أضحى من الضرورة تجديدُ كتب العقيدة، فالزمان تغيّر، وجدّت فيه شبهات لم تكن معروفة سابقاً، فما كان يشغل العقول في عصور سابقة لم يعد يسترعي اهتمام إنسان عصرِنا.
فلا يجوز إحياء ما كان من مسائل في الأزمنة السابقة لمجرّد أنّ الأقدمين ناقشوها في مصنّفاتهم، بل يجب إهمال ما لا يشغل عقل الإنسان المعاصر، والتركيز على الإجابة عن تساؤلاته الجديدة -وما أكثرها!-
فكتب علم الكلام كانت تلبية لحاجة عصورها فعلم الكلام هو علم المحاجّة والدفاع عن العقائد، وينبغي أن يكون علماً متجدّداً يخالط كلّ عصر بلغته وأمثلته وعقليته، فهو تفاعلٌ واستجابةٌ لحاجة كل عصر.
لكنّ كُتُب العقائد الكلاميّة ركّزت على المناقشات العقليّة التي تولّد المعلومة كما ينتجها علم الجبر الرياضيّ، صحيح أنّه يقنع العقل لكنّه يجفّف الروح، فلا يثمر عاطفة جيّاشة ولا روحاً دافقة، تَرغَب بعطاء الله، وترهَب سخَطَه.
وهذا ما دفع الثقافة الإسلاميّة إلى الاعتماد على كُتب التصوّف والوعظ -على ما فيها (1)- لتعوّض ما فاتها في كُتب العقائد الكلاميّة.
وكثير من هذه المصنّفات كُتِبَت بطريقة الحِجاج والجدال، وفي هذه الأجواء كثيراً ما يضيع الإنصاف والموضوعيّة، ويكون الهدف هو الغلبة والانتصار للرأي (2).
ولا ضير من الحوار والجدل في الأوساط العلميّة، لكن نقلَ هذه الخلافات إلى ميدانِ الأمّة، وتحديدَ من هم داخل دائرة أهل السُّنَّة والجماعة ومن هم خارجها، بناء على خلافٍ في بعض المسائل، وامتحانُ الناس في ذلك، فهنا تكمن المعضلة!
وهذا لا يعني تمييع موضوع العقيدة، والقبول بكلّ الأفكار والأديان.. مهما شطّت وابتعدت، لكن المطلوب توسيعُ سَمّ الخِياط الذي يضعه بعض المصنّفين، والتسامحُ بالخلافات التي يسعها الاجتهاد، فإذا كانت المسألة اجتهاديّة فهذا يعني أنّها تحتمل الخلاف بطبيعة الحال، وكلُّ اجتهاد معتبَر ينبغي احتواؤه ضمن دائرة أهل السّنّة والجماعة، فلو كانت الأدلّة قطعيّة لما وسع العلماء الاختلاف فيها، فكون المسألة عقديّة لا يعني عدم الاختلاف فيها، وكون المسألة فقهيّة لا يعني عدم الإجماع فيها، فالاختلاف والاتّفاق ليس بناءً على تصنيف المسألة أكاديميّاً (هل هي فقهيّة أو عقديّة)، بل بناءً على قطعيّة الأدلّة وظنّيّتها، ثبوتاً ودلالةً، فظنيّة الأدلّة تؤدّي للاجتهاد، وإذا وُجِدَ الاجتهاد وُجِدَ الخلاف بطبيعة الحال، وقد اختلف العلماء سلفاً وخلفاً في مسائل عقديّة متعدّدة، فكلما اتجهنا نحو الأصول والكليات والمبادئ ندر الخلاف وكلما اتجهنا نحو الفروع والجزئيات ندر الاتفاق.
يقول الإمام الشوكاني رحمه الله: “الأحكام الشرعية عندي متساوية الأقدام، منتسبة إلى الشرع نسبة واحدة، وكون بعضها راجعاً إلى الاعتقاد، وبعضها راجعاً إلى العمل، لا يستلزم تفاوتها على وجه يكون الاختلاف في بعضها موجباً لعدم نجاة بعض المختلفين، وفي بعضها لا يوجب ذلك، فاعرف هذا وافهمه.
وأعلم أن ما صح عنه صى الله عليه وسلم من أنّ المصيب في اجتهاده له أجران، وللمخطئ أجر، لا يختص بمسائل العمل، ولا يخرج عن مسائل الاعتقاد، فما يقوله كثير من الناس من الفرق بين المسائل الأصولية والفروعية، وتصويب المجتهدين في الفروع دون الأصول، ليس على ما ينبغي، بل الشريعة واحدة، وأحكامها متحدة، وإن تفاوتت باعتبار قطعية بعضها، وظنية الآخر” (3).
وقد استطاعت الأمّة -بفضل الله تعالى- ثمّ بجهود العلماء المصلحين من تجاوز خلافات عقديّة لطالما شقّت الصفّ وفتنت النّاس، كمسألة القَدَر وخلق القرآن وحُكْم مرتكب الكبيرة.. لكن بقيت مسألةٌ تشقّ الصفّ وتصنّف الناس وهي ما يُسَمّى (آيات الصفات)، قلت: (ما يسمّى) لأنّني أعتقد أنّ آيات الصفات حقّاً هي الآيات التي تصف الله تعالى صراحة، مثل: (هو الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم..) و(قل هو الله أحد..) (وهو على كلّ شيء قدير..)..
أمّا الآيات التي توهم الجسميّة والجهة ومشابهة الله تعالى للمخلوقات.. فهذه قضيّة ينبغي تجاوزها تماماً، فالكلّ يريد تنزيهَ الله تعالى، فالمثبتون لا يريدون تعطيل الصفات، والمؤوّلون لا يريدون تشبيه الله تعالى، والأدلّة محتملة وغير قطعيّة، ولو كان الأمر قطعيّاً ما اختلفوا أصلاً، فأصول العقائد متّفَق عليها عند أهل السُّنّة، والخلاف بين المذاهب السنيّة في الفروع، وقضيّة الصفات المختلَف فيها من فروع العقيدة.
فمذاهب أهل السُّنّة المقبولة بهذه المسألة هي: (الإثبات والتفويض والتأويل)، أمّا المرفوض: (فالتجسيم والتعطيل).
وعليه فالمذاهب الثلاثة (أشعريّة وماتريديّة وسلفيّة) كلّهم من أهل السُّنّة والجماعة، لأنّ أهل السُّنّة واقعيّاً يشملون هؤلاء كلّهم.
يقول الإمام محمد بن أحمد السفاريني الحنبليؒ: “أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ثَلَاثُ فِرَقٍ: الْأَثَرِيّة وَإِمَامُهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ؓ، وَالْأَشْعَرِيّة وَإِمَامُهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ ؒ، وَالْمَاتُرِيدِيّة وَإِمَامُهُمْ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ” (4).
طبعاً كثيرون لن يقبلوا هذا الكلام، فكم تمّ الضخّ من الجانبَيْنِ بعكسِ هذا الكلام!
ولعل بعضهم يقول: كيف نتجاوز الخلاف في العقيدة؟!
الجواب: هذا خلاف بفروع العقيدة وليس في أصولها، وكما أنّ الأمّة مرّت بفترات تعصّب فقهيّ مذهبيّ حتّى إن بعضهم مضى به التعصّب إلى عدم جواز التزوّج من أتباع مذهب آخر، وبنوا عدّة محاريب في المسجد الواحد! ثم شاع التسامح الفقهيّ وتجاوزت الأمّة هذا التعصّب الذميم، وعليه ينبغي على الأمّة أن تسير بوعيها لتجاوز هذه الخلافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، فالمهم هو العقيدة التي تزرع الخوفَ من الله والحبَّ له والتعظيمَ له، العقيدة التي تثمر طاعة لله تعالى.
وهذا ما أعتقد أنّه سيحصل في قابل الأيّام، لكنّني هنا أطالب بالسرعة لاعتماد هذا الرأي، حتى نوفّر على أمّتنا المرهقة مزيداً من الجروح والآلام.
أمّا في الآخرة فالذي أعتقده وأرجوه -دون تألٍ على الله تعالى- أنّ الله ﷻ لن يسألنا -بفضله وكرمه- عمّا يُسَمّى بآيات الصفات ولن يختبرنا اختبار عقيدة (كما تفعل اللجان الفاحصة) بجزئياتٍ تصنّف الناس وتقسِّمهم، لكن الله ﷻ سيحاسبنا على أركان الإيمان الستّة، وأركان الإسلام الخمسة، وعن سلوكنا ومعاملاتنا وأخلاقنا، فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره.
وفي مجال التعليم: علينا دراسة العقيدة المقارنة كما ندرس الفقه المقارن، فنقول: في هذه المسألة لأهل السّنّة ثلاثة مذاهب: من أهل العلم من أوّل فقال: كذا وكذا، وبعضهم قال: نفوّض المعنى لله تعالى، وبعضهم قال: نثبت صفة كذا وكذا.. ولا بأس بترجيح مذهب على آخر، بحسب ما يترجح لطالب العلم ويطمئن له قلبه، ويرتاح له عقله.
والراجح أنّ هذه النصوص لا يصحّ معاملتها معاملة واحدة، فمنها ما سِيق النصُّ لأجله، ومنها ما سيق النصّ لغيره، ومنها ما اتُفق على تأويله، ومنها ما اختُلف فيه، فينبغي معاملة كلّ نصٍ على حِدة.
ويسع المسلم اعتقاد ما يطمئن له قلبه، ويرتاح له عقله، دون تثريب أو لوم، فتفاصيل كُتُب العقائد من البدع التي لم تكن زمن الصَّحْبِ الكرام، وقضيّة الصفات لم يهتمّ بها الصحابة الكرام ولا درّسوها لأحد، ولا امتحنوا بها عقيدة أحد، بل لم يرد عنهم كلامٌ واضح يمكن أن نُكوّن من خلاله تصوّراً يمكن أن يشكّل (مذهب السلف)، فقد سكتوا عنها، إلا بعضَ التفسيرات هنا وهناك، أما سبب سكوتهم فتختلف المذاهب في تعليله، وكل مذهب يقول: إن الصحابة فهموا الآيات على مذهبهم.
فالمفوّضة قالوا: الصحابة قرؤوها ولم يثبتوا تلك الصفات لأنها توهم مشابهة المخلوقين لله تعالى وتنزّه، ولم يؤوّلوها وفوّضوا معناها لله تعالى.
والمثبتة قالوا: إن الصحابة أثبتوا الصفات كما هو منطوق الآيات، لذلك لم يفسّروها تفسيراً آخر.
والمؤولة قالوا: الصحابة عربٌ أقحاح، ويعرفون أساليب العربية ففهموا تلك الآيات حسب سياقها على مبادئ العربية واشتمالها على المجاز.
أضف إلى ذلك انشغالهم بالجهاد والدعوة، وبُعْدهم عن الفلسفة والجدل، الذي جاء في زمن لاحق (5) حتّى قيل: كتب العقيدة تفرّق، والإيمان يجمع، فالإيمان إجمال والعقيدة تفصيل، الإيمان بساطة والعقيدة تعقيدٌ، الإيمان فطرة والعقيدة تكلُّف، الإيمان باب مفتوح والعقيدة سور منيع (6).
طبعاً هذا الكلام لن يرضي أحداً من متعصّبي المذاهب المنتشرة، فكّل مقلّدٍ لمذهب سيقول: (مذهبي صواب ومذهب غيري خطأ)، وسينتصر لمذهبه وسيسوق أدلّته وحُججه، لأنّه يعتقد أنّ رأيَه أقوى، وتوافقه الأدلّة العقليّة والنقليّة واللغويّة، وهذا طبيعي جدّاً، لكنّه لن ينهي مأساةً استمرّت مئات السنين، وستستمر إلى أن نقتنع بهذا الرأي.
وهنا لا نطالب أحداً بترك عقيدته، ولا نمنع الحوار العلميّ بين المذاهب، لكن ينبغي أن يبقى هذا ضمن حوارات البيت الداخليّ، كما نناقش رجحان قولٍ فقهيّ دون تشنّج، ونُبقي على مخالفنا ضمن مذهب أهل السُّنَّة.
فالذي نطالب به -وبشدّة- عدمُ إخراج إخوانكم من دائرة أهل السُّنَّة، فإن كنتم تتَّهمونهم بالتجسيم، فإنّهم يتهمونكم بالتعطيل!
مع الأسف نحن نختلف حول بعض الصفات الإلهيّة والناس أنكروا الذات والأديان، ونختلف حول التوسّل بالنبيّ والناس أنكروا النبوّة والوحي!
فهذا زمان إنقاذ الإيمان، وليس زمن الانتصار لمذهب عَقديّ إسلاميّ على مذهب إسلاميٍّ آخر!
كلُّ أمم الأرض تتسامى فوق خلافاتها عند النكبات، إلا نحن، فعندنا شغف بشقّ الصفّ!! وليت الأمر كان لأسباب مقنعة، بل بسبب آراء عقديّة لا تقدّم -عمليّاً- شيئاً ولا تؤخّره! فالمسلم يعظّم الله ويصفه بصفات الكمال، وينزّهه عن صفات النقص، ولو رجعتَ للقرآن الكريم لوجدته يُجمِل في العقيدة ولا يفصّل، ويركّز على ثمرات وآثار العقيدة من إيمان وعمل صالح وتعظيم لله ومحبّة له ورهبة منه.. أمّا التشقيق في العقيدة والتفصيل والتشريح فهو من آثار مناهج اليونان وفلسفاتهم.
يقول الدكتور محمد عمارة: “وفي علم العقيدة الإسلامية -علم الكلام الإسلامي- سنجد الكثير من الجدل الذي دار بين علماء الكلام في الإلهيات والغيبيات، التي اقتصد الإسلام في الحديث عنها، لعجز العقل البشري، وهو نسبي الإدراك عن فقه حقائقها ومكنوناتها، بل ولعجز اللغة عن التعبير عن كنه هذه الحقائق، وهو جدل تضخّمت به كثير من كتب الفرق والمذاهب الكلامية، تسرّب إليها من المجادلات والمناظرات التي دارت بين علماء الكلام وبين أصحاب المذاهب والديانات غير الإسلامية، وخاصة مذاهب الفرس والهنود وفلاسفة الغنوصية والباطنية، ثم حدث أن انتقلت هذه المجادلات من ميدان الصراع الفكري الخارجي إلى ميدان الجدل بين المذاهب الإسلامية، فوظفت في غير ميدانها، وفرقت الصف الإسلامي، وأورثته الكثير من ألوان التعصّب المذهبي المقيت، حتى ليشهد على هذه الحقيقة أحد أساطين هذا العلم، حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (450-505هــ) فيقول: إنك قد تعرض المسألة على الأشعري فيوافقك عليها، فإذا قلتَ له: إنها رأي المعتزلة، عاد فرفضها، بعد أن كان قد قبلها، والعكس صحيح!” (7).
كما ينبغي تجاوز المسائل القديمة مثل التمييز بين (صفات المعاني والمعنوية) عند الأشاعرة هذا التمييز كان رداً على مسألة تاريخية أثارها المعتزلة حيث نفوا صفات المعاني وهي (القدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والحياة والكلام) حتى لا يتعدد القدماء!!
فهذه مسألة تاريخية نتركها في المراجع القديمة للمتخصّصين، ولا نُدخل كلّ مسلم يريد دراسة العقيدة بهذا الخلاف الذي لا يخطر بباله لولا إثارة الكتاب لهذه المسألة.
لذلك ألّف الإمام الغزالي رحمه الله رسالةً سمّاها: (إلجام العوام عن عِلْم الكلام) فعلم الكلام وتناول العقائد فلسفيّاً وبالأدلّة العقليّة، دواءٌ لحالات فرديّة ممن عنده شبهات، وقد يُعطى للعموم إذا انتشرت شبهات فكريّة، كوباء عام مثل بعض الأفكار اللادينية في أيّامنا.
أمّا الكتاب والسّنّة فهما غذاء، ولا يجوز اللجوء للدواء في حال الشفاء، ويجب تناول الدواء عند المرض، فالأَوْلى عرض العقيدة كتقرير أوليّ، من غير ذِكْر الشبهات والردود عليها، فـ(ذِكْر الشبهة يحييها)، ومنهج القرآن الكريم غرس الإيمان العقليّ والعاطفيّ الذي يزرع الخوف من الله والحبّ له، فيثمر عملاً صالحاً وخُلقاً حسناً.
ومما يُؤسف له أن يبني بعض المنتسبين لهذه المذاهب العقديّة (أشاعرة وسلفيّة) الولاء والبراء على ذلك، ويَظهر ذلك في الردود العلميّة القاسية، وامتحان كلّ متقدّم لوظيفة أو منصب دينيّ، فإن أثبت الصفات أو أوّلها (بحسب اتجاه اللجنة الفاحصة) فهو كفءٌ عقديّاً، وإلّا فهو غير كفء، وينبغي منعه مِنْ أيّ نشاط علميّ أو دعويّ، وإن كان علّامة الدنيا! وبهذا المعيار المجحِف نفسه يُعامل المتأخّرون أئمّةَ السلف، فمَنْ خالف في شيء من جزئيّات العقيدة (التي يتبنّونها) فهو منحرِف عقديّاً، وينبغي التنبيه على ذلك والتحذير منه، حتّى وصل الأمر بأن أحرق بعضُهم كتباً مرجعيّة لكبار الأئمة لمجرّد مخالفتهم في مسألة الصفات!
فضيّقوا دائرة الإسلام العظيم، وحصروا أمّة المليار ونصف المليار-التي لطالما تغنّينا بها- في أضيق نطاق، نطاقٍ يكاد لا يتّسع إلا للشيخ الذي وضع المعايير (متن العقيدة) وتلاميذه الذين اتّبعوه فيما قال.
وكلّ جماعة تخالف جزءاً من اختيارات هذا العالم العقديّة، تصبح تتقاطع مع أهل السُّنَّة بمقدار ما توافق اجتهاداته! فاختيارات العالم هي الميزان والمعيار الذي أنزله الله ليكون حُجّة على خلقه (بزعمهم)!
وكثير من هذه الآراء العقديّة لم تنتشر بقوّتها الذاتيّة، بل بالاستعانة بالمال والسلطة والإعلام، كما أنّ كثيراً من هذه الخلافات يُزكي أُوارَها السياسيّون ممّن يقتاتُ على تفرّقنا!
وبعد أن يصبح الأمر انتماء لمذهب، تنشأ العصبيّات التي تنتقي من النصوص والأقوال ما يوافقها!! وتختفي الموضوعيّة والإنصاف.
وقد أصبحت هذه اللوثةُ منهجيّة علميّة، فكلّ عالم (من القدماء أو المعاصرين) يُسأل عن تفاصيل عقيدته، فإن خالف بشيء، يأتي مَنْ يقول: (هو مِنْ أهل السُّنّة والجماعة إلا في كذا) ممّا خالفهم فيه!
فتصبح آراؤنا العقديّة هي المعيار والمقياس الذي تُقاس به عقائد الناس، فنحن حُجة الله على خلقه!!
وهنا لطيفة مهمة وهي أن أكثر كتب العقيدة لم تُنسب للإسلام وإنما نسبت إلى أسماء مؤلفيها مثل: العقائد النسفية والواسطية والطحاوية والتدمرية وعقيدة الأشعري والماتوريدي، وليست العقيدة الإسلامية، فنُسبَت لأصحابها وهي بحق كذلك، فقد كان كل عالم يكتب تصوّره وفهمه لفروع وتفاصيل العقيدة الإسلامية أي تصوراته واجتهاداته في المسائل النظرية مما يتعلق عالم الغيب، حسب فهمه لكتاب الله وسنة رسول الله وترجيحه بين آراء الفلاسفة والمتكلمين واجتهاده ورأيه في المسائل التي أثارت العقل.
وحتى ما يسمى العقيدة من الكتاب والسنة، فهذان المصدران (الكتاب والسنة) هما مصدر كل المسلمين، وما في تلك الكتب (السلفية) ما هي إلا فهوم وانتقاءات المؤلفين، كما لا يخفى.
لهذا فلا يجوز أن يُزعم أن هذا مراد الله تعالى وأن هذه هي الحقيقة المطلقة التي ينبغي اعتقادها ومن أنكرها فهو كافر، فهو تقوّل وافتئات على الله ، طبعاً المقصود هنا فروع العقيدة وتفاصيلها، أما أصول العقيدة المجمَع عليها، فيمكننا القول هذه هي العقيدة الإسلامية التي يجب الجزم والإيمان بها.
فالمطلوب أن يكون انتماؤنا لما جاء به نبيّنا محمد صلي الله عليه وسلم وهو الإسلام، ومفهوم أهل السُّنَّة والجماعة يجب أن يمثّل المسلمين بأوسع نطاق.. ولا نُخرِج عن هذا المصطلح إلا من انحرف انحرافاً يبعده عن الأمّة..
والغريب أنّ مَرَضَ اضطهاد العالم الذي لا يوافق غيرَه الرأيَ بمثل هذه المسائل الخلافيّة، سلوكٌ قديم فهذا ابن حِبّان (صاحب الصحيح) يطرده أناسٌ من سجستان ويتّهمونه برِقّة الدين، لأنّه أنكر (الحدّ) عن الله تعالى! ويعلّق الإمام الذهبي ؒ على هذه الحادثة تعليقاً نفيساً فيقول: “إنكاركم عليه بدعة أيضاً، والخوض في ذلك ممّا لم يأذَن به الله، ولا أتى نصٌّ بإثبات ذلك ولا بنفيه، ومن حُسْنِ إسلامِ المرءِ تركه ما لا يعنيه، وتعالى الله أن يُحَدّ أو يُوصَف إلا بما وَصَفَ به نفسَه أو علَّمه رُسُلَه، بالمعنى الذي أراد، بلا مِثْلٍ ولا كَيْف، (ليسَ كَمثله شيءٌ وهو السميعُ البصير) [الشورى:11] وقال في موضع آخر: إنكاره الحدَّ وإثباتكم للحدّ نوعٌ من فُضول الكلام، والسكوت عن الطرفين أَوْلَى (8).
صدق الإمام الذهبيّ رحمه الله تعالى، فالذي يبقى في عقل المسلم ووجدانه هو تعظيم الله ومحبّته، وتغيب عن ذهنه هذه التفصيلات والتنطّعات التي ما أنزل الله بها من سلطان!
لذلك أرى أن يقتصر تعريف أهل السُّنَّة والجماعة على من اعترف بحجيّة القرآن الكريم والسُّنَّة النبويّة مصدراً للتشريع والاعتقاد، أمّا ما عدا ذلك فيغتفر الخلاف فيه، وقد ذكرتُ سابقاً أنّ ذلك يشمل الأشاعرة والماتريديّة والسلفيّة في مجال الاعتقاد، ويشمل أتباع المذاهب الأربعة وغير المتمذهبين من السلفية، ويشمل الصوفية السُنيّة من العلماء المنضبطين بالشريعة البعيدين عن البدع والخرافات.
وهذا لا يلغي التناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بين الجميع.
لأنّ أهل السُّنَّة اليوم هم جسد الأمّة، وهذا الجسد يتشكل من دوائر متداخلة، نفصّل فيها في معرض التدارس، ونُجْمِل فيها في زمن المواجهة الشاملة، والتحدّي الخارجي الذي يهدّد باجتياح الأمّة قاطبة (9).
إذن لا بدّ من اصطفاف جديد لأهل السُّنّة، يفوّت الفرصة على أعداء الأمّة ممن يستثمرون هذه الثغرات، وبخاصّة في زمن التكتّلات المصلحيّة العالميّة، وتهديد الأمّة بالاستباحة والإبادة.
بصراحة: إذا لم نتجاوز هذا الخلاف فكلّ حديث عن التعايش ووحدة المسلمين وتساويهم وتعاونهم، حديثٌ ليس له فائدة.
وستنفجر هذه المسألة بين الفينة والأخرى لتمزّق الصفّ، وتشتّت الجهود.
وأختم بهذه الآيات الكريمة التي تغني عن كلّ الكلام السابق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)} [آل عمران: 102 – 108]
_____________________________________________________________________
(1) توسعتُ في الملاحظات التي ينبغي الحذر منها في التصوف في كتاب مستقل بعنوان: التصوف رؤية جديدة.
(2) ينظر: مقدمة كتاب عقيدة المسلم، محمد الغزالي.
(3) ينظر: الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، 1/210
(4) ينظر: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، 1/73.
(5) ينظر البحث القيّم: الصفات الخبريّة عند أهل السّنّة والجماعة، د.محمد عياش الكبيسي.
(6) ينظر: مقال الإيمان المفتوح والعقيدة المغلقة، د.محمد مختار الشنقيطي.
(7) تهذيب التراث الإسلامي، د.محمد عمارة.
(8) ينظر: سير أعلام النبلاء، 16/97، ميزان الاعتدال في نقد الرجال، 6/99
(9) ينظر مقال: من غروزني إلى الكويت، عباس شريفة.