تكمن أهميّة التاريخ في كونه بيت الخبرة البشريّة، لأنّه يثبت ويوثّق حركة المجتمعات والدول والأمم في أيّام سلمها وحربها، في أوقات ازدهارها وتطوّرها، وفيّ أيّام انتكاسها وتقهقرها.
ومن خلال رصد الخط البيانيّ لحركة تاريخ الأمم والدول صعوداً وهبوطاً، وتحليل الأسباب التي أدّت إلى الهبوط والتخلّف والضعف، وإحصاء العوامل التيّ ساهمت بالصعود والتطوّر والتقدّم والقوّة والازدهار، نستخلص من تحليل ذلك الخطّ البيانيّ سنناً وقواعد اجتماعيّة تفيدنا في حياتنا، فنتجنّب أسباب التخلّف والضعف، ونحرص على الالتزام بعوامل النهوض والقوّة.
بهذا ينتقل علم التاريخ من حفظ الروايات والتفاصيل والقصص، إلى الاعتبار والفائدة، فتصبح قراءة التاريخ ذات فائدة عمليّة، فلا يعود قصصاً وروايات وأحداثاً حصلت في الماضي، بل قواعد وسنن وعادات حاكمة، وأسباب ومقدِّمات ترتبط بنتائجها، فتحكم تلك القواعدُ الواقعَ، وبما أنّ القواعد تتكرر فمما يعيننا على فهم التاريخ فهم الواقع ومما يعيننا على فهم الواقع فهم التاريخ، فالإنسان هو الإنسان بدوافه ونوازعه وأطماعه وخيره وشره، وبفهم تلك القواعد يمكننا استشراف المستقبل،
وهنا نؤكّد على أمرين:
أوّلاً: إنّ التخلّف له أسباب وليس سبباً واحداً، كما أنّ النهوض له عوامل وليس عاملاً واحداً، هذه الحقيقة تساعدنا عند وضع الخطط الإصلاحيّة التي تراعي ذلك.
ثانياً: نؤكّد على تعدّد مسارات وجوانب التاريخ، فهناك الجانب السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والعلميّ والنفسيّ والدينيّ.. وكل مسار يؤثّر تغيّره -سلباً أو إيجاباً- على بقيّة المسارات.
أنواع قراءة التاريخ
لكن علينا الانتباه إلى أنّ هناك أسلوبين ينتشران بكثرة في قراءة التاريخ وكتابته وروايته، يجمع بينهما أنّهما قراءة انتقائيّة توظيفيّة:
القراءة الأولى: قراءة مناقبيّة تقديسيّة للتاريخ:
حيث يتمّ استدعاء الصفحات المشرقة من التاريخ بحيث يظهر أنّه تاريخ أبيض ناصع، وأشخاصه ملائكة، فكلّه تاريخ انتصارات وبطولات وتضحيات ومآثر ومفاخر.
غالب من كتب التاريخ بهذه الطريقة من المعاصرين كتّاب إسلاميّون غيورون، وتمّ توظيف تلك القراءة في بعث العزّة والفخر في نفوس المسلمين في خلال القرن الفائت، وما زالت هذه القراءة مستمرّة إلى أيّامنا هذه.
وسبب تلك القراءة خُلُوُّ واقع المسلمين الحاضر من الصور المشرقة حيث التبعيّة والضعف والانكسار أمام الآخر، والمرء حين يفلس واقعه من المفاخر يعود بذكرياته إلى أيّام العزّ والإنتاج والعطاء، وكذلك فعل هؤلاء المصنّفون حيث أرادوا إعادة التوازن النفسيّ للشباب المسلم، أمام الانبهار والتبعيّة للغرب، والشعور بالمهانة.
وعلى العموم فقد كان ظهور هذا المنهج ردة فعل على الهجوم غير المبرر على العالم الإسلامي وتراثه في القرن الفائت. وسنعود بعد قليل لذكر سلبيّات هذه القراءة.
القراءة الثانية: قراءة كيديّة تدنيسيّة لتاريخنا:
حيث يتمّ استدعاء الصفحات السوداء المشينة من التاريخ، ويتمّ جمعها بحيث يعرض تاريخنا على أنّه تاريخ مجموعة من الشياطين، حيث قتلُ الخصوم حتّى من الأقرباء والعلماء والصالحين، واتّباع الشهوات من النساء والخمور وتبديد الأموال والحروب الداخليّة والظلم والفساد والاستبداد، وغالب من يقومون بهذه القراءة أصحاب أيديولوجيات مناهضة للإسلام.
القراءة الثالثة: القراءة الموضوعيّة المنصِفة:
وهي التي نطالب بها وذلك بأن تنقل حوادث التاريخ كما رُويت، ثم ندقق فيها بموضوعية تامة للاقتراب من الواقع والحقيقة قدر المستطاع، وإن ادعاء دقة المرويات التاريخية وصدقها أمر صعب المنال، يستثنى من ذلك ما ورد في رواية السيرة النبوية وبعض فترات التاريخ الإسلامي من اعتماد السند والتوثيق.
بل نروي التاريخ رواية بشريّة تؤمن أنّ أشخاص تاريخنا بشرٌ، فليسوا ملائكة ولا شياطين، بشر يصيبون ويخطئون، يحرصون على مبادئهم ويراعون مصالحهم، وهم في صراع دائم بين المبادئ والمصالح -شأنهم في ذلك شأن كلّ البشر- أحياناً ترجح في تصرفاتهم المصالحُ، وأحياناً ترجح المبادئ، مع إيماننا بامتياز القرون الإسلامية الأولى.
فيظهر من خلال تلك القراءة أنّ تاريخنا تاريخ تجارب بشريّة تحاول الالتزام بالمنهج الإسلاميّ، وتخطئ وتصيب. فيظهر تاريخنا لا (أبيض ملائكيّاً) ولا (أسود شيطانيّاً) بل بشرياً خالصاً، يقترب من البياض أحياناً، ويقترب من السواد أحياناً أخرى، بحسب التزامه بالمنهج الإسلاميّ والقيم الربانيّة، وهذا أمر طبيعي، فعالَم القِيَم والمُثُل والكمال المطلق عالمٌ مثاليّ، والواقع فيه وفيه، فيكون المجتمع فاضلاً كلّما اقترب من عالم المُثُل، وتقلُّ فضيلته كلّما ابتعد!
أضرار القراءة التمجيديّة والتدنيسية للتاريخ:
عند التأمل في القراءة (التمجيديّة) وهي الأكثر في الساحة الإسلاميّة اليوم، والقراءة (التدنيسية)، والتي يقودها –غالباً- أعداء الإسلام، فإننا نجد أن ّلهما تأثيراً سلبياً على نمط تفكير المسلمين، فمن أضرارها:
أوّلاً: خيانة الحقيقة من خلال التساهل في التثبّت من صحّة تلك الأخبار، ما دامت تخدم السياق الذي يتكلم فيه المؤلف تمجيداً أو تشويهاً.
ثانياً: أنّها قراءة انتقائيّة تنقل صفحات من التاريخ ولا ترويه كاملاً بحلوه ومرّه، بلحظات ضعفه وقوّته، ويلاحظ اقتصارها –غالباً- على التاريخ السياسي الذي تكثر فيه الحروب والنزاعات، بين الدول والجماعات، والمكائد على الكرسي وقتل المعارضين والخارجين عن الدولة، كما يتم التركيز على حياة القصور التي يُتَوَسّع فيها بالشهوات المباحات، وقد تصل للمحرمات، بينما يتم إهمال التاريخ الاجتماعي والدّعَوي والعلمي.
ثالثاً: أنّها قراءة توظيفيّة، حيث يتمّ رواية التاريخ للتوظيف سواء التقديس للتفاخر والحثّ على استعادة تلك الأمجاد السالفة. أو التدنيس للتشويه والحضّ على تجاوز ذلك التاريخ، فنلحظ في هذين المنهجين تضخيم الحوادث والشخصيات أو تحقيرها بحسب نهج القراءة التي يسلكها المؤلف.
رابعاً: تبطل أهمّ فائدة لقراءة التاريخ، وهي الاعتبار والاستفادة من تجاربه، واستخلاص القواعد التي تحكم حركة البشر والمجتمعات والدول والأمم، فلو اقتصرنا على المراحل المزدهرة أو المتخلّفة، كيف سنعرف أسباب الضعف والتخلّف والانكسار، أو عوامل الرفعة والقوة والتقدّم والحضارة؟!!
فالقراءة التمجيديّة للتاريخ تمنعنا من معرفة أخطاء الماضي، فمن لم يقرأ التاريخ سيعيده، فنقع بالأخطاء نفسها، ولا نحاول تجاوزها بإيجاد حلول لها، فنعيد المقدّمات نفسها ونريد نتائج مختلفة؟! رغم أنّ هذا من المحال، إنّ سلوك الطريق والأساليب نفسها، تؤدّي إلى النتائج السابقة ذاتها!
خامساً: القراءة التدنيسية لتاريخنا تَهدم الرموز الملْهِمة، وتُعْدِم القدوات المحفّزة، وتُلغي النماذج الرائدة، فكلّ أمّة تتشكّل هويّتها من دينها ومبادئها ولغتها وتاريخها، وبتشويه تاريخها تتشوّه هويّتها، ويضعف انتماء أبنائها إليها، كأنّ قيمنا الإسلامية لا أثر لها على من ينتمي إليها! فهي دعوة -غير مباشرة- لاحتقار الذات والانبهار بالآخر، وبالتالي تجاوز هذا التاريخ وفتح صفحة جديدة بالانتماء لحضارة متقدّمة غالباً ما يقصدون منها الحضارة الغربيّة.
سادساً: عند القراءة التي تقتصر على الإيجابيّات يظهر واقعنا أَسْود كالحاً مُظلماً بالمقارنة بما ينتهجه دعاة القراءة التمجيدية “فتاريخنا مجموعة من القادة الأبطال المخلصين، وواقعنا مجموعة من القادة الشياطين” سواء الحكام ورؤساء الدول، وحتّى قيادات الجماعات الإسلاميّة، ومدراء المنظّمات والمؤسّسات، فيصيبنا الإحباط من واقعنا، ويتساءل الإنسان بيأس “فأين نحن من عظماء تاريخنا”؟!!
ولعل هذا هو سببُ ما نشاهده من اعتياد الناس اليوم إسقاط أيّ قائد من قادتنا لأصغر خطأ، لأنّنا لم نقرأ تاريخنا بموضوعيّة، ونعرف أنّ أولئك القادة في تاريخنا عندهم أخطاء، كما لقادتنا المعاصرين المخلصين أخطاء.
وأختم بملاحظتين:
الأولى: إن تاريخنا بعمومه مصدر فخر واعتزاز لنا نحن معاشر المسلمين، فهو تاريخ أسلافنا وأجدادنا الذين أسّسوا حضارة شهد لها القاصي والداني، ونعتقد أنّه بعمومه أفضل من تاريخ غيرنا من الأمم، ممن عاش نفس الحقبة التاريخية، فهو التجربة البشريّة التي طبّقت مبادئ الإسلام وقيمه وأحكامه، ونشرت دين الله في بقاع المعمورة.
وهذا الافتخار ليس مدعاة لأن نحتقر غيرَنا من الأمم، بل نحترم غيرنا، ولا يدفعنا حبّنا وعاطفتنا نحو أمّتنا أن نظلم غيرنا ونجحف بحقّهم، فالباطل الخالص نادر في الحياة، كما أنّ الحقّ الخالص نادر كذلك.
وكما للمسلمين تاريخ يفتخرون به فللأمم الأخرى ما يدعو للفخر والاحترام أيضاً، وإلا لما قامت دولهم ولا استقرّت، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الإنصاف في الحكم على المخالفين، فشهد لملك غير مسلم -وقتها- بأنّه عادل ولا يُظلم عنده أحدٌ (النجاشيّ).
وقد شهد الصحابيّ عمرو بن العاص للروم أنّ فيهم خصالاً خمسة جيدة أهّلتهم لأن يكونوا من أكثر الناس عند قيام الساعة، فقال: (إنّ فيهم لخصالاً أربعاً: إنّهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك)[1].
وقال الإمام ابن تيميّة رحمه الله: (اللهُ ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة! ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة!)
الملاحظة الثانية: من الظلم محاكمة تاريخنا بقيم وثقافة عصرنا الحاضر، بل ينبغي قراءة تاريخنا في سياقه التاريخيّ، وفق ثقافة عصرهم، ومقارنته مع تاريخ الأمم الأخرى، لا مقارنة تاريخنا بحاضر الأمم الأخرى، نعم يمكن بل يجب محاكمة تاريخنا للمنهج الإسلاميّ والمبادئ الإسلاميّة، وعلى كلّ حال فميزاننا هو المبادئ والقيم والأحكام الإسلاميّة، لا التجارب التاريخيّة.
[1] رواه مسلم.