إنّ تقدّم وانتشار الفكر الذي ينزع نحو توسيع الحريّات والمساواة ومراعاة حقوق الإنسان وثقافة التعايش والتسامح مع الآخر، والسلم الأهليّ، وتقديم العلم التجريبيّ ونزعة العقلنة..
ذلك كلّه أدّى لنفور الإنسان الفطريّ، ممّا يعاكس ذلك أو يخالفه، ممّا تجد بعضه في اختيارات المدرسة السلفيّة المعاصرة، وفي كتب (المدرسة التقليدية) التراثيّة القديمة التي كانت في وقتها في القمّة، مقارنة بثقافة وسلوك الشعوب الأخرى حينها، لكن الزمان تحوّل، وأصبحنا على أعتاب عصر جديد، وما زالت الاجتهادات كما هي!
ونقول: النفور (الفطري) وليس الانبهار بالغرب لأن الفطرة الإنسانية تنفر مما يخالف العدل والرحمة وحفظ حقوق المستضعفين من النساء والأطفال والعبيد والعناية بالطبيعة والرحمة بالحيوان.. وغيرها من القيم التي ينادي بها إعلان حقوق الإنسان العالمي، بعكس ما يروجه الكثيرون أن المعجبين بثقافة حقوق الإنسان وتلك القيم الإنسانية الراقية مبهورون بثقافة الغالب (الثقافة الغربية).
ونقول: الإسلام جاء مراعياً حقوق الإنسان بل سباقاً لكثير منها، لكن مراعاتنا لها في بعض الاختيارات والتفسيرات البشرية التاريخية كان متفاوتاً، والوعي البشري تطور جداً وأضحى حساساً جداً تجاه ما يخالف ذلك، وهنا ننادي بمراجعة ما يخالف ذلك في بعض الفروع الاجتهادية، وعدم التمسك بتلك الاجتهادات البشرية التاريخية، وبخاصة أنه يتوفر لدينا اجتهادات أخرى (تراثية) وبعضها معاصر تراعي تلك القيم بشكل أوضح، كما أن القيم الكبرى التي نادى بها إعلان حقوق الإنسان، مشترك إنساني ومحل اتفاق بين الأمم بنسبة أكثر من 80%، وليست حكراً على الثقافة الغربية!!
وهنا نسارع ونقول: لا داعي لإثارة (الأسطوانة المحفوظة) وهي إن الغرب منافق لا يلتزم بهذه المبادئ مع غيره، فعدم التزامهم لا يسوّغ لنا ألا نراعيها نحن كذلك!! وعدم التزام الآخرين بالعدل لا يبيح لنا الظلم، وعدم التزام الآخرين بالأمانة لا يسوّغ لنا الخيانة والسرقة!!
مؤخّراً بدأت تظهر دعوات لتجديد الخطاب الدينيّ، كما ظهرت أصوات تنادي بتجديد أصول الفقه نفسه، وهو (قواعد استنباط الأحكام من الأدلّة الشرعيّة)، لأنّ المدرسة السلفيّة يغلب عليها الأخذ بظاهر الكتاب والسنّة مباشرة، وعدم الخضوع للعقليّة الأصوليّة التعليلية المقاصدية العميقة.
الحل بقواعد المقاصديين في التعامل مع النصوص:
لذلك نرى من معالم التجديد الأساسيّة التي ننادي بها: إحياء فقه وقواعد استنباط المدرسة المقاصديّة التعليليّة، فالفقه هو الفهم، و(مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ) البخاريّ، أي: يفهّمه الدين، ولو كان فهمه ظاهريّاً ميسّراً لكلّ عاميّ لما كان هناك ميزة لمن أراد الله به خيراً، وفقُه الدين.
وعلى رأس المدرسة المقاصدية المدرسة الحنفية والمالكية، فليس كل حديث صحيح يُعمل به، بل ينبغي أن نعود لكتب أصول الفقه للمذهبين المقاصديين (الحنفي والمالكي) وننشر طريقتهم في التعامل مع الحديث النبوي الشريف، حتى نغلق باب الطعن بكل السنة النبوية المطهرة الذي كان من أهم أسباب ظهوره (برأيي) ردة فعل على المدرسة الأثرية التي جعلت كل حديث – صحيح الإسناد – سنة.
من أسباب ازدهار الفكر السلفي:
كان وراء انتشار السلفيّة في العقود الأخيرة الماضية في العالم بسبب تبنّيها من قِبَل الدولة السعوديّة، المدعومة بالثروة النفطيّة، ولبساطة الدعوة السلفيّة، وارتباطها الواضح بظاهر الكتاب والسّنّة، وانغلاق وتكلس ما عداها من الفكر التقليديّ (أشعرية – مذهبية – صوفية) مؤخراً، ذلك كلّه ساهم في انتشار فكر المدرسة النصوصيّة الأثريّة (السلفيّة).
لكنّ ذلك رافق تشنّجاً وتعصّباً لآراء واختيارات معينة لهذه المدرسة (السلفية)، وجفولاً من المدرسة العقليّة التعليليّة المقاصديّة للأحكام، مع نزعة تشدّد وميل نحو الاختيارات الأصعب أو الأشدّ، أو الأحوط في الغالب، وإلا فللسلفيّة اختيارات فقهيّة ميسّرة، تخالف فيها المدرسة التقليديّة.
الاتهام بمخالفة الأحاديث:
لكن بعض الجامدين من ذوي النزعة الظاهرية من الذين لم ترسخ قدمهم في علم أصول الفقه (وهو علم آلة الاجتهاد) يقولون: المقاصديون وأهل الرأي يخالفون الحديث، أنترك حديث رسول الله لرأيهم؟!!
لكن المقاصديين يجيبون: أنتم تخالفون (جيشاً) من الأحاديث والآيات الكريمة، وتتركونها لتُعْمِلوا حديثاً واحداً جاء في حال خاصّة، وهو ما يسمّيه علماؤنا (واقعة عين)، أي: حال خاصّة لها ظروف خاصّة، لا يجوز تعميمها، فلا نعمّم ذلك الحكم الخاصّ الذي جاء في الحديث، ونترك المبدأ العامّ الذي رسّخته مجموعة من الأحاديث والآيات.
وهذا ما سمّاه الحنفيّة: (مخالفة القياس) أي: مخالفة النصّ الجزئيّ للمبدأ العامّ الذي رسّخته النصوص المتواترة معنويّاً من كتاب وسُنّة، فعندما يأتي حديث آحاد -مثلاً- ويخالف مبدأ عامّاً تدعمه مجموعة نصوص، فيعتبرون حديث الآحاد حديثاً شاذّاً لا يجب العمل به، فليست القضيّة مخالفةً للحديث ومعارضةً له، وهجراً له، لكنّها اجتهادٌ في تأويل ذلك الحديث الذي خالف مجموعة من الأحاديث والآيات الأخرى.
تيارات ضمن التيار الواحد:
وهذا الخلاف قديم يرجع للخلاف بين المدرسة العقليّة التعليلية المقاصديّة، وهم الحنفيّة والمالكيّة والمدرسة النصوصيّة الأثريّة الظاهرية النزعة، وهم الشافعيّة والحنابلة، طبعاً هنا الكلام بالوجهة العامّة والنزعة الغالبة على المدارس الفقهيّة، وإلا فداخل كلّ تيار عريض تيّارات صغيرة، فبين المقاصديّين بعض النصوصيّين، وبين النصّيّين بعض المقاصديّين، وهؤلاء قد يشكّلون اتجاهاً خاصّاً داخل المدرسة الفقهيّة العامّة، كما أنّهم يتفاوتون بالنزعة التعليلية العقلية المقاصدية التي تدل على الفقه وهو الفهم، فالجمود على الظاهر ليس شأن الفقيه بل العوام يفهمون الظاهر، والفقيه الخبير يأخذ بالمقصِد والعلة.
وترتيبهم في هذا حسب ترتيبهم الزماني فأعلاهم كعباً الإمام أبو حنيفة صاحب الاستحسان ثم يليه مؤسس المصالح الإمام مالك تلميذ ربيعة الرأي، ثم الإمام الشافعي صاحب الاستصحاب (البراءة الأصلية) وهي أقل تلك المصادر (المفتوحة) عقليةً وحاجة للنظر والاجتهاد، وهو الذي حاول الوقوف في الوسط، لكنه كان أميل للأثريين، ثم الأثري بامتياز الإمام أحمد الذي لم يعده بعض الفقهاء في زمرة الفقهاء! كابن عبد البر في الانتقاء وابن رشد في بداية المجتهد وغيرهم، وأشدّهم نصوصية وظاهرية ابن حزم الذي وقع بأقوال –بسبب ظاهريته- شنّعوا عليه بها، ولم يعتبروا خلافه عند انعقاد الإجماع، وقال قائلهم: (ليس من الحزم الأخذ بقول ابن حزم).
وهذا لا يعني أنّ النصوصيين أقلّ ذكاء من المقاصديين، بل إنك تجد بين النصوصيين والظاهريين عباقرة أصّلوا ونظّروا لهذه المدرسة كابن تيمية وابن حزم، وإن كانت عقليتهم مقاصدية مصلحية تبعاً للطوفي الحنبلي!
هل نقاطع النصوصيين؟
وهذا لا يدعونا للميل إلى بعض المذاهب وهجر غيرها، فلا يوجد مذهب جمع الصواب كلّه، كما لا يوجد مذهب غلب عليه الخطأ، بل كل مذهب كان عنده إشراقات في بعض الاجتهادات ورؤى عميقة وموفّقة، وفيها توسعة على عباد الله.
كما أنّ هذه النزعة أقصد: (المقاصديّة والنصوصيّة) هي طريقة تفكير موجودة في كلّ الأديان والمذاهب الفكريّة، في كلّ زمان ومكان، ففيهم من يجمد على نصوص القانون، ومنهم من ينظر لمقاصد القانون وروحه.
وما حادثة بني قريظة منّا ببعيد حينما (طلب النبيّ ﷺ عدم صلاة العصر إلا في بني قريظة)(1) فبعضهم نظر للهدف والمقصِد؛ وهو الإسراع، فصلّى في الطريق، وبعضهم تمسّك بظاهر الكلام، فلم يصلِّ إلا في بني قريظة، وأقرّ النبيّ ﷺ الفريقين، لمعرفته بأنّ أذهان الناس هكذا منذ القدم وسيبقون إلى قيام الساعة، منهم من ييبحث عن المقصد، ومنهم الذي يكتفي بظاهر الكلام، ومن الطريف أنّ ابن حزم قال: (لو كنت معهم ما صليت إلا في بني قريظة)، وأنّ ابن تيمية قال: (الصواب مع من صلى في بني قريظة)، وبذلك يتصالحان مع نزعتهما النصوصية.