناس وتفتنهم، والفاروق عمر رضي الله عنه هو نفسه عندما زار بلاد الشام وهمّ بالإنكار على المسؤولين للتفاخر بأبنية المساجد، أقنعه المسؤول هناك أنّ الناس في بلاد الشام يرون عظمة الكنائس فيريد ألا يظهر الإسلامُ ضعيفاً، فسكتَ الفاروق!
يمكن أن نقول إنّ تعاليم الإسلام تظهر على أبنية المسلمين بتجنّب الصليب والتماثيل لذات الأرواح، وتعتمد بدلاً عنها الزخرفة النباتية والهندسية.. متأثرين بتعاليم الإسلام التي تحرّم ذلك، وهذا أمر طبيعي، لكن لو جاء قوم كالفُرس وتفننوا بالفسيفساء في مساجدهم هل نقول لهم: عليكم التزام نمط آخر في أبنيتكم وزخرفتكم؟!! فكلّ بيئة تبني كما هي أنماط أبنية بلادهم مراعين ظروفهم البيئية، ومواد بنائهم الأساسية، وذوقهم العام، وقد فعلها المسلمون تلقائياً دون وجود لأحكام فقهية متنطّعة أو مبالغة تتدخّل بشكل البيت وصفاته! والذي يهمنا هنا البيوت الحديثة هل هي منافية للإسلام؟!! أو هل هناك مدينة إسلامية وبيوت إسلامية وبنايات إسلامية كما يروّج بعض المثقفين؟ أعتقد أن الإسلام لا يتدخّل بهذه التفاصيل، بل يقول لك: اجتهد واختر البيت والنمط الذي يحلو لك فهذا داخل تحت المباحات. والمسلم الحريص سيضع وحده السواتر والستائر التي تحفظ عليه ستر العورات، كما أنه سيراعي ذلك بالتصميم والتخطيط، حتى يرتاح من ستر العورة باللباس والأغطية، ولأن فطرة الإنسان أنه يحب أن يأوي إلى بيت يحميه من الحر والبرد ويحجبه عن أعين الناس، ويحقّق له الخصوصية.
بعض الأطروحات المتشنّجة من منتجات الحداثة ومفرزاتها توهمك أنّ: الإسلام معادلة كيميائية صعبة التطبيق، بل مستحيلة، لأنّ قيم الحداثة مغروسة في كيمياء منتجاتها، وتحتاج أن تعيد تذويب المنتجات وأن تشكّلها من جديد كما تملي عليك الفلسفة الإسلامية –بزعمهم-، وعليك أن تكون حذراً فلعلّ (جُزَيْئاً) هرب منك من قيم الغرب -المتسربة في منتجاته- ولم تستطع تفكيكه وإبعاده؟!! بينما الأمر أسهل من ذلك وأهون، وقد استفاد الصحابة الكرام من كلّ الحضارات دون شعور بالدونية أو الانبهار. كما أنّ المسلمين الجدد لم يهدموا بيوتهم ليبنوا بيوتاً إسلامية! الدوّامة: هذه الأطروحات تدخلنا في دوامةً لا مخرج منها، و(تضع العِصِيَّ في العجلات) كما يقال، فندخل في مأزق لا مخرج منه، فلا نستطيع التقدّم ولا التأخّر. المشكلة في هذه الأطروحات أنك تطالبهم بحلّ، فيقولون لك: تعايش مع الواقع فلا بدّ أن نجد حلاً.. وما زلنا ننتظر الحل، وتمضي الحياة قدماً وتتلبّس بمنتجات الحداثة أكثر وأكثر، وهم ينقدون دون حلول واقعية عملية!
الحقيقة أنّ إسلامنا جاء بقيم وأحكام تفصيلية ثابتة فيما شأنه الثبات كالأحكام التي تتعلق بالأفراد كالعقائد والتصورات والعبادات وأحكام الأسرة والمواريث، وجاء بتعاليم وأحكام عامة مرنة فيما شأنه التطوّر والتغيّر كقضايا الشأن العام كالنظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي والسياسي، وترك للبشر أن يطوّروا أنظمة اقتصادية واجتماعية وسياسية لأنفسهم مراعين تعاليم وأحكام دينهم العامة في ذلك الشأن.
أما في مجال الوسائل والأدوات والأنظمة فالباب مفتوح على المصراعين للاقتباس والاستفادة من تجارب البشر وعلومهم واختراعاهم بما هو مباح، لأن الأصل في كل ذلك الإباحة حتى يأتي (أمر أو نهي) فيتحوّل المأمور به إلى مندوب أو واجب، ويتحوّل المنهي عنه إلى مكروه أو حرام، حسب درجة الأمر أو النهي وضرورتهما. وهذه الأوامر والنواهي هي التي تعطينا هويتنا و(بصمتنا الخاصة)، فنجري التعديلات على منتجات الحداثة، بأن نطالب بمواصفات خاصّة بنا، قبل استيراد شيء من منتجات الحداثة أو بعد استيراده (إنْ لم ننتبه لما لا يناسبنا) لو ظهرت لنا سلبياته فيما بعد! وهذا حاصل بطبيعة الحال فحتى لو استوردنا شيئاً يخالف هويتنا وذوقنا فقانون السوق الطبيعي في (العرض والطلب) سيجعل غالبية المستهلكين الذين يراعون هوية مجتمعاتهم يُقْبِلون على نوع يراعي هويتهم، وتكسد سُوْقُ النوع الذي لا يراعي هويتهم، وبالتالي سيضطر التجار والصنّاع لترك ما لا يراعي بيئتنا والإتيان بما يراعيها.. فالموضوع ليس (مفاصلة) مع منتجات الآخرين بل إصلاح طبيعي متدرّج لمنتجات الحداثة، وتأقلم مع بعضها أيضاً، فالحضارات تتفاعل وتتناقح.
الحداثة والفطرة: حتى تكون دعوةُ الإخوة -الذين يحذّرون من منتجات الحداثة الغربية المتلوثة بالقيم المخالفة للإسلام- واقعيةً عملية مفيدة ندعوهم لذكر المحذورات وتحديدها وليقدّموا حلولاً واقعية، حتى نراعيها في إنتاجنا واستيرادنا (في الحسيّات والمعنويات والأنظمة) ولا يطلقوا الكلام إطلاقاً. كما نطالبهم بأن يكونوا واقعيين موضوعيين منصِفين في تقييم سلبيات الحداثة فكثير مما يذكرونه من عيوب موجود في مجتمعاتنا الشرقية وفي منتجاتنا القديمة والحديثة، فكثير من عيوبنا الاجتماعية والخلقية والسلوكية كانت موجوداً قبل هذه المنتجات الغربية، فلا ننظر لسلبياتها فقط بل لإيجابياتها أيضاً. فعندما ينقدون حبّ المال وتكديسه وتحقيق الأرباح ومحاولة تقليل أجور العمال ورفع الأسعار، ومثل هذه المعاني هذا ليس خاصاً (بالرأسمالية الغربية) بل هذا في فطرة الإنسان منذ فجر التاريخ.
الواقع غلّاب: وأهم نقطة هنا هي أن أسئلةَ الواقع ملحّةٌ، ولا تحتمل التأجيل أكثر، يا نخبنا العزيزة: أعطونا حلولاً عملية تفصيلية! لكن كثيراً منهم مشغولون بنقد الحداثة ومنتجاتها المادية الغربية كنظام الديمقراطي السياسي، والتوحّش الرأسمالي الاقتصادي، والقيم الليبرالية الثقافية.. ونحن نقول: ربما كان نقدكم صحيحاً في بعض جوانبه، لكن ما الحل الذي نطبّقه في واقعنا وبيوتنا ومؤسساتنا؟ بل ما الحل لبلداننا التي قمنا فيها بثورات، ما الحل غير (الديمقراطية السياسية)، و(الحرية الاقتصادية) الذي تتدخل فيه الدولة لحفظ حقوق المستضعفين، و(الحرية الاجتماعية) المسؤولة بما لا يؤذي الآخرين؟! ما الحل العملي بغير ذلك؟ وهنا يقول بعضهم: لسنا نحن من ينقد الحضارة الغربية بل الغربيون أنفسهم ينقدونها، ونقول لهم: الغربيون حينما ينقدون منتجات حضارتهم كالذي سكن بيتاً فارهاً في مجمع سكني راقٍ ثم طلبتْ منه الشركة العقارية التي نفّذت بناء المجمع السكني ملأ (استمارة للشكاوى) بقصد التطوير، فجلس يتأمل أشهراً ويجمع الملاحظات والعيوب التي يراها ثم -بعد أشهر- قدّمها لإدارة المجمّع. فجاء رجل مقاول غشّاش يبني البيوت بمواصفات رديئة سيئة في أحياء عشوائية، وصوّر ورقة الشكوى بما حوته من الملاحظات السلبية لذلك المجمع الراقي، وجمع السكان من الفقراء والمساكين في العشوائيات التي بناها، وبدأ يقرأ عليهم الملاحظات، ويقول لهم: هذه المجمعات التي أنتم مفتونون بها اقرؤوا بماذا يصفها أصحابُها؟!! أشعر أننا في بلادنا العربية المتخلّفة مثل أولئك الفقراء والمساكين.. وبعض نخبنا يذكرون لنا عيوب الحضارة الغربية وسلبياتها!
المشكلة أن كلّ الأمم عرفت الطريق وهو التنافس الحضاري والعلمي والتقني وعرفوا مضمار السباق ودخلوه وهم يتنافسون في التحديث والتطوير والاختراعات، ونحن مازلنا نتناقش هل هذا هو الطريق أم لا؟ الطريق واضح وسنن التطور واحدة فالنهضة العمرانية المادية واحدة عند كل الشعوب وهذه لا هوية لها فهي وسائل حيادية، أما الهويات (ديناً ولغةً وتاريخاً وعادات وتقاليد) فلكل أمة هوية.
انظر إلى اليابان أتت بمناهج الحضارة الغربية، وحافظت على هويتها الحضارية، وقامت بنهضتها ونجحت، وانظر إلى ماليزيا وكلمة زعيم نهضتها مهاتير محمد التي لخّص فيها منهجهم: (عندما أردنا الصلاة اتجهنا صوب مكة وعندما أردنا بناء البلاد اتجهنا صوب اليابان” وانظر إلى تركيا وكيف وضع حزب العدالة والتنمية الحاكم هدفاً وهو دخول الاتحاد الأوربي ليستوردوا المعايير الأوربية الدنيوية وينهضوا بها مادياً وعمرانياً، وبالمقابل كيف دعموا التوجّه الإسلامي في تركيا كهوية ودين وتاريخ، وحققوا نهضتهم. وعلى كل حال نحن لو حسمنا أمرنا وقرّرنا الدخول في هذا السباق فلن نجد الطريق معبّداً بل المضمار مزدحم والتنافس شديد.
ستزول الفروق: وبما أنّ البشرية تشترك بالفطرة الإنسانية الواحدة، وغالبهم عندهم إرث من النبوات التي ما خلا منها بشر: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، والبشر يشتركون بأكثر من 80 % من القيم والأخلاق، فأظنّ أنّ الزمان قد تقارب وبخاصة في زمن وسائل التواصل والمواصلات، وتفجّر المعلومات، وأنّ إمكانية حوار الحضارات وتفاعلها الإيجابي واقتباس البشرية تجارب بعضها أصبح أسهل مما نعتقد، وبخاصة في ثورات الترجمة الفورية التي نشهدها، وهذا سيسهّل عملية الاقتباس والاستفادة وسيجعل الحدود المادية بين الدول لا أثر لها تقريباً، فالعلوم والمعلومات ستسيل بين الناس ولن يحجزَها شيءٌ، وهذا سيُسرّع عملية التصفية والاقتباس من الأفكار والاختراعات وأن النتيجة أن البشرية ستشترك بـ80 % (أو أقل أو أكثر) من العادات والتقاليد والأفكار والمخترعات، وسيبقى لكل قوم بصمتهم الخاصة التي لن تتجاوز 20 % (تقريباً) من حياتهم وتلك 20% ستكون انعكاساً لثقافتهم وبيئتهم. وهذا التفاعل والاقتباس نلاحظه عند الأشخاص دائمي السفر تجد حياتهم خليطاً من العادات والآلات المختلفة لأنه يقتبس من كل قوم ما راقه. والآن في عصر التواصل أصبح الجميع يسافر، فبدلاً من أن تسافر لتشاهد وتجرّب أصبحت منتجات الأرض وشعوبها وعاداتهم تأتي إليك عبر المعلومات وبالصوت والصورة. والجدير بالتذكير هنا أنّ التقوقع على النفس والخوف على الهوية الذاتية ليس هماً ننفرد به نحن المسلمين، بل كل الأمم عندها هذا الهاجس، لكن وسائل التواصل والإعلام وثورة المواصلات والاتصالات بما تهدمه من أسوار العزلة بين الأمم، ستجعل البشر يتبعون الأصلح لهم والأكثر فائدة والأجدى وسيجعلهم يتجاوزون كثيراً من هذه المخاوف والهواجس وسيكون ضغط الحياة العملية الواقعية أقوى من الجميع، وسينحاز الناس إلى مصالحهم وإلى الأنفع لهم، وإن كان البعض سيجامل الداعين للتقوقع على الذات، فذلك بقلوبهم فقط وواقعهم مع الحداثة، وسيبقى المنادون بمقاطعة الحداثة كالـ(الفلكلور الشعبي) القديم، هم في وادٍ، والناس في واد آخر. وهذا ينبغي ألا يخيفنا فديننا فيه مؤهّلات قابلة للبقاء والانتشار إذا أحسنّا فهمه وتطبيقه والاستفادة منه لأنفسنا أولاً، فعندما يصلحنا لن يتوانى الكثيرون عن اعتناقه، لكن لو بقينا لا نحسن التعامل مع ديننا فسنكون أكبر الصادّين عنه (ربّنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا).