من آفاتنا عدم التوازن الوعظي.. فمنهج القرآن الموازنة بين الترغيب والترهيب، بينما خطابنا الوعظي اتسم بتغليب الخوف على الرجاء، مما أدى إلى وسوسةٍ سلوكية، وفي كثير من الأحيان إلى القنوط واللامبالاة،على مبدأ: (أنا الغريق فما خوفي من البلل)، كما أنه أدى في حالات أخرى إلى السلبية واعتزال الشأن العام.
كقولهم: (حبُّ الظهور يقصم الظهور).. و(لا تدبّر لك أمراً فذوو التدبير هلكى).. صحيحٌ أن مثل هذه النصوص لها معانٍ تربوية جيدة، إذا استُعملت كدواء لصاحب داء تلزمه جرعة إخلاص، أو جرعة توكّل على الله!!
لكن أن تصبح هذه النصوص هي الغذاء لكلّ الناس.. فستحصل على مجتمع سلبي عاجز يائس
فمن الجريمة في حقّ مجتمعاتنا الإغراقُ في نوعٍ من الخطاب الانعزاليّ السلبيّ، وعدم شفعها بنصوصِ العمل والجدّ والإيجابية، فقد أدّى ذلك لعجز الصالحين، وفاعلية غيرهم.. الذي اشتكى منه سيدنا عمر رضي الله عنه: “أعوذ بالله من جَلَدِ الفاجر وعجز الثقة“!!
فقد تمَّ التعتيم على نصوص الرجاء وحسن الظن بالله والفاعلية والقوة والإقدام.. والواقعية.. تعتيم حتى على قصص السلف الصالح الواقعية، مثل: جاء رجل إلى أحد الصالحين فقال له: أخاف النفاق!!
فقال له: ألستَ تذكر الله في الخلوة؟ قال: بلى، قال: فأنتَ لستَ منافقاً.
ويروى أنّ رجلاً قال لأحد المحدّثين: هنيئاً لك كل هذا الحديث جمعتَه لله!
فقال -بواقعية وتواضع-: أما كلُّه لله فكثير؟! لكنْ هذا شيءٌ أحببناه فعملناه.. أسالُ اللهَ أن يغفر لنا به“.. هذه قصص واقعية قابلة للتطبيق.. بينما ينتقي الوعاظ قصص عن سلفنا الصالح أقرب للخيال كأنهم ملائكة لا يفترون عن العبادة والزهد!! فيقول المستمع في نفسه أين نحن من هؤلاء ويعود لحياته الطبيعية الواقعية.. ولو طلبنا منه المستطاع الواقعي لرحّب به وطبّقه..
ومن الخطاب الذي ترك ندوباً في نفس المستمع الخطاب الذي يدعو لقمع النفس وسحقها واتهامها وكسرها.. ومن أدبياتهمقولهم: الزيتون لا يحلو دون هرس… يا أخي هذه نفس بشرية وليست زيتوناً.. وكما ذكرتُ سابقا يمكن ان يكون هذا دواء لمن نفسُه فيها تكبّر وتعجرف وصل حدّا مرضياً فيلزمه الدواء.. لكن ان يصبح هذا الخطاب هو الغذاء للجميع فهذا سيؤدي لنفوس مكبوتة مسحوقة.. وإنسان مجتمعاتنا المقهورة لا ينقصه شيء من هذا..
ومن نِعَمِ الله تعالى أن وصلتنا ثقافة غربية جديدة، وانتشرت بيننا فأعادت شيئاً من التوازن إلى عموم شبابنا، وهي ثقافة التنمية البشرية والتحفيز والتخطيط وطُرُق النجاح والتفوّق في الحياة..
صحيحٌ أنّ الإكثار والمبالغة بهذا الجانب ربما أورث المتلقي تورّماً في تقدير الذات مبالَغاً فيه، فيعتقد الشاب نفسَه وحيدُ عصره وفريدُ دهره، وأنه سينجح بمجرد إرادته ذلك، دون الأخذ بأسبابِ النجاح.. والحلّ بالخطاب التشجيعي المحفّز المتوازِن… فشكراً للتنمية البشرية..