التجديد الدينيّ والإلحاد الجديد؟!!

كثر الحديث في أيامنا عن التجديد الإسلاميّ، وكثر التساؤل عن ضوابطه وملامحه وتأييده، والقول بوجوبه وضرورته، وبالمقابل الريبة منه والتشكيك فيه وبدعاته، فهل ديننا يحتاج حداثة أو تحديثاً أو تجديداً أصلاً؟!

كما كثر الحديث عن ظاهرة الإلحاد الجديد وأسبابها وطرق علاجها.

ومن العجائب أنّ الإسلاميّين أنفسهم يتراشقون التهم، فالتجديديّون الميسِّرون يرون المتشدّدين سبباً للإلحاد (فهم غلاة منفّرون)، كما أنّ الجامدين والمتشدّدين يرون الميّسرين سبباً في الإلحاد فهم (مميّعون يجعلون الناس يتحلّلون من تعاليم الإسلام)!

مع أنّ الواقع يقول: إنّ الغلوّ يسبب الإلحاد، ولم نسمع بمن ترك الدين بسبب التنويريّين أو المجدّدين أو الميسّرين!

سأحاول بهذا المقال وضع مقدّمات للجواب عن هذا الإشكال، وبيان دور التجديد المقبول في الحدّ من ظاهرة الإلحاد.

الإلحاد الجديد:

ممّا لم يعد يخفى على أحد انتشار ظاهرة الإلحاد بين المسلمين، بل أزعم أنّ ظاهرة الإلحاد ما يظهر لنا منها: (رأس جبل الجليد) فقط، وما خفي كان أعظم، وما نراه من مظاهر إلحاديّة أمر بسيط بالنسبة إلى الحركة الإلحاديّة التي ستأتي وتزداد نوعاً وكمّاً، وأسأل الله تعالى أن أكون مخطئاً في توقّعاتي!

وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ أسباب الإلحاد الجديد كثيرة، أحصيتُ في محاضرة لي منشورة على اليوتيوب بعنوان: (أسباب الإلحاد وطرق المواجهة)، ستّة عشر سبباً، فمن الإجحاف تحميل سبب واحد كامل الظاهرة، كما ننبّه إلى أنّ شبهات الإلحاد الجديد كثيرة وجديدة، بل ومتجدّدة فكلّ يوم هناك جديد، فلا تكفي الكتب القديمة للمواجهة، ولا يكفي علم لمواجهتها، فهناك شبهات من العلوم النظريّة والتطبيقيّة كلّها، وهذا يجعلنا نحتاج كلّ الخبرات والكفاءات والتخصّصات.

وما يعنيني هنا من أسباب الإلحاد الجديد الكثيرة سبب مهمّ، وهو الخطاب الإسلاميّ، وبعض الاجتهادات الإسلاميّة المشكلة على عقليّة إنسان عصرِنا، عصرِنا الذي أضحت فيه الفلسفات والأنظمة والدول تتنافس بخدمة ورفاهية وحماية ورعاية الإنسان، كلّ الإنسان.

فهذا الانفتاح المتسارع على العالم في زمن الإنترنت وسهولة التواصل، جعل عَقْدَ المقارنة بيننا وبين بقيّة أمم الأرض المتحضّرة ممّا يتيسّر لأيّ إنسان، وهو جالس ببيته، وبالصوت والصورة كذلك!

وهذه الموجة الإلحاديّة ستساهم -بما يترتّب عليها من جدل وتأثير متبادل بين الملحدين من جهة، وبين الدعاة والعلماء من جهة مقابلة- في ترقية (خطابنا الإسلاميّ)، وبالتالي بتحسين (نوعيّة التديّن) فسننتقل من التديّن الشكليّ الطقوسيّ إلى القيميّ الأخلاقيّ الذي يركّز على المعاملة الحسنة، والذي لا يهمل الطقوس طبعاً، فـ(لا تحسبوه شرّاً لكم، بل هو خيرٌ لكم).

ويمكن التنبيه على بعض الخطابات الإسلاميّة المنفّرة على سبيل المثال لا الحصر:

أ- خطاب إسلاميّ متشدّد يجعل الاستمساك بأهداب الشريعة الغرّاء يستلزم أن يعيش المسلم على هامش الحياة، فدائرة المحظورات تغطّي معظم جوانب الحياة في ذلك الخطاب!

 ب- خطاب كراهية وحقد داخل مجتمعاتنا، مقابل مبادئ التسامح والتعايش في المجتمعات الراقية، طبعاً أتكلّم هنا عن ثقافتهم داخل دولهم ومجتمعاتهم، وهذا لا يعني عدم وجود خطاب كراهية في تلك المجتمعات، نتيجة وجود اليمين المتطرّف، ولا يلغي ذلك السياسات الخارجيّة المصلحيّة البعيدة كلّ البعد عن مبادئهم الداخليّة التي يلتزمون بها مع مواطنيهم!

ولكن نتكلم عن الثقافة العامّة المنظَّمَة والممنهجة التي يحميها التعليم والإعلام والقوانين والأنظمة في تلك الدول.

ج- خطاب إسلاميّ يفصل بين الحكم الشرعيّ وبين حِكمته وفائدته والغاية والهدف منه في حياة الناس ودنياهم، فمهما كان الحُكم المستنبَط غريباً يجب أن تسمع وتطيع فالاجتهاد مشتَق من نصٍّ مقدّس، وهنا نقول على عجالة: “هذا فهمك واجتهادك، وليس مراد الشارع الحكيم!.

الإنسانيّة ليست اختراعاً ماديّاً:

جعل الله تعالى الإنسان محور الكون، وسخّر له سمواته وأرضه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأرسل له رسله وأنزل عليه كتبه (إنّي جاعل في الأرض خليفة)، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}

وشرع الله تعالى للإنسان من القيم والأخلاق والأحكام وأرشده ووجّهه بما يكفل له سعادته وأمنه في الدنيا والآخرة، فالإسلام هو دعوة مبكّرة للنزعة الإنسانيّة مقابل الأديان القديمة التي كانت تهدر الإنسان قرباناً لآلهتهم! فالإنسانيّة ليست اختراعاً من الفلسفة الماديّة، فقد سبق الدين الخالد لها!

وهنا لا بدّ من إبراز موقف الإسلام المشرّف تجاه حقوق الإنسان، ومراعاة تلك الحقوق عند الاجتهاد والترجيح والفتوى والخطاب المعاصر.

بين الفقيه والمفكّر:

سنتحدّث هنا عن الفروق بين الفقيه والمفكّر، أو بين الكلّيّات والجزئيّات، أوبين الفقه والأخلاق، فهناك فصام نكد –أحياناً- بين الاجتهادات الفقهيّة الفرعيّة والرؤية الكلّيّة من جهة، وبين الفروع الفقهيّة وبين الأخلاق من جهة أخرى!

فكثير من عامّة المسلمين ومثقّفيهم استمعوا للخطباء أو قرؤوا للمفكّرين، فأعجبهم الإسلام الذي يحترم القيم وينادي بالأخلاق ويحافظ على المبادئ، وله فلسفة تشريعيّة حكيمة متناسقة ومتناسبة ومنتظمَة.

ولكنّهم يتفاجؤون عندما يحتكّون ببعض الفقهاء فيجدون هذه المنظومة القيميّة الرائعة قد اختلطت وغابت -في كثير من أحيان- فالأحكام مشتّتة هنا، تشدّد فيما يستحقّ التيسير، وهنا تساهل فيما حقّه التشديد!

وما ذلك إلا لأنّ المفكّر ينظر في الكلّيّات ويسلّط الضوء على جماليّات الإسلام ونُظُمِه وقواعده الكلّيّة، بينما الفقيه ينغمس في الجزئيّات منشغل –في كثير من الأحيان- بالنصوص الجزئيّة والاشتقاقات اللغويّة ودلالاتها، ويسهو عن المقاصد الكلّيّة والمبادئ الأساسيّة والقيم الإسلاميّة.

وبالتالي يحبّ الناس الإسلام القيميّ الأخلاقيّ كما يذكره الخطباء والمفكّرون، وهم لا يعرفون بعض الاجتهادات التي تضادّ الكلّيّات الجميلة، ويصطدمون بها عندما تطفو على الإعلام، ويستشكلونها كثيراً، والحقّ معهم!

مثلاً: الزواج بنيّة الطلاق، ولا يُعلم الخاطبُ البنتَ ولا أهلَها.. فلو ناقشتهم في حرمة ذلك، لأنّه خيانة مبيّتة -مع سبق الإصرار والترصّد- لقالوا لك: هو ينوي الطلاق والطلاق مباح، كما أنّ النيّة لا يُحاسب عليها الإنسان؟!

ونسي القائل حديث: (أترضاه لأختك؟ وأتراضاه لأمّك؟) ونسي أنّ الأصل في العقد التأبيد، وأنّ الأهل أعطوا ابنتهم ورضيت الفتاة بناء على أنّها ستبقى مع هذا الرجل مدى الحياة، إلا إنْ طرأ طارئ وتعذّرت الحياة بينهما، فعندها تطرأُ نيّة الطلاق وفعله.

فلو كانت الفتاة تعرف أنّ هذا الرجل ينوي الزواج بها مدّة ثمّ سيتركها، (بعد أن يُفقدها عذريّتَها) لما قبلت الارتباط به أصلاً!

فهنا نَظَرُ الفقيه انحصر بآليّات إجرائيّة (مباحة) تمّ تركيبها مع بعضها (نيّة مكتومة غير محاسب عليها، لفِعْلٍ مباح وهو الطلاق) وغفل عن حيثيّات المسألة ومآلاتها ونتائجها الكارثيّة على الفتاة المطلّقة في أغلب البيئات في زماننا هذا!

فهنا الفقه انفصل عن الأخلاق تماماً في هذه المسألة، أين الصدق؟ فالمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، أين الأمانة؟ أين الشهامة؟ أين حفظ أعراض الناس ونسلهم؟ أين الحفاظ على نفسيّة الفتاة وأهلها؟.. هذه المعاني كلّها تُهدر في هذا الاجتهاد القاصر.

الشرع يراعي مصالح العباد وييسّر عليهم:

عندما نقول: (الدين جاء لإسعاد الناس في دنياهم وآخرتهم)، قد يقول قائل: ليس من الضروريّ أن يسعد الإنسان في الدنيا، بل يكفي أن يفوز بالسعادة الأخرويّة..

ونقول: إنّ الله سبحانه وتعالى غنيّ عن العالمين، غنيّ عن عباداتنا وطاعاتنا، فلا تضرّه معصيّة، ولا تنفعه طاعة، لكنّه أنزل لنا شرائع وتعاليم الدين لتنظيم علاقات البشر، وسائر شؤون حياتهم في عالم الغيب والشهادة، لحماية الإنسان ورعاية مصالحه وسعادته: ((ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)) ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [النحل : 97]

وبالمقابل: ))وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا، وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيامَةِ أَعمى(([طه: 124]

النكد ليس شرطاً في التديّن:

مع الأسف هناك تصوّر أن المتديّن كلّما كان غير مرتاح، كان أقرب إلى الله، فالأصل بالمؤمن البلاء والعيش الضنك والمشقّة والعسر والضيق، وكأنّ المشقّة مقصودة لذاتها، وبهذا التصوّر الخاطئ يتمّ تسويغ كلّ الاجتهادات المتشدّدة المرهِقة..

 بينما النصوص التي تذكر جزاء المشقّة والمصائب تذكرها لتهوينها على نفس من يصيبه بلاء، مواساةً وتخفيفاً عن العباد، لا كما قد يتوهّمه بعضهم، من أنّ المشقّة مقصودة لنيل الثواب، كما ذكر لي أحدهم مرّة: (ينبغي أن نسلك الطريق الأبعد إلى المسجد، لكونه أكثر ثواباً!!) ونسي الأخ أنّ التبكير في دخول المسجد له ثواب، وانتظار الصلاة له ثواب، وهو في صلاة ما دامت الصلاة تحبسُه.

 فذِكْر الشارع الحكيم ثواب المسير للمسجد وحسنات كلّ خطوة، لكيلا يستثقل الذاهب للمسجد طول الطريق أو مشقّته في البرد أو الحرّ، ويعلم أنّ كلّ مشقة تصيبه في أثناء ذهابه للمسجد له به أجر.

 وهكذا كلّ ما ذُكر من ثواب للمصائب والأمراض والهموم وغيرها.. للمواساة وكرماً منه سبحانه، حتّى يخفّف عناء عباده المبتَلِين، وليس المقصود أن المصائب مقصودة مطلوبة، نسأل الله العفو والعافية!

فمن حيث تعاليم وأحكام ديننا، فالعَنَت والمشقّة والحرج والشقاء كلّه مرفوع في شريعتنا.

والأصل في الأشياء الإباحة في شريعتنا، ما لم يرد نهي عن شيء ضارّ للنفس أو للمجتمع، ولكنّ نفراً من الفقهاء كان مزاجهم التشدّد، وهذا الغالب على فتاويهم حتّى سمّى بعضُهم منهجَ أولئك الصنف من الفقهاء بـ(فقه النكد) فكلّ لهو أو ترويحٍ حرامٌ، وكلّ فنّ أو توسّع حرام، والأصل في معاملات الناس الشكّ والريبة والحُرمة!! فقلبوا القاعدة فأصبحت: (الأصل في الأشياء المنع ما لم يرد نصّ)!

مع أنّ النبيّ ☺ كان متشوّفاً نحو إبقاء دائرة التحريم ضيّقة، لذلك نهى عن كثرة السؤال، وأخبر أنّ أعظم المسلمين جُرماً من سأل عن شيء فحُرّمَ من أجل مسألته[1]، وكان يخشى أن تُفرض بعضُ السنن على المسلمين، لذلك كان يتركها أحياناً ولا يداوم عليها، ويقول: (خشيتُ أن تُفرض) فهل مزاج وعقول وقلوب أولئك الفقهاء المتشدّدين مثل رسول الله ☺؟!

بل بعضهم تشعر أنّه يتلذّذ بتحريم الأشياء على الناس، بينما روى لنا علماؤنا الثقات عن بعض علمائنا الورعين الصالحين أنّهم كانوا يبحثون عن أسهل الأقوال، ويفتون بها الناس توسعةً وتيسيراً، ومنهم شيخ مدينتي في حمص الشيخ محمود جنيد رحمه الله المعروف بالزهد والورع والصلاح (كان متقناً للمذهبين الحنفيّ والشافعيّ المنتشرين في ديارنا) روى لنا تلامذته أنّه عندما وجد قولاً في المذهب الحنبليّ فيه سعة وتيسير حيث يجيز معاملة ماليّة راجت في مدينتي، كاد الشيخ أن يرقص من الفرح!

فمقصود الشارع الحكيم التيسير على عباده ورفع الحرج والمشقّة عنهم: نصّ على إرادته ذلك صراحة بنحو قوله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) وانتبه إلى قوله تعالى: (يريد) فهو مقصود صراحة، [البقرة: 185] ((َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)) [الحج : 78]

فكلّ اجتهاد فقهيّ يوقع الناس في الحرج والعنت والمشقّة، ينبغي البحث عن سواه، فلم يُخيّر رسولُ الله ☺ بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثماً[2].

 طبعاً ليس ذلك قاعدة مطّردة، فما كان فيه هضم لحقوق الآخرين فنحتاط فيه، لأنّنا في هذه الحالة نكون قد أوقعنا الطرف الثاني في الحرج، وما كان فيه تقحّم في المحرّمات القطعيّة نبتعد عنه أيضاً ونحتاط فيه، لأنّ الشارع الحكيم لم يحرّمها إلا وفيها مفسدة لنا، وقد فصّلت في ذلك في كتابي: (ضوابط التيسير في الفتوى، وهو منشور على الشبكة).

يقول ابن القيم ؒ: “فصل في بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد:

هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقّة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أنّ الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإنّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلّها، ورحمة كلّها، ومصالح كلّها، وحكمة كلّها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظلّه في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله r أتمّ دلالة وأصدقها”[3]

لا تخلط بين اجتهادك وحكم الله تعالى:

من الظواهر المنتشرة عند الاعتراض على معقوليّة ومنطقيّة وحِكمة وفائدة بعض الاستنباطات والاجتهادات، يتم استدعاء نصوص السمع والطاعة، واتباع الله ﷻ ورسوله ☺، وعدم اتباع الهوى..

وهنا نقول: هم لا يعترضون على أحكام الله تعالى، بل على اجتهادك في معرفة مراد الشارع الحكيم، فما كان من المحكمات والثوابت من المسائل التي نُصّ عليها وعُرفت في الشريعة من غير اجتهاد ولا استنباط، مِن المعلوم من الدين بالضرورة كأمّهات الواجبات والمحرّمات، هذه يمكن أن نستدعي لها نصوص السمع والطاعة، أمّا الاجتهادات الظنيّة (وأغلب الاجتهادات ظنيّة) التي اختلف فيها الفقهاء أصلاً، وأنكر بعضُهم فيها على بعض! بل ردّ بعضهم فيها على بعض! هذه يسعنا الانتقاء منها والاختيار فيها، لكن في ضوء مقاصد الشارع الحكيم، وقيم ومبادئ الإسلام وليس بحسب الهوى!

قراءتان لأحكام الإسلام: بين التعليل والتوقيف:

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك قراءتين لأحكام الإسلام:

القراءة الأولى: قراءة تجعل تعاليم الإسلام غير معقولة المعنى وهو ما يعبّرون عنه بأنّ الأصل فيها التوقيف (تعبّديّة) يجب الالتزام بها تعبّداً، أي امتثالاً واستجابة للأمر، وليس معرفة بالهدف والغاية والفائدة، فالأحكام الشرعيّة الأصل فيها ذلك، وبالتالي يمكن وفق هذه القراءة أن تصبح كلُّ آية كريمة وكلُّ حديث صحيح الإسناد مبدأً ومصدراً للأحكام والتشريع، بغضّ النظر عن السياق والحال والظرف والخصوصيّة، لعدم وجود قواعد مستنبَطة حاكمة بأنّها الأصل، وما يخالفها خارج عن القاعدة، فعند القول بتعليل الأحكام نستنبط من عللها وحِكمها قواعد ومبادئ ومقاصد نجعلها أصلاً، فما خالفها نلجأ للتخصيص أو التقييد أو التأويل أو النسخ أو عدم العمل به..

فعند من يقول إنّ (الأصل عدم التعليل) كلُّ نصّ دينيّ مبدأ مستقِلّ قابل للتطبيق بغضّ النظر عن بقيّة النصوص، يكفي أن تكون الآية واضحة الدلالة، والحديث صحيحاً حتّى يُعمل بهما، وبالتالي أنت أمام نصوص كثيرة جدّاً لا ينظُمها شيء بنظر هؤلاء.

 طبعاً الكلام بالعموم وليس بالإطلاق، فالكلّيّات العامّة متفَق عليها، وهي ما يسمّى “ما يُعلم من الدين بالضرورة” أي يعرفه كلّ مسلم يعرف الإسلام، فمن مقتضيات هذا المذهب (الأصل في الأحكام عدم المعقوليّة) ما يؤدّي لقراءات للإسلام لا تنتهي، فالنصوص-عندهم- كأحجار البناء، يستطيع كلّ بنّاء تشكيلها كما يشاء، وبالتالي ظهرت اجتهادات (ليس أوّلَها ولا آخرها داعش).

 قراءات قد تهلك الإنسان مقابل إرضاء الإله (بزعمهم)، وقد تجعلك تعادي العالمين، وتعلن حرباً مفتوحة عليهم، بل قد تقتل أقرب الناس إليك بذريعة الردّة!

وينطبق على هذه القراءة –برأيي- قولهم: (الاتّباع الأعمى)، فهو اتّباع دون معرفة الفائدة أو الحكمة أو العلّة من الحُكم.

وأيّ واحد يعترض على هذه القراءات، فالاتّهامات جاهزة، فهو إمّا: منبهر بالغرب، أو عميل لهم، أو متقاعس أو جبان، أو مرتدّ أو يقدّم عقلَه على النصّ، أو قرآنيّ!

كما ظهر بالمقابل قراءات استخدمت النصوص دون قواعد ولا منهج ناظم فتحلّلت من الإسلام ونقضته عروة عروة، باستدلال من الكتاب والسنّة كذلك!

وأيّ واحد يعترض، كذلك التّهم جاهزة: تقليديّ رجعيّ متشدّد داعش جامد..

أمّا القراءة الثانية ترى أنّ تعاليم الإسلام الأصل فيها التعليل والمعقوليّة وظهور الحِكمة والغاية والهدف والفائدة.. وللأحكام أنساق وقواعد واضحة ترعاها النصوص وتؤكّد عليها، وبالتالي فتعاليم الإسلام متناسقة متفهّمة ترعى مصالح العباد، وتحفظ حقوقهم وتنظّم حياتهم بما يكفل سعادة الجميع.

السؤال: بأيّ هذه القراءات نأخذ؟

عند اختلاف القراءات أو الاجتهادات القديمة والحديثة، بأيّ هذه القراءات والاجتهادات نأخذ؟

ينبغي ترجيح القراءة الثانية، فالفقه هو الفهم، وكلّما علا كعب الفقيه كان ملتزماً بالقراءة الثانية أكثر.

وتطبيقات هذه القراءة ليست منحصرة بمذهب فقهيّ معيّن، فعندنا ثروة فقهيّة رائعة، وكلّ فقيه له فتوحات وإشراقات اجتهاديّة لا تخطئها عين الباحث.

وهنا نحتاج مرجّحات أو ضوابط، وأقترح ما يلي:

1- القيم الكبرى التي جاءت تعاليم الإسلام لترسيخها كالحقّ والخير والعدل والشورى والرحمة والجمال والتعاون على الخير.. والتضييق على الشرّ.

2- مراد الشارع الحكيم ومقاصده وأهدافه من التشريع، أي ما يسمّى مقاصد الشريعة الكلّيّة وهي ستّة تمثل أمّهات حقوق الإنسان، وهي حفظ دينه ونفسه وعقله ونسله وعرضه وماله، أو ثمانية، بإضافة: العدل والحرّيّة.

3- مقاصد الشارع الجزئيّة وذلك بمراعاة مقاصد الشارع في كلّ باب فقهيّ، ثمّ مقاصد الشارع في كلّ مسألة فرعيّة، فالشريعة متكاملة متعاضدة تنظمها قواعد، فلا يضرب بعضها بعضاً، كلّها مسحوبة بخيوط نحو مقصد كلّيّ واحد؛ هو مراعاة مصالح العباد، وتحقيق السعادة لهم في الدينا، ومن يلتزم بها يجازيه الله تعالى بسعادة الآخرة.

4- التيسير ورفع الحرج والعنت والمشقّة، بما لا يتعارض مع المقاصد السابقة.

فخلاصة القول: نحن مبتلون بتيّار تجديد دون ضوابط، وتيّار ضوابط دون تجديد، والمطلوب تجديد أو تحديث بضوابط، ولا مشاحة بالاصطلاح إذا اتفقنا على المعانيّ، والمدلولات، والمرجّحات في التجديد الفقهيّ الذي نراه:

(معقوليّة) الأحكام المتمثّلة بالتعليل ومراعاة المقاصد و(إنسانيّة) الأحكام المتمثّلة برعاية مصالح الإنسان والتيسير عليه.

بذلك نكون ساهمنا في القضاء على سبب هام من أسباب الإلحاد الجديد، وقبل ذلك نكون قد أرضينا ربّنا واتّبعنا مراده وشريعته كما يحبّ ويرضى، والله الموفّق.


[1] تخريج؟؟

[2] ؟؟

[3] إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين، ابن القيّم، (3 / 2)




تاريخنا بين الاعتبار والتوظيف

تكمن أهميّة التاريخ في كونه بيت الخبرة البشريّة، لأنّه يثبت ويوثّق حركة المجتمعات والدول والأمم في أيّام سلمها وحربها، في أوقات ازدهارها وتطوّرها، وفيّ أيّام انتكاسها وتقهقرها.

ومن خلال رصد الخط البيانيّ لحركة تاريخ الأمم والدول صعوداً وهبوطاً، وتحليل الأسباب التي أدّت إلى الهبوط والتخلّف والضعف، وإحصاء العوامل التيّ ساهمت بالصعود والتطوّر والتقدّم والقوّة والازدهار، نستخلص من تحليل ذلك الخطّ البيانيّ سنناً وقواعد اجتماعيّة تفيدنا في حياتنا، فنتجنّب أسباب التخلّف والضعف، ونحرص على الالتزام بعوامل النهوض والقوّة.

بهذا ينتقل علم التاريخ من حفظ الروايات والتفاصيل والقصص، إلى الاعتبار والفائدة، فتصبح قراءة التاريخ ذات فائدة عمليّة، فلا يعود قصصاً وروايات وأحداثاً حصلت في الماضي، بل قواعد وسنن وعادات حاكمة، وأسباب ومقدِّمات ترتبط بنتائجها، فتحكم تلك القواعدُ الواقعَ، وبما أنّ القواعد تتكرر فمما يعيننا على فهم التاريخ فهم الواقع ومما يعيننا على فهم الواقع فهم التاريخ، فالإنسان هو الإنسان بدوافه ونوازعه وأطماعه وخيره وشره، وبفهم تلك القواعد يمكننا استشراف المستقبل،

وهنا نؤكّد على أمرين:

 أوّلاً: إنّ التخلّف له أسباب وليس سبباً واحداً، كما أنّ النهوض له عوامل وليس عاملاً واحداً، هذه الحقيقة تساعدنا عند وضع الخطط الإصلاحيّة التي تراعي ذلك.

ثانياً: نؤكّد على تعدّد مسارات وجوانب التاريخ، فهناك الجانب السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والعلميّ والنفسيّ والدينيّ.. وكل مسار يؤثّر تغيّره -سلباً أو إيجاباً- على بقيّة المسارات.

أنواع قراءة التاريخ

لكن علينا الانتباه إلى أنّ هناك أسلوبين ينتشران بكثرة في قراءة التاريخ وكتابته وروايته، يجمع بينهما أنّهما قراءة انتقائيّة توظيفيّة:

القراءة الأولى: قراءة مناقبيّة تقديسيّة للتاريخ:

حيث يتمّ استدعاء الصفحات المشرقة من التاريخ بحيث يظهر أنّه تاريخ أبيض ناصع، وأشخاصه ملائكة، فكلّه تاريخ انتصارات وبطولات وتضحيات ومآثر ومفاخر.

غالب من كتب التاريخ بهذه الطريقة من المعاصرين كتّاب إسلاميّون غيورون، وتمّ توظيف تلك القراءة في بعث العزّة والفخر في نفوس المسلمين في خلال القرن الفائت، وما زالت هذه القراءة مستمرّة إلى أيّامنا هذه.

وسبب تلك القراءة خُلُوُّ واقع المسلمين الحاضر من الصور المشرقة حيث التبعيّة والضعف والانكسار أمام الآخر، والمرء حين يفلس واقعه من المفاخر يعود بذكرياته إلى أيّام العزّ والإنتاج والعطاء، وكذلك فعل هؤلاء المصنّفون حيث أرادوا إعادة التوازن النفسيّ للشباب المسلم، أمام الانبهار والتبعيّة للغرب، والشعور بالمهانة.

وعلى العموم فقد كان ظهور هذا المنهج ردة فعل على الهجوم غير المبرر على العالم الإسلامي وتراثه في القرن الفائت. وسنعود بعد قليل لذكر سلبيّات هذه القراءة.

القراءة الثانية: قراءة كيديّة تدنيسيّة لتاريخنا:

حيث يتمّ استدعاء الصفحات السوداء المشينة من التاريخ، ويتمّ جمعها بحيث يعرض تاريخنا على أنّه تاريخ مجموعة من الشياطين، حيث قتلُ الخصوم حتّى من الأقرباء والعلماء والصالحين، واتّباع الشهوات من النساء والخمور وتبديد الأموال والحروب الداخليّة والظلم والفساد والاستبداد، وغالب من يقومون بهذه القراءة أصحاب أيديولوجيات مناهضة للإسلام.

القراءة الثالثة: القراءة الموضوعيّة المنصِفة:

وهي التي نطالب بها وذلك بأن تنقل حوادث التاريخ كما رُويت، ثم ندقق فيها بموضوعية تامة للاقتراب من الواقع والحقيقة قدر المستطاع، وإن ادعاء دقة المرويات التاريخية وصدقها أمر صعب المنال، يستثنى من ذلك ما ورد في رواية السيرة النبوية وبعض فترات التاريخ الإسلامي من اعتماد السند والتوثيق.

بل نروي التاريخ رواية بشريّة تؤمن أنّ أشخاص تاريخنا بشرٌ، فليسوا ملائكة ولا شياطين، بشر يصيبون ويخطئون، يحرصون على مبادئهم ويراعون مصالحهم، وهم في صراع دائم بين المبادئ والمصالح -شأنهم في ذلك شأن كلّ البشر- أحياناً ترجح في تصرفاتهم المصالحُ، وأحياناً ترجح المبادئ، مع إيماننا بامتياز القرون الإسلامية الأولى.

 فيظهر من خلال تلك القراءة أنّ تاريخنا تاريخ تجارب بشريّة تحاول الالتزام بالمنهج الإسلاميّ، وتخطئ وتصيب. فيظهر تاريخنا لا (أبيض ملائكيّاً) ولا (أسود شيطانيّاً) بل بشرياً خالصاً، يقترب من البياض أحياناً، ويقترب من السواد أحياناً أخرى، بحسب التزامه بالمنهج الإسلاميّ والقيم الربانيّة، وهذا أمر طبيعي، فعالَم القِيَم والمُثُل والكمال المطلق عالمٌ مثاليّ، والواقع فيه وفيه، فيكون المجتمع فاضلاً كلّما اقترب من عالم المُثُل، وتقلُّ فضيلته كلّما ابتعد!

أضرار القراءة التمجيديّة والتدنيسية للتاريخ:

عند التأمل في القراءة (التمجيديّة) وهي الأكثر في الساحة الإسلاميّة اليوم، والقراءة (التدنيسية)، والتي يقودها –غالباً- أعداء الإسلام، فإننا نجد أن ّلهما تأثيراً سلبياً على نمط تفكير المسلمين، فمن أضرارها:

أوّلاً: خيانة الحقيقة من خلال التساهل في التثبّت من صحّة تلك الأخبار، ما دامت تخدم السياق الذي يتكلم فيه المؤلف تمجيداً أو تشويهاً.

ثانياً: أنّها قراءة انتقائيّة تنقل صفحات من التاريخ ولا ترويه كاملاً بحلوه ومرّه، بلحظات ضعفه وقوّته، ويلاحظ اقتصارها –غالباً- على التاريخ السياسي الذي تكثر فيه الحروب والنزاعات، بين الدول والجماعات، والمكائد على الكرسي وقتل المعارضين والخارجين عن الدولة، كما يتم التركيز على حياة القصور التي يُتَوَسّع فيها بالشهوات المباحات، وقد تصل للمحرمات، بينما يتم إهمال التاريخ الاجتماعي والدّعَوي والعلمي.

ثالثاً: أنّها قراءة توظيفيّة، حيث يتمّ رواية التاريخ للتوظيف سواء التقديس للتفاخر والحثّ على استعادة تلك الأمجاد السالفة. أو التدنيس للتشويه والحضّ على تجاوز ذلك التاريخ، فنلحظ في هذين المنهجين تضخيم الحوادث والشخصيات أو تحقيرها بحسب نهج القراءة التي يسلكها المؤلف.

رابعاً: تبطل أهمّ فائدة لقراءة التاريخ، وهي الاعتبار والاستفادة من تجاربه، واستخلاص القواعد التي تحكم حركة البشر والمجتمعات والدول والأمم، فلو اقتصرنا على المراحل المزدهرة أو المتخلّفة، كيف سنعرف أسباب الضعف والتخلّف والانكسار، أو عوامل الرفعة والقوة والتقدّم والحضارة؟!!

فالقراءة التمجيديّة للتاريخ تمنعنا من معرفة أخطاء الماضي، فمن لم يقرأ التاريخ سيعيده، فنقع بالأخطاء نفسها، ولا نحاول تجاوزها بإيجاد حلول لها، فنعيد المقدّمات نفسها ونريد نتائج مختلفة؟! رغم أنّ هذا من المحال، إنّ سلوك الطريق والأساليب نفسها، تؤدّي إلى النتائج السابقة ذاتها!

خامساً: القراءة التدنيسية لتاريخنا تَهدم الرموز الملْهِمة، وتُعْدِم القدوات المحفّزة، وتُلغي النماذج الرائدة،  فكلّ أمّة تتشكّل هويّتها من دينها ومبادئها ولغتها وتاريخها، وبتشويه تاريخها تتشوّه هويّتها، ويضعف انتماء أبنائها إليها، كأنّ قيمنا الإسلامية لا أثر لها على من ينتمي إليها! فهي دعوة -غير مباشرة- لاحتقار الذات والانبهار بالآخر، وبالتالي تجاوز هذا التاريخ وفتح صفحة جديدة بالانتماء لحضارة متقدّمة غالباً ما يقصدون منها الحضارة الغربيّة.

سادساً: عند القراءة التي تقتصر على الإيجابيّات يظهر واقعنا أَسْود كالحاً مُظلماً بالمقارنة بما ينتهجه دعاة القراءة التمجيدية “فتاريخنا مجموعة من القادة الأبطال المخلصين، وواقعنا مجموعة من القادة الشياطين” سواء الحكام ورؤساء الدول، وحتّى قيادات الجماعات الإسلاميّة، ومدراء المنظّمات والمؤسّسات، فيصيبنا الإحباط من واقعنا، ويتساءل الإنسان بيأس “فأين نحن من عظماء تاريخنا”؟!!

ولعل هذا هو سببُ ما نشاهده من اعتياد الناس اليوم إسقاط أيّ قائد من قادتنا لأصغر خطأ، لأنّنا لم نقرأ تاريخنا بموضوعيّة، ونعرف أنّ أولئك القادة في تاريخنا عندهم أخطاء، كما لقادتنا المعاصرين المخلصين أخطاء.

وأختم بملاحظتين:

الأولى: إن تاريخنا بعمومه مصدر فخر واعتزاز لنا نحن معاشر المسلمين، فهو تاريخ أسلافنا وأجدادنا الذين أسّسوا حضارة شهد لها القاصي والداني، ونعتقد أنّه بعمومه أفضل من تاريخ غيرنا من الأمم، ممن عاش نفس الحقبة التاريخية، فهو التجربة البشريّة التي طبّقت مبادئ الإسلام وقيمه وأحكامه، ونشرت دين الله في بقاع المعمورة.

وهذا الافتخار ليس مدعاة لأن نحتقر غيرَنا من الأمم، بل نحترم غيرنا، ولا يدفعنا حبّنا وعاطفتنا نحو أمّتنا أن نظلم غيرنا ونجحف بحقّهم، فالباطل الخالص نادر في الحياة، كما أنّ الحقّ الخالص نادر كذلك.

وكما للمسلمين تاريخ يفتخرون به فللأمم الأخرى ما يدعو للفخر والاحترام أيضاً، وإلا لما قامت دولهم ولا استقرّت، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الإنصاف في الحكم على المخالفين، فشهد لملك غير مسلم -وقتها- بأنّه عادل ولا يُظلم عنده أحدٌ (النجاشيّ).

وقد شهد الصحابيّ عمرو بن العاص للروم أنّ فيهم خصالاً خمسة جيدة أهّلتهم لأن يكونوا من أكثر الناس عند قيام الساعة، فقال: (إنّ فيهم لخصالاً أربعاً: إنّهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك)[1].

وقال الإمام ابن تيميّة رحمه الله: (اللهُ ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة! ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة!)

الملاحظة الثانية: من الظلم محاكمة تاريخنا بقيم وثقافة عصرنا الحاضر، بل ينبغي قراءة تاريخنا في سياقه التاريخيّ، وفق ثقافة عصرهم، ومقارنته مع تاريخ الأمم الأخرى، لا مقارنة تاريخنا بحاضر الأمم الأخرى، نعم يمكن بل يجب محاكمة تاريخنا للمنهج الإسلاميّ والمبادئ الإسلاميّة، وعلى كلّ حال فميزاننا هو المبادئ والقيم والأحكام الإسلاميّة، لا التجارب التاريخيّة.


[1] رواه مسلم.




الفقه الانسحابي وتخلّف المسلمين


في القرن الخامس عشر الميلادي دخلت الطابعة من أوربا إلى ديار المسلمين، فصدرت الفتاوى بتحريمها، بحجج مختلفة كالخوف على المصحف والكتب الشرعية من التحريف، وخوفاً من اعتماد العلماء وطلاب العلم على الطباعة فيتركون النَّسْخَ اليدوي وبالتالي ينسون العلم، والخوف على مصير من يعملون بنَسْخِ الكتب، وبالمقابل سُمِحَ لغير المسلمين باستخدام الطابعة؟!! وبعد مئتي سنة سُمِح باستخدام الطابعة!!

مئتا سنة ونحن محرومون من الطابعة بسبب فتوى مَنْ يخشَون من الطابعة!!

حياتنا مليئة بالوسائل التي يمكننا استخدامها بالحلال والحرام، فكلّ أعضاء جسدنا يمكن أن نستخدمها بالحلال أو بالحرام، والكأس يمكن ملؤه بالماء أو بالخمر، السيارة نذهب بها للمسجد أو للسرقة، المطبعة يمكن أن أطبع بها كتاباً نافعاً، ويمكن أن أطبع بها خرافاتٍ وكفراً، السينما يمكن أن نمثّل بها فِيلماً هادفاً مسلياً، ويمكن أن نصوّر بها فِيلماً يدعو للمحرمات.

 
فالوسائل من حيث الأصل هي مباحة، واستخدامها في الحلال حلال واستخدامها في الحرام حرام. مع الأسف، أغلب الوسائل الجديدة تأتينا من الغرب، لأننا أمة مستهلِكة لما ينتجه غير أبنائها، والسيناريو الدائم الذي يتكرر مع كل وسيلة جديدة هو: أننا نقاوم الجديد بفتاوى التحريم لأن كثيرين يستخدمونها بالحرام مثل: المطبعة والتلفاز والسينما والإنترنت..

ثم يغلبنا الواقع ويستمر الناس باستخدامها، ولا يلتفت لفتاوى التحريم سوى الملتزمون، وتحت ضغط الواقع الغلاب تخف لهجة الإنكار، ثم يُسكت عن الموضوع، ثم تظهر فتاوى التحليل لعموم البلوى، وعندها يكون بعض الخيّرين قد اقتحموا تلك الوسيلة واستخدموها بالخير فيكون ذلك (حُجّة) لبعض المفتين أن يحلّلوا هذه الوسيلة ويوجّهوا نحو استخدامها بالخير.

وكان الصواب أن نوجّه الناس لاستخدامها بالخير من أول لحظة، بدلاً من دخول هذه المتوالية المتكررة: (وسيلة جديدة ثم تحريم ثم قهر الواقع ثم سكوت ثم تحليل وتوجيه)

فالتوجيه لاستخدام هذه الوسيلة بالخير يأتي في هذه المتوالية بعد سنوات من ظهور الوسيلة الجديدة ودخولها لواقعنا، فيكون المفسدون قد سيطروا على تلك الوسائل وملؤوها بفسادهم..

وربما أصبحت تلك الوسائل “موضة قديمة” وظهر غيرها، فيوجّه العلماءُ الناسَ للاستفادة منها بنشر الخير.. لكن الأوان يكون قد فات أو أوشك أن يفوت، كما يقول المثل: “اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب”.. فالمفسدون قد سبقوا وتصدّروا المشهد وملؤوا الساحة.. وأهل الخير مهما أسرعوا فلن يلحقوا بالمفسدين أو ينافسوهم، فضلاً عن أن يسبقوهم!

وهكذا فالفتاوى أغلبها التحاقي بالواقع، تتبع الواقع، وتأتي بعده، بدلاً من توجيه الواقع وسبقه وإرشاده. كيف نسبق الواقع؟ -مثلاً- بالتوجيه لصناعة وسائل جديدة.. لكن بما أننا ما زلنا مستهلكين لما يصنع غيرنا، فعلى الأقل نوجّه لاستخدام الجديد في نشر الخير، بدلاً من تحريم تلك الوسائل.. والدخول بالمتوالية المتكررة.. (تحريم، الواقع لا يستجيب، تحليل وتوجيه)

صحيح أن الوسائل الحديثة تسهّل الحرام، لكنها أيضاً تسهّل الحلال، فلماذا نأخذ السيناريو الأسوأ دائماً؟!! وعلى أية حال، فالذي سيرتكب الحرام، سيرتكبه بأية وسيلة متاحة، ويبقى إثمُه عليه، لأنه هو استخدم هذه الوسيلة الجديدة بالحرام، لكن لا نحرّم الوسائل الجديدة لإمكانية استخدامها بالحرام، وإلا فيتوجّب علينا قَلْعُ أعيننا لأننا ربما ننظر بها للحرام، ونقطع أيدينا لأننا ربما نستخدمها بالحرام وهكذا.. وما دمنا محافظين على هذه المتوالية فسيسيطر المفسدون على مواقع التأثير ويكثر شرُّهم وينتشر، ولو وجّهنا بفتاوينا وإرشادِنا نحو اقتحام الخيّرين للواقع في كلّ الميادين، لكان وجود أهل الخير يخفّف من الشرّ ويكثِّر الخير..

بعض المفتين كلّما جاءه أمرٌ جديد وقف منه شاكّاً مرتاباً، وتهيّب الحكم بالحلّ والإباحة، فيحكم عليه بالحرمة “احتياطاً”!! مع أنّ الاحتياط يكون بـ”التوقّف” وليس الاحتياط “بالتحليل” ولا “بالتحريم”، لأنّ الأصل بالأشياء الإباحة، فالورع ليس بتحريمها بل بتركها على أصل الحلّ، حتى تثبت علةُ التحريم (إن وُجدت). والإسلام قد هدّد من “يحرّمون الحلال” ومن “يحلّلون الحرام”، قال تعالى “وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ” واختصّ الإسلامُ “المحرّمين للحلال” بحملة أشدّ وأعنف، نظراً لما في هذا الاتجاه من تضييق على البشر لما وسّعه الله تعالى.

قال تعالى “قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ” وقال سبحانه وتعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ”

أما الورع والاحتياط فهو تصرّف شخصي يأخذ به المرء نفسَه بترك ما يرتاب فيه خوفاً من الوقوع بالمحرّم، وليس فتوى تعمّم على الناس. 

الفقه الانسحابي عن الحياة والاعتزالي عن الواقع، لن يُخرج أمةً فاعلة حاضرة في كل ميدان.. نريد الفتاوى الإيجابية الاقتحامية التي تجعل الصالحين يشتبكون مع الواقع، ويسخّرون الوسائل الحديثة بالخير وللخير، يمشون بنور قوله تعالى: ” قل إن صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي للهِ رب العالمين”.




أخلاقٌ إنسانيّة!!

الإنسانُ محورُ الكون، الإنسانُ أكرمُ المخلوقات على الله تعالى، خلقه في أحسن تقويم، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وأرسل له الرسل، وأنزل عليه الكُتب، وسخّر له الكونَ كلَّه بسماواته وأرضه!!

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.

كرَّم الله الإنسان بغضّ النظر عن لونه، أو عرقه، أو بلده، أو دينه، أو مذهبه.

أو دينه؟!!

نعم الإنسان مكرّم بغضّ النظر عن دينه..

روى البخاري: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ!!

فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟!!

أليست نفساً: أي أليست روحاً أليس بشراً؟!! (لقد كرّمنا بني آدم) فكلّ بني آدم مُكرَّمون عند الله تعالى.

هذه القيم العظيمة، تكريمُ الإنسان، والحفاظُ على حقوقه، وقيمةُ التسامح والتعايش والرحمة والرأفة والمعاملة بالحسنى، هل ستبقى قيماً فقط للتمدّح والتغنّي والخطب الرنّانة والمقالات البليغة؟ أم لا بدّ من تحويلها إلى سلوكٍ فاعل وأخلاقٍ غالبةٍ، وإجراءاتٍ عمليّة؟

لقد كانت هذه القيم منتشرةً زمنَ قوّتنا وتمكّننا، لكنها تضاءلت في عصرنا هذا، ففي زمن الهزائم والخذلان والضّعف يشيع الفقه المتشنّج، الحدّي مع الآخر (العين الحمرا).. وفي زمن التمكين والاستقرار والقوّة.. يشيع فقه التسامح والتعايش..

لقد افتقدنا هذه القيمَ عند صنفين من الناس..

الصنفُ الأوّل: المتشدّدون والمتطرّفون من المتديّنين.

والصنفُ الثاني: غيرُ الأخلاقيّين؛ ممّن لا دين له ولا خلق ولا قيم؛ ممّن يَعتبر الحياة مادّة، فمن الذكاء جمعُ ما تستطيع منها دون قيد أو شرط.

فالإنسانُ دون دينٍ وخلقٍ وضميرٍ، وحشٌ كاسر، أطماعُه تَجعلُه يرتكبُ المَجازر، التي يذهب ضحيَّتها النساء والأطفال والشيوخ، ويُتاجرُ بالأعضاء والأطفال والنساء، ويُمارسُ الغشَّ والخداع والاحتيال؛ ليروي شهواته ورغباته..

وهنا نؤكّد على ما يُميّزُ الإنسان، وهو القلب والروح، فالحضارةُ الماديّة منحت الإنسان الرفاهيةَ، لكنّها لم تمنحْه السكينة، ووفّرت له المتعةَ الماديّة، ولم تُوفّر له السعادةَ الروحيّة، وهيّأت له الوسائلَ والأدواتِ، ولم تهيّء له المقاصد والغايات، فهو يحيا حياةً لا يعرفُ لها هدفاً، ولا يجدُ لها معنىً(1).

فالتقدُّم والازدهار، الذي نراه في كلِّ مكان من العالم، إنْ لم يرافقْه نهضةً خُلقيّةً وروحيّةً وقيميّةً، فسيبقى تقدُّماً وانتعاشاً على صعيد المُخترَعاتِ، وأدواتِ الرفاهية والزينة، وأسباب القوَّة فقط، وهذا سيُشكِّل مأساةً على المدى البعيد!

إنّ المذهبَ الوجوديّ الإنسانيّ قدّم للإنسانيّة وعوداً لم يحقّقها، كما أنّه أفقدَ الناس الشعورَ بالطَّمأنينة الروحيّة، وجعلَ الناس عبيداً للمادّة.

أمّا المتشدّدون والمتطرّفون فقد شوّهوا جمال الإسلام وتسامحه ونزعته الإنسانيّة بتصرّفاتهم الرعناء، وروحهم المتعصّبة والطائفيّة، وقلبهم البغيض الأسود..

إلى الآن ما زال بعضنا يعيش بعقليّةٍ كعقليّةِ العصور الوسطى المتخلّفة في أوربّة، التي كانت مشغولةً عن حقوق الإنسان وحرّيّته وأحلامه وتطلّعاته، وكيف نحمي الإنسان من الفقر والجهل والمرض والقهر؟! بينما هم يهدرون الإنسان دفاعاً عن جناب الله تعالى -بزعمهم-، ويسفكون الإنسان خوفاً من الهرطقة والضلال بزعم الكنيسة(2)..

وكذلك بعضنا يعتدون على إخوانهم، لمخالفتهم رأيهم في بعض صفات الله تعالى، أو حكم التوسّل برسول الله عليه الصلاة والسلام..

فكيف يتساهلُ بعض المتشدّدين مع الذين يفجّرون أنفسهم بين أناس لمجرّد مخالفتهم لهم في الدين، وانتمائهم إلى دولة معادية؟، أو لاستحقاق أحدهم للقتل برأي ذلك القاتل؟!!

بالفعل سلوكيّات بعض الغلاة تؤيّد من يقول: (المتديّنون منشغلون بتنزيه الله تعالى، وغافلون عن حقوق الإنسان) مع أنّ الإسلام جاء لسعادة الإنسان ورعاية حقوقه.. إلى جانب ربط قلبه بخالق الكون الواحد سبحانه وتعالى.

وقد كان نبيّنا محمّدٌ عليه الصلاة والسلام الإنسانَ الكامل، فحتّى عندما كان مُستغرقاً في الصلاة كان يراعي أحوال الناس خلفه، قال: ((إذا صلَّى أحدُكُم إماماً للناس، فليُخفِّف، فإنّ فيهم الضعيفَ والسقيمَ والكبيرَ. وإذا صلَّى لنفسه –أي مُنفرداً– فليُطوِّل ما شاء)) متفق عليه.

وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم: ((إنّي لأقومُ إلى الصلاة، وأريدُ أن أطوِّلَ فيها، فأسمعُ بكاءَ الصبيِّ، فأتجوَّزُ في صلاتي كراهية أن أشُقَّ على أمِّه)) متفق عليه.

والآن ما المطلوب؟ حتّى نُحييَ النزعة الإنسانيّة عندنا؟

أولاً: التعامل برفق مع مخلوقات الله من حيوان ونبات:

علينا أنْ نُعمِّقَ النزعة الإنسانيّة لدى الأجيال الجديدة؛ من خلال التعاطف مع الحيوان، ومع الأشياء من حولنا؛ بغيةَ بناءِ خطوط دفاع متقدِّمة، تَحول دون ظلم الإنسان أخاه الإنسان.

فالنصوصُ الواردةُ في مديح من يُساعد الحيوان، وذكر الوعيد الشديد على إيذائه – تستهدف تنميةَ المشاعر الخيِّرة، ومشاعر الأُلفة والرعاية، كما تستهدف كبحَ المشاعر الشرِّيرة.

كما يجب صيانةَ ما هو موجود من الثروة الحيوانيّة والنباتيّة، وتنميته وتكثيره؛ لأنّ الناسَ يكثرون، وهم بحاجة إلى المزيد من الموارد، ونجد في هذا المعنى قوله – صلّى الله عليه وسلّم -: ((مَن غَرَسَ غَرساً لم يأكُل مِنهُ آدَمِيٌّ، ولا خَلقٌ من خَلق الله -عزّ وجلّ- إلا كان لهُ صَدَقَة)) أحمد وغيره، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((إن قامَتِ الساعةُ على أَحَدِكُم وفي يَدِهِ فَسيلَةٌ، فإنِ استَطاعَ ألاَّ تقومَ حتى يَغرسَها فَليَغرِسها)) أحمد وغيره.

كما جاء التوجيهٌ للمسلم أنْ يتعاطفَ مع مخلوقات الله تعبيراً عن الرحمة التي في قلبه، وشكراً له سبحانه على ما سخَّره منها، وورد النهي عن إيذاء الحيوانات في أحاديث كثيرة، منها أنّه نهى عن الضرب في الوجه، وعن الوَسْم في الوجه، ومرَّ يوماً بحمار قد وُسِم في وجهه، فقال: ((لعنَ الله الذي وَسَمَهُ)) رواه مسلم، والوسم: هو كي الحيوان بحديدة محماة حتّى تترك علامة للزينة، أو لتمييز الحيوان بتلك الإشارة.

ومرّةً أخذ بعض الصحابة فِرخَيْ طائر، فجاءت أمّهما ترفرف باحثةً عن صغيريها، فقال فداه روحي: (من فجع هذه بولدها؟! ردوا ولدها إليها)، (ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: من حرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنّه لا ينبغي أن يعذّب بالنّار إلا ربّ النّار!!) أبو داود.

ثانياً: معاملة الناس كلّهم بأخلاق فاضلة:

معاملةُ الناسِ كلِّهم بالقيم نفسها، وليس المسلمون الملتزمون فقط، كذلك الشاب الملتزم الذي ركب الحافلة، ولمّا اكتظت بالركاب، صعدت امرأة طاعنةٌ في السّنّ، فلم يَقمْ لها ليُجلسها موضعه، لأنَّها كانت سافرةً، ولمّا صعدتْ امرأةٌ مُحجّبةٌ، قامَ لها وأجلسها مكانه، على الرّغم من أنّها أحدث سنّاً من العجوز، فكان تصرّفُه غيرَ لائق..

فإطعام الفقير، وتعليم الجاهل، وعلاج المريض، ومساعدة المحتاج… أفعال فاضلة ينبغي تقديمها لكلّ إنسان، بنفس الجَودة والحماسة..

روى البخاريّ عن حبيبنا صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ).

أي: كلّ كائن حيّ لنا بمساعدته أجر..

فعمل الخير يجب أن يتناول بني آدم، بغضّ النظر عن انتمائه وعرقه ولونه..

فإذا دخلت امرأة النار في هرّة حبستها حتّى ماتت، ودخل الجنّة رجل سقى كلباً ماء فأنقذ حياته، فكيف بمن يساعد إنساناً!..

بل هذه الأخلاق الفاضلةُ كثيراً ما كانت سبباً لكي يُحبّ غيرُ الملتزم الالتزامَ بتعاليم الإسلام، والخلقُ الحسن كثيراً ما كان سبباً لكي يدخل غيرُ المسلم في الإسلام، لإعجابه بسلوك بعض المسلمين.

قال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعاملين) وليس للمسلمين فقط.. وقال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) والبِّرّ: هو أفضل المعاملة، طُولبنا بالبرّ لأهمّ مخلوقين عندنا وهما: الوالدان، والآية الكريمة تطالبنا بالبرّ لغير المسلمين المسالمين، أمّا القسط فهو العدل.

ثالثاً: عدم التسرع بالحكم على ظاهر الناس، والرفق بالعُصاة والشفقة عليهم:

بعضُ الشباب يحلقون لحاهم، ويلبسون الثياب الضيّقة، وقد أطالوا شعورهم، لكنّهم يحافظون على الصلاة، ويحافظون على صيام النوافل، وفي بعضِ البلدان أعدادٌ هائلةٌ من النساء لا يلبَسنَ الحجاب، ويخرجنَ متزيّنات، ورغم ذلك يُحافظن على الصلاة، وتلاوة القرآن والأذكار، وبعض رجال الأعمال ينفقون على الفقراء والمحتاجين سرّاً، مع أنهم مُقصّرون في أداء الصلاة، وربما يَتساهلون في طرق الكسب وجمع الثروة..

فالحكمُ على الناس بناء على المظاهر -التي قد يكون بعضها مُحرّماً- خطأٌ، قد ينتهي بنا إلى الانصرافِ عنهم، وتركِ الاهتمام بهم، بل قد يدعونا إلى معاداتهم، (فكلُّ ابن آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوابون)، فكثيرٌ من هؤلاء فيه خيرٌ كثير، وقَابليّةٌ كبيرةٌ للصلاح، بل كثيرون ربّما يتفوّقون على الملتزمين بطيب القلب، وحُسن الخلق، والشهامة والرحمة، ويحبّون الالتزام، لكنّ نفوسهم تغلبهم عليه، ويشعرون بالتقصير والانكسار لله تعالى بسبب ذلك..

بينما نحن ـ الملتزمين ـ نشعرُ بالتفوّق والاستعلاء عليهم!! وهذا من باطن الإثم، الذي ينبغي أنْ ننتبه له..

ورحم الله القائل: ربَّ معصيّةٍ أورثت ذُلاً وانكساراً، خيرٌ من طاعة أورثت عزّاً واستكباراً.

ولو قلتُ لبعض الناس في حقّ مُدْمن خمر: (هذا يحبّ الله ورسوله) لعله يُبادر ويقولُ: ما هذا التمييع بالدين، وما هذه المبالغة الممجوجة؟!!

فهذا صحابيّ (كما روى البخاريّ) مُدْمن خمر، وكان فكهاً، يُضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذاتَ مرةٍ جِيء به وقد شرب، فأُمر به ليجلد، فقال شخص: (لعنه الله، ما أكثر ما يُؤتى به).

فقال رسولنا الكريم الرحيم عليه الصلاة والسلام: (لا تلعنه، فإنّه يحبّ الله ورسوله)…

مثل هذه النصوص تغيب عن ثقافة المتشدّدين المتجهّمين، والغلاة القساة.. الذين شوّهوا الدين، وبغّضوه للنّاس.

رابعاً: تنمية مشاعر الصَّفح والعفو والإعذار:

وذلك من الاستجابة لأمر الله تعالى في هذه الأمور أوّلاً، ومن أجل التَّكيُّف والتأقلم مع الطبيعة البشريّة الخطّاءة، حيث إنّ علينا دائماً أنْ نتوقَّعَ تصرفاتٍ غيرَ ناضجة، ومواقفَ غير سديدة، وإنّ التوقُّف عندها، والمحاسبة عليها، على نحو مستمرّ من العوامل التي تزيد في الاضطراب الاجتماعيّ، وقد قال الله تعالى مادحاً العفو وأهله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ!}.

وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

وقد كان نبيّنا ﷺ يُقدّمُ الأنموذج الأسمى في العفو عن الإساءات، وغضّ الطرف عن الهفوات، وفي هذا تقول أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((ما ضربَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم شيئاً قطُّ بيده، ولا امرأةً ولا خادماً، إلا أن يجاهدَ في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قطُّ فينتقمَ من صاحبه إلا أن يُنتهَكَ شيءٌ من مَحارم الله تعالى، فَينتقمَ لله)) رواه مسلم..

فالأسبابُ التي تجعل الناس يُسيئون التقدير، أو يقعون في الزلل، أو يَجرون خلف رغباتهم أكثرُ من أن تحصى، ولو أنّنا عرفنا هذا حقَّ المعرفة، فإنّنا سنجد أنّ العفو والصفح هو الموقف الصحيح في معظم الأحيان.

وقد ثبت أنّ فرضَ القوانين من غير تثقيف وتربية، وإحداث تغييرات مهمَّة على صعيد الرُّوح والنفس… لا يكون ذا فائدة تُذكَر.

وقبل أن ننهي كلامنا، هناك تساؤلان على ما قدّمنا:

سؤال يتعلّق بنا نحن المسلمين، وآخر يتعلّق بغيرنا.

أمّا التساؤل الأوّل: أين الولاء والبراء، والحبُّ في الله والبغضُ في الله؟

الجواب: أمّا الولاء والبراء، فمن المؤكّد أنّنا لا نوالي أعداءنا، ونحن نبرأ من عقائد غير المسلمين. وأمّا الحبّ في الله، والبغض فيه: فيجب أن نكره المعصية، ولا نكره العاصي، ونكره الكفر، ولا نكره الكافر، وإلا فكيف ستدعو من تكرهه؟

وكيف ستحرص عليه، وتشفق عليه من عذاب الآخرة؟، فاللازم هو كره الكفر والمعاصي، لا كرهَ الكافر والعاصي..

ثمّ إنّنا نخلط بين أوامر الشرع وقتَ الحرب، وبين أوامره وقتَ السِّلْم، فبعضُ الكتّاب والجماعات متخصّصون بكتابات الجهاد القتاليّ، فهؤلاء يتشبّع فكرهم بقيم الحرب وتعاليمه، وإذا لم ينتبهوا لذلك تَخرجُ آراؤهم غير متوازنة، وينعكس ذلك على كتاباتهم كلّها، فيشوّهون جمال الإسلام.

كما أنّ قوماً على الطرف المقابل، يغلب عليهم الكتابة والتنظير للحياة العاديّة وقت السِّلْم، ولا ينتبه لحساسية الحرب، واختلافِ النظر فيها، فيُدخِلون قيم التسامح والتعايش لساحة الحرب..

والصوابُ أنَّ لكلِّ حالٍ أحكامها وآدابها وأخلاقها، فما يصلح وقتَ الحرب لا يصلح وقت السلم، والعكس صحيح. ووضعُ النَّدَى في موضعِ السَّيْفِ بالعُلا = مُضِرٌّ، كوضعِ السَّيْفِ في موضعِ النَّدَى.

التساؤل الثاني: الآخر ليس متسامحاً معنا كما تطالبنا أن نكون معه:

قد يقول قائل: الآخر الذي تتحدّث عنه، وتطلب منّا معاملته بالحسنى، يتصرّف معنا بحقد وطائفيّة، ويقف مع الغرب، والغرب نفسه الذي يُنادي بحقوق الإنسان، هو يطبّق الحقوق، لكن للشعوب الغربيّة لا لنا.

ونقول: بشكل عام: كلامكم صحيح، لكن تصرّف الآخرين وحقدهم ليس مسوّغاً لمقابلته بحقدٍ مثله..

وإلا فما الميزة لنا عليهم؟ إذا شابهناهم بالطباع والأفعال والأخلاق؟

الإسلامُ يُريد أن يكون المسلم صاحب قلب نقيّ صافٍ، لا محلّ فيه للبغضاء والحقد، وهذا لا يعني الغباء (والسذاجة، أو البلاهة) فنحن طيّبون باختيارنا، لا عن غفلة، (فلستُ بالخِبّ ولا الخبُّ يخدعني)، فمن اعتدى علينا فليس له إلا البندقيّة (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، فوقتُ الحرب نُري أعداءنا شدّةً وقسوةً، وصبراً وشجاعةً تَردعه.

ولِمَنْ كان مسالماً موادعاً نحن أطيب من عليها.




تطبيق الشريعة ومطالب الشعوب

الناس تجرّب الإسلاميين عندما يحكمون: فعلى الإسلاميين أن ييسِّروا ولا يعسِّروا ويبشروا ولا ينفِّروا. يجب أن نكون (نحن الإسلاميون) متحمّسين لرحمة الناس، وإخراجهم من الظلم والاستبداد، متشوّقين لخدمة الناس وتأمين متطلبات حياتهم وراحتهم.. بغض النظر عن انتمائهم الديني والمذهبي.. وحذارِ أن يشعر الناس أنّنا متحمّسون للتحكُّم بهم، واستعبادهم وقهرهم باسم الدين.

شعوبنا تعبت ممن يتحكّم بها، وتتشوَّق لمن يخدِمها ويسهر على مصالحها، ويحترم كرامتها وإرادتها.. وإنسانيتها قبل كلّ شيء.. فغالب الناس تريد الحياة الكريمة بغض النظر عمن يحكمها: ليبرالي اشتراكي إسلامي علماني لا يهمّ.. المهم أن يترك لهم كامل حرية التديُّن أو عدم التديّن..

فأهم مطالب الشعوب من حكوماتها:
1.
الأمن والاستقرار..
2.
الحرية وتشمل حرية الاعتقاد وحرية التديّن والعبادة، وحرية الاجتماع والتنظيم وحرية الانتماء السياسي، وحرية التعبير والإعلام..
3.
العدالة بين الناس كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات أمام القانون..
4.
الشفافية ومكافحة الفساد، وتحقيق الازدهار الاقتصادي..
5.
احترام مبادئ الشعب وقيمه ودينه.. وأيٌ من هذه المطالب انعدم.. تنعدمُ معه ثقةُ الشعب ورضاه عن الحكومة التي تَحكمُه..
   
وهذا كله من تطبيق الشريعة الإسلامية ومن مقاصد الدين وأهدافه الرئيسة التي جاء الكتاب والسنة لحفظها ورعايتها:

فأولها: حفظ دين الناس وذلك برعاية حرية التديّن..

ثانيها: حفظ نفوسهم بتأمين الاستقرار والأمن والأنظمة الصحية والقانونية، والمواصلات البرية والبحرية والجوية..

ثالثها: حفظ عقولهم بالأنظمة التعليمية لكل المراحل، وتطوير البحث العلمي..

رابعها: حفظ النسيج الاجتماعي والسِّلْم الأهلي ورعاية الأسرة وتنشئة الأجيال على الأخلاق الفاضلة..

خامسها: حفظ مالهم بتأمين الوظائف وفرص العمل ومنع السرقة والظُلم والغِش، وكل أنواع الفساد..
 
مشكلتنا أننا لم ننتبه أن الزمان تغيّر وأصبحت واجبات الدولة الحديثة كثيرة، وليست كالدولة القديمة البسيطة، حيث كان المجتمع يقوم بأغلب متطلباته وحاجاته، ويقتصر دور الدولة القديمة على ضبط الأمن الداخلي والخارجي وهو منع اعتداء الناس على بعضهم داخلياً، ومنع العدوان الخارجي على الدولة..

 
بينما الدولة المعاصرة من واجباتها تأمين الطاقة الكهربائية والمحروقات والماء والاتصالات والإنترنت وشقّ الطرق وبناء الموانئ والمطارات، والتعليم بكل مراحله، والبحث العلمي، والصحة بكل مؤسساتها، وتأمين الغذاء، والدواء، ورعاية التجارة والصناعة والزراعة والسياحة، وحماية الأمن الداخلي والخارجي عبر أجهزة الأمن، وبناء الجيوش، والتحالفات، وإنشاء العلاقات الجيدة مع دول الجوار والقوى الإقليمية والدولية، كل هذا يحتاج مؤسسات ومشاريع، وكوادر تخطِّط لذلك وتنفِّذه وتطوِّره.. وكل مفردة من هذه المفردات تحتاج إلى وَزارة أو أكثر..
 
وهذا ما ينوء بحَمْلِه حزبٌ أو تيار واحد!! وإنما بحشد كوادر ونخب المجتمع كلّه بكلّ تياراته وانتماءاته!! فيأتي بعض الإسلاميين للحكم وفي مخيلتهم ملف واحد فقط وهو تطبيق قانون العقوبات بقطع يد السارق وجلد الزاني والإلزام بالحجاب واللحية!! يجب علينا قبل أن نفكّر بقطع يد السارق أن نوفِّر المشاريع والوظائف وفرص العمل حتى يستغني الناس!

وقبل جَلْد الزاني علينا تسهيل سبل الزواج والاستعفاف.. فكثير من الجرائم والانحرافات الخُلقية سببها الرئيس الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة.. فبدلاً من التركيز على أعراض المرض علينا التركيز على علاج الأسباب.. فالإسلام جاء لإسعاد الناس في الدارين: في الدنيا والآخرة.. أما فرض الدين ومظاهر التديّن على الناس فليس من اختصاص الدولة المعاصرة، قال تعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (البقرة: 256) وقال سبحانه: “فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ” (الزمر: 2) والإسلامُ يكرَه النفاق.

فالدولة تحمي الدين وترعاه بتوجّهاتها العامة عبر التعليم والإعلام والثقافة ولا تفرضه فرضاً، حتى لا ينفِر الناس.. يعني ترعى الدولة الدعاة والعلماء والخطباء والمربين بتأمين حرية الدعوة لهم كما تخدم الدين عبر المؤسسات التربوية والتعليمية والدعوية والإعلامية.. والمطلوب من الدولة رعاية الدِّين بشكل عام وعدم السماح بمعاداته، دون تدخّل بحياة الناس الخاصة.. وتتفرَّغ الدولة للقيام بمصالح البلاد والعباد. وأما السلوك الديني الشخصي الذي ليس فيه إضرار بالغير، فيُترك للدعاة يدعون له بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.

أما قضية التشريعات الإسلامية والقوانين، فتكون بالتدرّج حسب قابلية الشعب واستطاعته، وقياس ذلك يكون عبر مجلس التشريع، حيث يمرّر (النوّاب المسلمون المنتخَبون) قراراتِ تحكيم الشريعة (بعد أن يُقنعوا بها الشعب).. فيكون الشعب هو من يختار شريعة ربه فيخضع لها مختاراً طائعاً.. فالشعب المؤمِن هو من يُحَكِّم الشريعة، قال تعالى: “فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” (النساء: 65)

وعند التصويت لتحكيم الشريعة: مَنْ يصوّت لها من النُّوّابِ رفع الإثم عن نفسه وعمن انتخبه، ومن رفض وقع في الإثم هو ومن انتخبه (إن كان يعرف توجّهه هذا) ولو كانت غالبية مجلس النوَّاب الذين يمثّلون الشعب تمثيلا حقيقياً ضدَّ الشريعة فهذا يعني أننا مقصّرون في دعوة شعوبنا وإقناعهم.. وأنهم غير مهيئين بعد لشريعة الله تعالى.

ولنفرض فرضاً أن شيئاً من المخاوف قد وقع وظهر بديمقراطيةٍ حقيقيةٍ أن غالبية المسلمين في قطر من الأقطار قد اختاروا ما يتنافى مع الإسلام وما يعدّ خروجاً عن الإسلام، فهل العيب في الديمقراطية أم العيب في الواقع القائم؟ فليست الديمقراطية هي التي أتتنا بهذا العيب، وإنما الديمقراطية كشفت لنا هذا العيب، فهذا سبب لشكر الديمقراطية والتمسّك بها وليس سبباً لرفضها والقدح فيها واتهامها” (ينظر: الشورى في معركة البناء، د.أحمد الريسوني، 170).
والله من وراء القصد




مدرسة المسيري وأسئلة الواقع!

ما زال كثير من نخبنا العربية من الإسلاميين المنحدرين من خلفية يسارية أو من التوجه الإسلامي الصرف، مولعون بنقد الحداثة أو الرأسمالية أو (الحضارة الغربية) بين قوسين، وهو ترف فكري لم يعد له كبير فائدة في أيامنا، لأن هذا الخطاب استفرغ أغراضَه وأدّى دورَه، فلم تعد الأكثرية مبهورة بالغرب كما كانت في بداية القرن الماضي، فالكتابات الإسلامية في بداية القرن الماضي كانت دواء لتخفيف حالة الانبهار بالغرب أمام تخلّف دولنا، لكن هل من الصواب الاستمرار بهذه الاستراتيجية (التركيز على نقد الحداثة) إلى ما لا نهاية؟ أما آن لنا أن ننتقل إلى خطوة ثانية؟

لأن الحداثة ليست منتجاً غربياً خالصاً، فالإنسانية كلها ساهمت بصناعتها، وإن كان للغربيين نصيب الأسد! إلا أن ذلك لا يلغي مساهمات بقية العقول (التي لطالما بكينا هجرتها)، هاجرت وساهمت في نهضة الدول المتقدمة وما تزال تساهم، فالدول المتقدمة هيّأت بيئة حاضنة للتطور.

 والنقد للحداثة كان أعمقه وأقواه من كتّاب غربيين أصلاً، إما ينقدون بدافع النقد الذاتي بهدف تطوير وتصحيح ما يرونه من أخطاء، وإما انطلاقاً من مخالفة إيديولوجية للفكر السائد كيساريي الغرب مثل: نعوم تشومسكي وغيره، ومثل عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- عندنا. 

 وما نخبنا أو أكثرهم إلا مترجمون لهذه الانتقادات، ونقد الحضارة الغربية في كثير منه نوعٌ من التعويض عن مركّب النقص عندنا! وبين قوسين: فإن أفضل من نقد الرأسمالية هو ماركس في كتابه: (رأس المال) لذلك يطرب الإسلاميون لنقد اليساريين للرأسمالية الغربية، وبالمقابل يرفضون الشيوعية والاشتراكية، ويقولون: عندنا نظرية ونظام اقتصادي خاص.. يجب أن نستخرجه.. ونحن ننتظر إخراج هذا النظام الفريد! 

فتجد كتابات جاءت بالنظرية الرأسمالية أو الاقتصاد الحر ووضعت له طربوشاً إسلامياً. وكتابات أخرى جاءت بالنظرية الاشتراكية ووضعت لها طربوشاً إسلامياً أيام ازدهارها، وكتابات أخرى تلفق بينها.. ولعلّ الصواب مع الفريق الثالث، فالحل مركّب بين النظريتين، فالأصل اقتصاد حر مع مراعاة حقوق الضعفاء وضمانها بتدخّل الدولة الذي يقيّد طمع وجشع الأقوياء ويحمي الضعفاء.                                                                                                           

الاعتراف بدلاً من الهجاء: المطلوب الاعتراف بجوانب القصور والتخلّف في بلادنا وجوانب الإشراق والإحسان في ديارنا، وبالمقابل الاعتراف بتطورهم عنا في كثير من المجالات وافتقارهم وانحرافهم في جوانب أخرى. بدلاً من أن ننهال عليهم نقداً وذماً دون إنصاف،

فلا نحن استفدنا من تجاربهم فيما أجادوا فيه، ولا طوّرنا أنفسَنا فيما قصّرنا فيه، كقول ذلك الأعرابي: (أوسعتهم شتماً ومضوا بالإبل)، فالهجاء لا يغيّر من الواقع شيئاً. حالنا كالمدير الذي تراجعت شركته الكبيرة، فجمع تقاريراً عن أخطاء وعثرات الشركات الناجحة المنافسة التي تفوّقت على أرض الواقع وحققت النجاحات، واجتمع مع موظّفيه وبدأ يذكر لهم عيوب وسلبيات الشركات المنافسة، ليستعيدوا الثقة بشركتهم ويحتقروا المنافسين!

هل هذا المدير يحسن لشركته وموظفيه؟ أم أنه يخدع نفسَه وأتباعَه؟ إنّ الرائدَ ينبغي ألا يكذبَ أهلَه، فعلى المدير أن يعترف بتراجعهم أولاً ثم يبحث عن أسباب الفشل ويعالجها، ويبحث عن عوامل نجاح الآخرين فيستفيد منها، ويخطط للنهوض مرة أخرى، ويشجّع موظفيه ويثير فيهم الحماسة، ويقنعهم بإمكانية استئناف النجاح والعودة، إنْ استفادوا من خطط المنافسين، فأخذوا المناسب منها وطوّروا أساليب ووسائل أخرى، حتى تنهض الشركة مرة أخرى وتحقّق نجاحات جديدة، وتصل لدرجة المنافسة لغيرها بإذن الله تعالى. وهذا يحتاج جهداً ووقتاً واهتماماً كبيراً، لكننا نستسهل الأمور، ونكتفي بهجاء الآخرين، وكأنّ الهجاء سيعيد لنا الماضي الجميل! هيهات هيهات! 

 إنّ إدمان ذمّ الحداثة ومنتجاتها له أثرٌ سلبي على الأمم المتخلّفة، وهو أنه يمنعها من مصدر هام من مصادر المعرفة ألا وهو الاستفادة من التجارب والخبرات البشرية المتطوّرة.                                                                           

الاستفادة من الآخرين: قديماً قال إمبراطور صيني: “النجاح يبدأ بالتقليد الأعمى، ثم بالتقليد المبصِر، ثم يأتي الإبداع”. ونحن بما توفّر في عصرنا من علوم ووعي ووسائل نقل للمعلومات لا ننادي بالتقليد الأعمى، بل (بالتقليد المبصِر) بداية، التقليد الذي يفهم ويميّز ويختار من وسائل وأدوات وعلوم وأفكار الأمم المتقدمة (التجارب البشرية) ما يناسبنا، التقليد الذي يعدّل ويطوّر ما لا يناسبنا. وحتى نطمئن فإنّ التعديل سيحصل -لا محالة- فعندما نكتفي باستيراد الأشياء الجاهزة فقط، سنقع (بالتقليد الأعمى)، لكننا ننادي (بالتقليد المبصِر) ولا يحصل ذلك إلا إنْ بدأنا ننتج ما نحتاجه بما يناسبنا.     

الاختلافات بين الشعوب: ومما يجدر التأكيد عليه أنّ المواصفات الخاصة بنا ليست فروقات جذرية بكلّ شيء، بل الإنسانية تشترك بأكثر من 80 % من الحاجات والقيم والعادات والأفكار، وتختلف ببعض الأشياء التي تتأثّر بثقافتهم وبيئتهم. وهذه الاختلافات ليست كلها بسبب الدين، بل كثير منها يرجع للعرف ولتأثير البيئة والتجارب التاريخية للأمم، وهذه الأشياء المحلية ليست ملزمة لنا كما لا يخفى، ولتوضيح الأمر أكثر أقول: الإسلام جاء بقيم عامة وأحكام ثابتة لكل زمان ومكان، ولم يأت ليعمّم عادات وتقاليد بيئة على بقية البيئات، فالذي تأثّر به المسلمون في كل الكرة الأرضية (من تعاليم الإسلام)، والقاسم المشترك (من تعاليم الإسلام) بينهم في كل الأرض هو الذي يمثّل جوهر الدين، وما يختلف به المسلمون من عادات وتقاليد وغيرها، فهذا ليس من الدين في شيء، فمشروعنا الإسلامي ليس تعميم العادات والتقاليد العربية على البشرية! ولنضرب مثالاً يزيد توضيح الفكرة: اللباس له أشكال وألوان في العالم الإسلامي، والقاسم المشترك بينها هو ستر العورة وهذا هو أهم الواجبات إسلامياً (ستر العورة)، أما ما اختلفت فيه البيئات من أشكال وألوان الألبسة فكلّها مباحة، وهي راجعة لتأثير بيئة تلك المناطق وأعرافهم وأعراقهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهو أمر متسامح فيه ما لم يكن فيه محرم (كلباس الحرير للرجال) فأهم شيء في اللباس هو ستر العورة. ومثلها البيوت، فبيوت المسلمين في كل العالم مختلفة اختلافاً عظيماً، وذلك حسب بيئة تلك البلاد ومناخهم والموادّ المتوفّرة عندهم وأذواقهم، فلم يُلزمهم الإسلام بنمط معين أو شكل خاص؟!!

فلم يأتِ الإسلام بأشكال خاصة لبناء البيوت، وإنما جاء بتعاليم عامة كأن تحفظ حقّ جارك، ولا تعتدي عليه ببناء بيتك، ولا تبني على أرض ليست ملكك، أما ستر العورة فليس شرطاً أن يحققّ البيتُ ذلك، فستر العورة يتحقق باللباس، فلا يشترط في البيت أن يستر العورة! فلو افترضنا أنّ إنساناً سكن بيتاً له سقفٌ وليس له جدران، لجاز له ذلك، ويجب عليه ستر عورته باللباس أو الغطاء.. حتى المساجد ليس لها مواصفات خاصّة، فالمهم أن يكون هناك مكان يجتمع فيه المسلمون لأداء صلواتهم واجتماعاتهم ودروسهم وخطبهم، ورحم الله الخليفة الزاهد عمر رضي الله عنه، قال يوصي من يريد بناء مسجد: (أكنّ الناس ولا تحمّر أو تصفّر فتفتن الناس) أي أظلّ الناس ولا تزيّن المسجد بالألوان الصفراء والحمراء وغيرها فتشغل الناس وتفتنهم، والفاروق عمر رضي الله عنه هو نفسه عندما زار بلاد الشام وهمّ بالإنكار على المسؤولين للتفاخر بأبنية المساجد، أقنعه المسؤول هناك أنّ الناس في بلاد الشام يرون عظمة الكنائس فيريد ألا يظهر الإسلامُ ضعيفاً، فسكتَ الفاروق! 

 يمكن أن نقول إنّ تعاليم الإسلام تظهر على أبنية المسلمين بتجنّب الصليب والتماثيل لذات الأرواح، وتعتمد بدلاً عنها الزخرفة النباتية والهندسية.. متأثرين بتعاليم الإسلام التي تحرّم ذلك، وهذا أمر طبيعي، لكن لو جاء قوم كالفُرس وتفننوا بالفسيفساء في مساجدهم هل نقول لهم: عليكم التزام نمط آخر في أبنيتكم وزخرفتكم؟!! فكلّ بيئة تبني كما هي أنماط أبنية بلادهم مراعين ظروفهم البيئية، ومواد بنائهم الأساسية، وذوقهم العام، وقد فعلها المسلمون تلقائياً دون وجود لأحكام فقهية متنطّعة أو مبالغة تتدخّل بشكل البيت وصفاته! والذي يهمنا هنا البيوت الحديثة هل هي منافية للإسلام؟!! أو هل هناك مدينة إسلامية وبيوت إسلامية وبنايات إسلامية كما يروّج بعض المثقفين؟ أعتقد أن الإسلام لا يتدخّل بهذه التفاصيل، بل يقول لك: اجتهد واختر البيت والنمط الذي يحلو لك فهذا داخل تحت المباحات. والمسلم الحريص سيضع وحده السواتر والستائر التي تحفظ عليه ستر العورات، كما أنه سيراعي ذلك بالتصميم والتخطيط، حتى يرتاح من ستر العورة باللباس والأغطية، ولأن فطرة الإنسان أنه يحب أن يأوي إلى بيت يحميه من الحر والبرد ويحجبه عن أعين الناس، ويحقّق له الخصوصية.                                                                                                                                                             

بعض الأطروحات المتشنّجة من منتجات الحداثة ومفرزاتها توهمك أنّ: الإسلام معادلة كيميائية صعبة التطبيق، بل مستحيلة، لأنّ قيم الحداثة مغروسة في كيمياء منتجاتها، وتحتاج أن تعيد تذويب المنتجات وأن تشكّلها من جديد كما تملي عليك الفلسفة الإسلامية –بزعمهم-، وعليك أن تكون حذراً فلعلّ (جُزَيْئاً) هرب منك من قيم الغرب -المتسربة في منتجاته- ولم تستطع تفكيكه وإبعاده؟!! بينما الأمر أسهل من ذلك وأهون، وقد استفاد الصحابة الكرام من كلّ الحضارات دون شعور بالدونية أو الانبهار. كما أنّ المسلمين الجدد لم يهدموا بيوتهم ليبنوا بيوتاً إسلامية! الدوّامة: هذه الأطروحات تدخلنا في دوامةً لا مخرج منها، و(تضع العِصِيَّ في العجلات) كما يقال، فندخل في مأزق لا مخرج منه، فلا نستطيع التقدّم ولا التأخّر. المشكلة في هذه الأطروحات أنك تطالبهم بحلّ، فيقولون لك: تعايش مع الواقع فلا بدّ أن نجد حلاً.. وما زلنا ننتظر الحل، وتمضي الحياة قدماً وتتلبّس بمنتجات الحداثة أكثر وأكثر، وهم ينقدون دون حلول واقعية عملية! 

الحقيقة أنّ إسلامنا جاء بقيم وأحكام تفصيلية ثابتة فيما شأنه الثبات كالأحكام التي تتعلق بالأفراد كالعقائد والتصورات والعبادات وأحكام الأسرة والمواريث، وجاء بتعاليم وأحكام عامة مرنة فيما شأنه التطوّر والتغيّر كقضايا الشأن العام كالنظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي والسياسي، وترك للبشر أن يطوّروا أنظمة اقتصادية واجتماعية وسياسية لأنفسهم مراعين تعاليم وأحكام دينهم العامة في ذلك الشأن.

أما في مجال الوسائل والأدوات والأنظمة فالباب مفتوح على المصراعين للاقتباس والاستفادة من تجارب البشر وعلومهم واختراعاهم بما هو مباح، لأن الأصل في كل ذلك الإباحة حتى يأتي (أمر أو نهي) فيتحوّل المأمور به إلى مندوب أو واجب، ويتحوّل المنهي عنه إلى مكروه أو حرام، حسب درجة الأمر أو النهي وضرورتهما. وهذه الأوامر والنواهي هي التي تعطينا هويتنا و(بصمتنا الخاصة)، فنجري التعديلات على منتجات الحداثة، بأن نطالب بمواصفات خاصّة بنا، قبل استيراد شيء من منتجات الحداثة أو بعد استيراده (إنْ لم ننتبه لما لا يناسبنا) لو ظهرت لنا سلبياته فيما بعد! وهذا حاصل بطبيعة الحال فحتى لو استوردنا شيئاً يخالف هويتنا وذوقنا فقانون السوق الطبيعي في (العرض والطلب) سيجعل غالبية المستهلكين الذين يراعون هوية مجتمعاتهم يُقْبِلون على نوع يراعي هويتهم، وتكسد سُوْقُ النوع الذي لا يراعي هويتهم، وبالتالي سيضطر التجار والصنّاع لترك ما لا يراعي بيئتنا والإتيان بما يراعيها.. فالموضوع ليس (مفاصلة) مع منتجات الآخرين بل إصلاح طبيعي متدرّج لمنتجات الحداثة، وتأقلم مع بعضها أيضاً، فالحضارات تتفاعل وتتناقح.       

الحداثة والفطرة: حتى تكون دعوةُ الإخوة -الذين يحذّرون من منتجات الحداثة الغربية المتلوثة بالقيم المخالفة للإسلام- واقعيةً عملية مفيدة ندعوهم لذكر المحذورات وتحديدها وليقدّموا حلولاً واقعية، حتى نراعيها في إنتاجنا واستيرادنا (في الحسيّات والمعنويات والأنظمة) ولا يطلقوا الكلام إطلاقاً. كما نطالبهم بأن يكونوا واقعيين موضوعيين منصِفين في تقييم سلبيات الحداثة فكثير مما يذكرونه من عيوب موجود في مجتمعاتنا الشرقية وفي منتجاتنا القديمة والحديثة، فكثير من عيوبنا الاجتماعية والخلقية والسلوكية كانت موجوداً قبل هذه المنتجات الغربية، فلا ننظر لسلبياتها فقط بل لإيجابياتها أيضاً. فعندما ينقدون حبّ المال وتكديسه وتحقيق الأرباح ومحاولة تقليل أجور العمال ورفع الأسعار، ومثل هذه المعاني هذا ليس خاصاً (بالرأسمالية الغربية) بل هذا في فطرة الإنسان منذ فجر التاريخ.     

الواقع غلّاب: وأهم نقطة هنا هي أن أسئلةَ الواقع ملحّةٌ، ولا تحتمل التأجيل أكثر، يا نخبنا العزيزة: أعطونا حلولاً عملية تفصيلية! لكن كثيراً منهم مشغولون بنقد الحداثة ومنتجاتها المادية الغربية كنظام الديمقراطي السياسي، والتوحّش الرأسمالي الاقتصادي، والقيم الليبرالية الثقافية.. ونحن نقول: ربما كان نقدكم صحيحاً في بعض جوانبه، لكن ما الحل الذي نطبّقه في واقعنا وبيوتنا ومؤسساتنا؟ بل ما الحل لبلداننا التي قمنا فيها بثورات، ما الحل غير (الديمقراطية السياسية)، و(الحرية الاقتصادية) الذي تتدخل فيه الدولة لحفظ حقوق المستضعفين، و(الحرية الاجتماعية) المسؤولة بما لا يؤذي الآخرين؟! ما الحل العملي بغير ذلك؟ وهنا يقول بعضهم: لسنا نحن من ينقد الحضارة الغربية بل الغربيون أنفسهم ينقدونها، ونقول لهم: الغربيون حينما ينقدون منتجات حضارتهم كالذي سكن بيتاً فارهاً في مجمع سكني راقٍ ثم طلبتْ منه الشركة العقارية التي نفّذت بناء المجمع السكني ملأ (استمارة للشكاوى) بقصد التطوير، فجلس يتأمل أشهراً ويجمع الملاحظات والعيوب التي يراها ثم -بعد أشهر- قدّمها لإدارة المجمّع. فجاء رجل مقاول غشّاش يبني البيوت بمواصفات رديئة سيئة في أحياء عشوائية، وصوّر ورقة الشكوى بما حوته من الملاحظات السلبية لذلك المجمع الراقي، وجمع السكان من الفقراء والمساكين في العشوائيات التي بناها، وبدأ يقرأ عليهم الملاحظات، ويقول لهم: هذه المجمعات التي أنتم مفتونون بها اقرؤوا بماذا يصفها أصحابُها؟!! أشعر أننا في بلادنا العربية المتخلّفة مثل أولئك الفقراء والمساكين.. وبعض نخبنا يذكرون لنا عيوب الحضارة الغربية وسلبياتها!

المشكلة أن كلّ الأمم عرفت الطريق وهو التنافس الحضاري والعلمي والتقني وعرفوا مضمار السباق ودخلوه وهم يتنافسون في التحديث والتطوير والاختراعات، ونحن مازلنا نتناقش هل هذا هو الطريق أم لا؟ الطريق واضح وسنن التطور واحدة فالنهضة العمرانية المادية واحدة عند كل الشعوب وهذه لا هوية لها فهي وسائل حيادية، أما الهويات (ديناً ولغةً وتاريخاً وعادات وتقاليد) فلكل أمة هوية.

انظر إلى اليابان أتت بمناهج الحضارة الغربية، وحافظت على هويتها الحضارية، وقامت بنهضتها ونجحت، وانظر إلى ماليزيا وكلمة زعيم نهضتها مهاتير محمد التي لخّص فيها منهجهم: (عندما أردنا الصلاة اتجهنا صوب مكة وعندما أردنا بناء البلاد اتجهنا صوب اليابان” وانظر إلى تركيا وكيف وضع حزب العدالة والتنمية الحاكم هدفاً وهو دخول الاتحاد الأوربي ليستوردوا المعايير الأوربية الدنيوية وينهضوا بها مادياً وعمرانياً، وبالمقابل كيف دعموا التوجّه الإسلامي في تركيا كهوية ودين وتاريخ، وحققوا نهضتهم. وعلى كل حال نحن لو حسمنا أمرنا وقرّرنا الدخول في هذا السباق فلن نجد الطريق معبّداً بل المضمار مزدحم والتنافس شديد. 

ستزول الفروق: وبما أنّ البشرية تشترك بالفطرة الإنسانية الواحدة، وغالبهم عندهم إرث من النبوات التي ما خلا منها بشر: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، والبشر يشتركون بأكثر من 80 % من القيم والأخلاق، فأظنّ أنّ الزمان قد تقارب وبخاصة في زمن وسائل التواصل والمواصلات، وتفجّر المعلومات، وأنّ إمكانية حوار الحضارات وتفاعلها الإيجابي واقتباس البشرية تجارب بعضها أصبح أسهل مما نعتقد، وبخاصة في ثورات الترجمة الفورية التي نشهدها، وهذا سيسهّل عملية الاقتباس والاستفادة وسيجعل الحدود المادية بين الدول لا أثر لها تقريباً، فالعلوم والمعلومات ستسيل بين الناس ولن يحجزَها شيءٌ، وهذا سيُسرّع عملية التصفية والاقتباس من الأفكار والاختراعات وأن النتيجة أن البشرية ستشترك بـ80 % (أو أقل أو أكثر) من العادات والتقاليد والأفكار والمخترعات، وسيبقى لكل قوم بصمتهم الخاصة التي لن تتجاوز 20 % (تقريباً) من حياتهم وتلك 20% ستكون انعكاساً لثقافتهم وبيئتهم. وهذا التفاعل والاقتباس نلاحظه عند الأشخاص دائمي السفر تجد حياتهم خليطاً من العادات والآلات المختلفة لأنه يقتبس من كل قوم ما راقه. والآن في عصر التواصل أصبح الجميع يسافر، فبدلاً من أن تسافر لتشاهد وتجرّب أصبحت منتجات الأرض وشعوبها وعاداتهم تأتي إليك عبر المعلومات وبالصوت والصورة. والجدير بالتذكير هنا أنّ التقوقع على النفس والخوف على الهوية الذاتية ليس هماً ننفرد به نحن المسلمين، بل كل الأمم عندها هذا الهاجس، لكن وسائل التواصل والإعلام وثورة المواصلات والاتصالات بما تهدمه من أسوار العزلة بين الأمم، ستجعل البشر يتبعون الأصلح لهم والأكثر فائدة والأجدى وسيجعلهم يتجاوزون كثيراً من هذه المخاوف والهواجس وسيكون ضغط الحياة العملية الواقعية أقوى من الجميع، وسينحاز الناس إلى مصالحهم وإلى الأنفع لهم، وإن كان البعض سيجامل الداعين للتقوقع على الذات، فذلك بقلوبهم فقط وواقعهم مع الحداثة، وسيبقى المنادون بمقاطعة الحداثة كالـ(الفلكلور الشعبي) القديم، هم في وادٍ، والناس في واد آخر. وهذا ينبغي ألا يخيفنا فديننا فيه مؤهّلات قابلة للبقاء والانتشار إذا أحسنّا فهمه وتطبيقه والاستفادة منه لأنفسنا أولاً، فعندما يصلحنا لن يتوانى الكثيرون عن اعتناقه، لكن لو بقينا لا نحسن التعامل مع ديننا فسنكون أكبر الصادّين عنه (ربّنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا). 




هل في القرآن كلّ العلوم؟


كثيراً ما نسمع من بعض الفضلاء أنّ الإسلام جاء بتعاليم لمرافق الحياة كلّها، فهو نظام شامل، وهذا حقّ لا ريب فيه، ونسمع أنّ كلّ شيء مذكورٌ في القرآن الكريم، ففيه علم الأوّلين والآخرين، وفيه علوم الدنيا والدين كلّها، الأنظمة والأفكار والحلول كلّها، وقد ورد عن بعض السلف مثل هذا الكلام، ويستشهدون بمثل قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ}، (وَنزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) )أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) (وتِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ ((فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا) (اليوم أكملت لكم دينكم)، رغم أن الآية الأولى -والتي يستشهدون بها أكثر من غيرها- فسّرها كثير من المحقّقين بأمّ الكتاب، واللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما سيحصل في الدنيا(1)، وعلى القول بأنّها القرآن الكريم فإنّ هذا عامُّ أُرِيدَ به الخُصوصُ، والمعنى: ما فرَّطنا في الكتاب من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفُونَ(2)، وهذا المعنى هو الذي يجب المصير إليه في تفسير هذا المبدأ العامّ، وهو أنّ الإسلام جاء بتعاليم لمرافق الحياة كلّها، التي تدلّ عليه الأدلّة السابقة وغيرها، أي جاء بآيات وأحاديث تفي بحاجة توجيه الناس، ومن هذه الأحكام مبادئُ عامّة تصلح قواعد وأصولاً نستقي منها الفروع والتطبيقات المتجدّدة عبر تطوّر الحياة واتّساعها، وإلّا لما اضطررنا لمصادر تشريعيّة غير الكتاب والسنّة، لذلك قال علماء الأصول: “لمّا كانت النصوص متناهية، والحوادث غير متناهية، كان لا بدّ من القياس وغيره من الأدلّة التي نحتاجها للحكم على المستجدّات غير المنصوصة”، فالمصدر الأصليّ في التشريع الإسلاميّ هو القرآن الكريم، وهو أرشدنا للرجوع للسنّة، (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، والكتاب والسنّة أرشدانا للعقل السليم، والعقل مسترشداً بالكتاب والسنّة دلّنا على كون القياس الصحيح طريقةً سليمةً لاستنباط الأحكام والإرشادات الشرعيّة، وكذلك اعتبار المصلحة التي لم يُنْهَ عنها، واستصحاب البراءة الأصليّة، ومنع وسائل ومداخل المنهيّات بسدّ ذرائعها، واعتماد الأعراف الصالحة..

وهكذا اكتشفنا أنّ القرآن الكريم دلّنا على منابع وقواعد للمعرفة الصالحة من خارجه، تعتمد اجتهاد الإنسان، أي الجانب البشريّ من التشريع، ومن حكمة الله تعالى أنّه جاء بتعاليم مفصّلة لما كان ثابتاً كالعقيدة والعبادات وأحكام الأسرة والمواريث.. وجاء بمبادئ وقواعد عامّة للمتغّيرات كالمعاملات الماليّة وأحكام الحرب والسلم، والعلاقات الدوليّة وأحكام الإدارة السياسيّة والإرشادات الاجتماعيّة.

فالجانب البشريّ في تقدير التشريعات والأحكام الإسلاميّة المتغيّرة كبير، طبعاً مع مراعاة القواعد والمبادئ العامّة التي شرعها الشارع الحكيم، وبلزوم مراعاة هذه المبادئ الربّانيّة من قِبَل المشرّع من البشر يختلف التشريع الوضعيّ عن التشريع الإسلاميّ.

لكنّ بعض الخطابات الإسلاميّة توهم الناس أنّ القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، فيهما تفاصيل كلّ شيء، وبخاصّة في سياق الوعظ ومدحِ الشرع الإسلاميّ!
وهذا من العبث المنهجيّ، فقد أنتج هذا الخطاب عندنا أناساً يشترطون النصّ من الكتاب والسنّة على كلّ جزئيّة في حياتنا.

وليت الأمر اقتصر على الجوانب التشريعيّة، لكنّ الأمر انتقل للعلوم التطبيقيّة والعلوم الإنسانيّة، وحتّى للآليات والأدوات والوسائل والنظم والإداريّات، وتفاصيل النظام السياسيّ والنظام الاقتصاديّ والأنظمة الاجتماعيّة، وتفاصيل القوانين والأنظمة الإداريّة، والعلوم الطبيعيّة والكونيّة التجريبيّة، فوجدنا علماء يبحثون عن تفاصيل هذه الأمور كلّها في نصوص الكتاب والسنّة!
طبعاً لا يعني هذا تجاوز تعاليم الكتاب والسنّة، بل الذي ننكره تقاعس عقل المسلم عن الاجتهاد البشريّ في إيجاد تفاصيل وحلول لكيفيّة تسخير الكون، واختراع نظم إداريّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وتقنيّة واكتشاف العلوم التجريبيّة وتطويرها لحياتهم الدنيويّة والمعاشيّة، امتثالاً لقوله  (أنتم أعلم بشؤون دنياكم).
طبعاً هذه العقليّة أدّت بهم إلى عدم العثور على تفاصيل تلك النظم والآليات في الكتاب والسنّة، فرجعوا للحلول الإسلاميّة المحليّة -رغم قدمها- حيث رجعوا للجهد البشريّ للمسلمين في العصور السابقة، الذين عاشوا في ظلال تعاليم الإسلام -بحسب اعتقاد من أخذوا عنهم- وتبنوا آراءهم وحلولهم وتطبيقاتهم وآلياتهم التي وصلوا إليها.

وهنا لا نقول: إنّ كلّ تراث أمّتنا العلميّ والعمرانيّ والثقافيّ متخلّف ولا يناسب عصرنا!
بل نقول: فيها ما يناسب عصرنا، وفيها ما تجاوزه العصر، ولم يعد صالحاً، فحياتهم كانت أبسط، وواقعنا الجديد معقّد يحتاج حلولاً جديدة تناسبه.
فكان اتجاههم ماضَويّاً ينظر في تراثنا العلميّ والحضاريّ يريد تكراره، بما أنّه منضبط بالكتاب والسنّة (بحسب تصوّرهم)!

وبالمقابل ظهر سلوك آخر رافض للحلول المستوردة (الغربيّة) ولو كانت عصريّة متقدّمة، وصالحة للاقتباس!

والحقيقة أنّ حلولنا الإسلاميّة –تاريخيّاً- كان كثير منها اقتباساً من الحضارات المعاصرة للدولة الإسلاميّة فاقتبسنا في العصور الإسلاميّة الأولى من فارس والروم كثيراً من الأنظمة والحلول، فما المانع أن نقتبس من الغرب والشرق ما توصلّوا إليه من علوم إنسانيّة وتطبيقيّة وأدوات ووسائل ونظم وحلول ناجحة؟! فهي تجارب بشريّة نأخذ ما يناسبنا منها، ونترك ما لا يتلاءم مع واقعنا واحتياجاتنا ومع مبادئنا وديننا.
بل سأذهب لأبعد من ذلك وأقول: حتّى ما نخافه من القيم والمبادئ العليا، نحن نتشارك معهم في كثير من مبادئهم وقيمهم، (كالصدق والأمانة واحترام الوعد والوفاء بالعهد والمواثيق، وكرامة الإنسان والمحافظة على حقوقه..) فقد اهتمّوا وسلّطوا الضوء على كثير من القيم والمبادئ التيّ كانت ضامرة –نسبيّاً- في عموم البشريّة في العصور السابقة، كالحرّيّات والعدل والمساواة والكرامة الإنسانيّة وتفاصيل حقوق الإنسان وقيم التسامح والتعايش والسلم الأهليّ..

فالحلّ ليس بتكرار التجربة الإسلاميّة التاريخيّة بحذافيرها، ولا باستنساخ التجربة الغربيّة بكلّ تفاصيلها، بل بأخذ الصالح من التجربة الإسلاميّة التاريخيّة والتجربة الغربيّة المعاصرة، بما لا يتعارض مع قيمنا وتعاليم ديننا.

نحن بتكاسلنا عن النظر والبحث والتفكير والاعتماد على الجهد البشريّ، والنظر في الآفاق والأنفس، واستبدال ذلك بطلب تفاصيل ذلك من نصوص الكتاب والسنّة اللذين يرشداننا للنظر خارجهما عبر الأمر بالتفكّر والتدبّر والبحث والاجتهاد والتجربة والمشاهدة والاعتبار.
نحن نمشي بعكس المطلوب، فالمطلوب البحث خارج الكتاب والسنّة لتدبير شؤون حياتنا والنظر في الكتاب والسنّة للتوجيه والإرشاد والالتزام في شؤون حياتنا.
فعمارة الأرض مهمّة بشريّة بحتة، وعملها كله خارج الكتاب والسنَّة، ووضع القيم العليا  والأخلاق الفاضلة والأحكام الملزمة موجود في الكتاب والسنَّة.
فالأمور الدنيويّة الأصل فيها الإبداع البشريّ، مع الاتباع للتوجيه الربّانيّ.
فعمارة الدنيا تحتاج بحثاً (خارجيّاً) خارج الكتاب والسنّة، أما تعاليم الإسلام وأحكامه وإرشاداته فتحتاج بحثاً (داخليّاً) للكتاب والسنّة.
وعندها سنكتشف أنّ الكتاب والسنّة يأمراننا بالاتجاه خارجهما لعمارة الأرض، والالتزام بهما في السلوك والأخلاق والعقيدة.
يروي الشيخ الشعراويّ في تفسيره أنّه “سُئل الإمامُ محمّد عبده، وهو في باريس: أنتم تقولون: {مَّا فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شَيْءٍ} فكم رغيفاً في إرْدَبّ الدقيق( )؟.
 فقال: انتظروا.
واستدعى خبّازاً وسأله: كم رغيفاً في إردبّ القمح؟
فقال له: كذا رغيفاً. فقالوا له: أنت تقول إنّه في الكتاب. فقال لهم: الكتاب هو الذي قال لي: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]”
ها هو القرآن الكريم يرشدنا للمتخصّصين في كلّ علم.
لكنّ حال بعض المنتكسين كالطالب الكسول الذي يعلّمه أستاذه تفاصيل علم ما في كتاب جامع لمسائل وقواعد ذلك العلم، في الكتاب القواعد التي يحتاجها كلّها في هذا التخصّص العلميّ، ثم يكلّفه ببحث التخرّج، وهو بحث تطبيقيّ يقوم به التلميذ وحده، فيأتي التلميذ ولم ينجز بحث التخرّج، متعلّلاً بأنّه نظر في الكتاب الذي أعطاه إيّاه أستاذه لعلّه يجد فيه بحثه المطلوب وحلول مشاكل البحث،  فلم يجدها، فيوبّخه أستاذه ويقول له: لن تتمكن من هذا العلم هذا حتّى تستطيع بنفسك تطبيق قواعده ومبادئه في تطبيقات جديدة ليست موجودة في الكتاب.
وبعضنا كهذا التلميذ الكسول، يريد علوم الكون كلّه في القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة!
كالقاعد عن الجهاد ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ)) ((وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)) 

فالكتاب والسنّة للهداية وليس موسوعة علميّة تجد فيها الاكتشافات والاختراعات العلميّة.
فلإنسان دور أساس في فهم تعاليم القرآن، واكتشاف علوم الأكوان.

ورد في بعض الآثار “ربّ قارئ للقرآن والقرآن يلعنه” قال العلماء في بعض تأويلاته أي: عندما يخالف القارئ تعاليم القرآن الكريم وتوجيهاته!
فالقرآن الكريم يدفع بنا للانطلاق خارجه، والنظر في الآفاق والأنفس، ونحن نعود وننكفئ عليه مخالفين أمرَه!!




كلمة سواء في مفهوم أهل السنة؟!

أضحى من الضرورة تجديدُ كتب العقيدة، فالزمان تغيّر، وجدّت فيه شبهات لم تكن معروفة سابقاً، فما كان يشغل العقول في عصور سابقة لم يعد يسترعي اهتمام إنسان عصرِنا.
فلا يجوز إحياء ما كان من مسائل في الأزمنة السابقة لمجرّد أنّ الأقدمين ناقشوها في مصنّفاتهم، بل يجب إهمال ما لا يشغل عقل الإنسان المعاصر، والتركيز على الإجابة عن تساؤلاته الجديدة -وما أكثرها!-
فكتب علم الكلام كانت تلبية لحاجة عصورها فعلم الكلام هو علم المحاجّة والدفاع عن العقائد، وينبغي أن يكون علماً متجدّداً يخالط كلّ عصر بلغته وأمثلته وعقليته، فهو تفاعلٌ واستجابةٌ لحاجة كل عصر.
لكنّ كُتُب العقائد الكلاميّة ركّزت على المناقشات العقليّة التي تولّد المعلومة كما ينتجها علم الجبر الرياضيّ، صحيح أنّه يقنع العقل لكنّه يجفّف الروح، فلا يثمر عاطفة جيّاشة ولا روحاً دافقة، تَرغَب بعطاء الله، وترهَب سخَطَه.
وهذا ما دفع الثقافة الإسلاميّة إلى الاعتماد على كُتب التصوّف والوعظ -على ما فيها (1)- لتعوّض ما فاتها في كُتب العقائد الكلاميّة.
وكثير من هذه المصنّفات كُتِبَت بطريقة الحِجاج والجدال، وفي هذه الأجواء كثيراً ما يضيع الإنصاف والموضوعيّة، ويكون الهدف هو الغلبة والانتصار للرأي (2). 
ولا ضير من الحوار والجدل في الأوساط العلميّة، لكن نقلَ هذه الخلافات إلى ميدانِ الأمّة، وتحديدَ من هم داخل دائرة أهل السُّنَّة والجماعة ومن هم خارجها، بناء على خلافٍ في بعض المسائل، وامتحانُ الناس في ذلك، فهنا تكمن المعضلة!
وهذا لا يعني تمييع موضوع العقيدة، والقبول بكلّ الأفكار والأديان.. مهما شطّت وابتعدت، لكن المطلوب توسيعُ سَمّ الخِياط الذي يضعه بعض المصنّفين، والتسامحُ بالخلافات التي يسعها الاجتهاد، فإذا كانت المسألة اجتهاديّة فهذا يعني أنّها تحتمل الخلاف بطبيعة الحال، وكلُّ اجتهاد معتبَر ينبغي احتواؤه ضمن دائرة أهل السّنّة والجماعة، فلو كانت الأدلّة قطعيّة لما وسع العلماء الاختلاف فيها، فكون المسألة عقديّة لا يعني عدم الاختلاف فيها، وكون المسألة فقهيّة لا يعني عدم الإجماع فيها، فالاختلاف والاتّفاق ليس بناءً على تصنيف المسألة أكاديميّاً (هل هي فقهيّة أو عقديّة)، بل بناءً على قطعيّة الأدلّة وظنّيّتها، ثبوتاً ودلالةً، فظنيّة الأدلّة تؤدّي للاجتهاد، وإذا وُجِدَ الاجتهاد وُجِدَ الخلاف بطبيعة الحال، وقد اختلف العلماء سلفاً وخلفاً في مسائل عقديّة متعدّدة، فكلما اتجهنا نحو الأصول والكليات والمبادئ ندر الخلاف وكلما اتجهنا نحو الفروع والجزئيات ندر الاتفاق.
يقول الإمام الشوكاني رحمه الله: “الأحكام الشرعية عندي متساوية الأقدام، منتسبة إلى الشرع نسبة واحدة، وكون بعضها راجعاً إلى الاعتقاد، وبعضها راجعاً إلى العمل، لا يستلزم تفاوتها على وجه يكون الاختلاف في بعضها موجباً لعدم نجاة بعض المختلفين، وفي بعضها لا يوجب ذلك، فاعرف هذا وافهمه.
وأعلم أن ما صح عنه صى الله عليه وسلم من أنّ المصيب في اجتهاده له أجران، وللمخطئ أجر، لا يختص بمسائل العمل، ولا يخرج عن مسائل الاعتقاد، فما يقوله كثير من الناس من الفرق بين المسائل الأصولية والفروعية، وتصويب المجتهدين في الفروع دون الأصول، ليس على ما ينبغي، بل الشريعة واحدة، وأحكامها متحدة، وإن تفاوتت باعتبار قطعية بعضها، وظنية الآخر” (3).
وقد استطاعت الأمّة -بفضل الله تعالى- ثمّ بجهود العلماء المصلحين من تجاوز خلافات عقديّة لطالما شقّت الصفّ وفتنت النّاس، كمسألة القَدَر وخلق القرآن وحُكْم مرتكب الكبيرة.. لكن بقيت مسألةٌ تشقّ الصفّ وتصنّف الناس وهي ما يُسَمّى (آيات الصفات)، قلت: (ما يسمّى) لأنّني أعتقد أنّ آيات الصفات حقّاً هي الآيات التي تصف الله تعالى صراحة، مثل: (هو الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم..) و(قل هو الله أحد..) (وهو على كلّ شيء قدير..)..
أمّا الآيات التي توهم الجسميّة والجهة ومشابهة الله تعالى للمخلوقات.. فهذه قضيّة ينبغي تجاوزها تماماً، فالكلّ يريد تنزيهَ الله تعالى، فالمثبتون لا يريدون تعطيل الصفات، والمؤوّلون لا يريدون تشبيه الله تعالى، والأدلّة محتملة وغير قطعيّة، ولو كان الأمر قطعيّاً ما اختلفوا أصلاً، فأصول العقائد متّفَق عليها عند أهل السُّنّة، والخلاف بين المذاهب السنيّة في الفروع، وقضيّة الصفات المختلَف فيها من فروع العقيدة.
فمذاهب أهل السُّنّة المقبولة بهذه المسألة هي: (الإثبات والتفويض والتأويل)، أمّا المرفوض: (فالتجسيم والتعطيل).
وعليه فالمذاهب الثلاثة (أشعريّة وماتريديّة وسلفيّة) كلّهم من أهل السُّنّة والجماعة، لأنّ أهل السُّنّة واقعيّاً يشملون هؤلاء كلّهم.
يقول الإمام محمد بن أحمد السفاريني الحنبليؒ: “أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ثَلَاثُ فِرَقٍ: الْأَثَرِيّة وَإِمَامُهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ؓ، وَالْأَشْعَرِيّة وَإِمَامُهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ ؒ، وَالْمَاتُرِيدِيّة وَإِمَامُهُمْ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ” (4). 
طبعاً كثيرون لن يقبلوا هذا الكلام، فكم تمّ الضخّ من الجانبَيْنِ بعكسِ هذا الكلام!
ولعل بعضهم يقول: كيف نتجاوز الخلاف في العقيدة؟!
الجواب: هذا خلاف بفروع العقيدة وليس في أصولها، وكما أنّ الأمّة مرّت بفترات تعصّب فقهيّ مذهبيّ حتّى إن بعضهم مضى به التعصّب إلى عدم جواز التزوّج من أتباع مذهب آخر، وبنوا عدّة محاريب في المسجد الواحد! ثم شاع التسامح الفقهيّ وتجاوزت الأمّة هذا التعصّب الذميم، وعليه ينبغي على الأمّة أن تسير بوعيها لتجاوز هذه الخلافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، فالمهم هو العقيدة التي تزرع الخوفَ من الله والحبَّ له والتعظيمَ له، العقيدة التي تثمر طاعة لله تعالى.

وهذا ما أعتقد أنّه سيحصل في قابل الأيّام، لكنّني هنا أطالب بالسرعة لاعتماد هذا الرأي، حتى نوفّر على أمّتنا المرهقة مزيداً من الجروح والآلام.

أمّا في الآخرة فالذي أعتقده وأرجوه -دون تألٍ على الله تعالى- أنّ الله ﷻ لن يسألنا -بفضله وكرمه- عمّا يُسَمّى بآيات الصفات ولن يختبرنا اختبار عقيدة (كما تفعل اللجان الفاحصة) بجزئياتٍ تصنّف الناس وتقسِّمهم، لكن الله ﷻ سيحاسبنا على أركان الإيمان الستّة، وأركان الإسلام الخمسة، وعن سلوكنا ومعاملاتنا وأخلاقنا، فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره.

وفي مجال التعليم: علينا دراسة العقيدة المقارنة كما ندرس الفقه المقارن، فنقول: في هذه المسألة لأهل السّنّة ثلاثة مذاهب: من أهل العلم من أوّل فقال: كذا وكذا، وبعضهم قال: نفوّض المعنى لله تعالى، وبعضهم قال: نثبت صفة كذا وكذا.. ولا بأس بترجيح مذهب على آخر، بحسب ما يترجح لطالب العلم ويطمئن له قلبه، ويرتاح له عقله.
والراجح أنّ هذه النصوص لا يصحّ معاملتها معاملة واحدة، فمنها ما سِيق النصُّ لأجله، ومنها ما سيق النصّ لغيره، ومنها ما اتُفق على تأويله، ومنها ما اختُلف فيه، فينبغي معاملة كلّ نصٍ على حِدة.
ويسع المسلم اعتقاد ما يطمئن له قلبه، ويرتاح له عقله، دون تثريب أو لوم، فتفاصيل كُتُب العقائد من البدع التي لم تكن زمن الصَّحْبِ الكرام، وقضيّة الصفات لم يهتمّ بها الصحابة الكرام ولا درّسوها لأحد، ولا امتحنوا بها عقيدة أحد، بل لم يرد عنهم كلامٌ واضح يمكن أن نُكوّن من خلاله تصوّراً يمكن أن يشكّل (مذهب السلف)، فقد سكتوا عنها، إلا بعضَ التفسيرات هنا وهناك، أما سبب سكوتهم فتختلف المذاهب في تعليله، وكل مذهب يقول: إن الصحابة فهموا الآيات على مذهبهم.

فالمفوّضة قالوا: الصحابة قرؤوها ولم يثبتوا تلك الصفات لأنها توهم مشابهة المخلوقين لله تعالى وتنزّه، ولم يؤوّلوها وفوّضوا معناها لله تعالى.
والمثبتة قالوا: إن الصحابة أثبتوا الصفات كما هو منطوق الآيات، لذلك لم يفسّروها تفسيراً آخر.
والمؤولة قالوا: الصحابة عربٌ أقحاح، ويعرفون أساليب العربية ففهموا تلك الآيات حسب سياقها على مبادئ العربية واشتمالها على المجاز.
أضف إلى ذلك انشغالهم بالجهاد والدعوة، وبُعْدهم عن الفلسفة والجدل، الذي جاء في زمن لاحق (5)  حتّى قيل: كتب العقيدة تفرّق، والإيمان يجمع، فالإيمان إجمال والعقيدة تفصيل، الإيمان بساطة والعقيدة تعقيدٌ، الإيمان فطرة والعقيدة تكلُّف، الإيمان باب مفتوح والعقيدة سور منيع (6). 
طبعاً هذا الكلام لن يرضي أحداً من متعصّبي المذاهب المنتشرة، فكّل مقلّدٍ لمذهب سيقول: (مذهبي صواب ومذهب غيري خطأ)، وسينتصر لمذهبه وسيسوق أدلّته وحُججه، لأنّه يعتقد أنّ رأيَه أقوى، وتوافقه الأدلّة العقليّة والنقليّة واللغويّة، وهذا طبيعي جدّاً، لكنّه لن ينهي مأساةً استمرّت مئات السنين، وستستمر إلى أن نقتنع بهذا الرأي.
وهنا لا نطالب أحداً بترك عقيدته، ولا نمنع الحوار العلميّ بين المذاهب، لكن ينبغي أن يبقى هذا ضمن حوارات البيت الداخليّ، كما نناقش رجحان قولٍ فقهيّ دون تشنّج، ونُبقي على مخالفنا ضمن مذهب أهل السُّنَّة.
فالذي نطالب به -وبشدّة- عدمُ إخراج إخوانكم من دائرة أهل السُّنَّة، فإن كنتم تتَّهمونهم بالتجسيم، فإنّهم يتهمونكم بالتعطيل!
مع الأسف نحن نختلف حول بعض الصفات الإلهيّة والناس أنكروا الذات والأديان، ونختلف حول التوسّل بالنبيّ والناس أنكروا النبوّة والوحي!
فهذا زمان إنقاذ الإيمان، وليس زمن الانتصار لمذهب عَقديّ إسلاميّ على مذهب إسلاميٍّ آخر!
كلُّ أمم الأرض تتسامى فوق خلافاتها عند النكبات، إلا نحن، فعندنا شغف بشقّ الصفّ!! وليت الأمر كان لأسباب مقنعة، بل بسبب آراء عقديّة لا تقدّم -عمليّاً- شيئاً ولا تؤخّره! فالمسلم يعظّم الله ويصفه بصفات الكمال، وينزّهه عن صفات النقص، ولو رجعتَ للقرآن الكريم لوجدته يُجمِل في العقيدة ولا يفصّل، ويركّز على ثمرات وآثار العقيدة من إيمان وعمل صالح وتعظيم لله ومحبّة له ورهبة منه.. أمّا التشقيق في العقيدة والتفصيل والتشريح فهو من آثار مناهج اليونان وفلسفاتهم.
يقول الدكتور محمد عمارة: “وفي علم العقيدة الإسلامية -علم الكلام الإسلامي- سنجد الكثير من الجدل الذي دار بين علماء الكلام في الإلهيات والغيبيات، التي اقتصد الإسلام في الحديث عنها، لعجز العقل البشري، وهو نسبي الإدراك عن فقه حقائقها ومكنوناتها، بل ولعجز اللغة عن التعبير عن كنه هذه الحقائق، وهو جدل تضخّمت به كثير من كتب الفرق والمذاهب الكلامية، تسرّب إليها من المجادلات والمناظرات التي دارت بين علماء الكلام وبين أصحاب المذاهب والديانات غير الإسلامية، وخاصة مذاهب الفرس والهنود وفلاسفة الغنوصية والباطنية، ثم حدث أن انتقلت هذه المجادلات من ميدان الصراع الفكري الخارجي إلى ميدان الجدل بين المذاهب الإسلامية، فوظفت في غير ميدانها، وفرقت الصف الإسلامي، وأورثته الكثير من ألوان التعصّب المذهبي المقيت، حتى ليشهد على هذه الحقيقة أحد أساطين هذا العلم، حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (450-505هــ) فيقول: إنك قد تعرض المسألة على الأشعري فيوافقك عليها، فإذا قلتَ له: إنها رأي المعتزلة، عاد فرفضها، بعد أن كان قد قبلها، والعكس صحيح!” (7).
كما ينبغي تجاوز المسائل القديمة مثل التمييز بين (صفات المعاني والمعنوية) عند الأشاعرة هذا التمييز كان رداً على مسألة تاريخية أثارها المعتزلة حيث نفوا صفات المعاني وهي (القدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والحياة والكلام) حتى لا يتعدد القدماء!!
فهذه مسألة تاريخية نتركها في المراجع القديمة للمتخصّصين، ولا نُدخل كلّ مسلم يريد دراسة العقيدة بهذا الخلاف الذي لا يخطر بباله لولا إثارة الكتاب لهذه المسألة.

لذلك ألّف الإمام الغزالي رحمه الله رسالةً سمّاها: (إلجام العوام عن عِلْم الكلام) فعلم الكلام وتناول العقائد فلسفيّاً وبالأدلّة العقليّة، دواءٌ لحالات فرديّة ممن عنده شبهات، وقد يُعطى للعموم إذا انتشرت شبهات فكريّة، كوباء عام مثل بعض الأفكار اللادينية في أيّامنا.
أمّا الكتاب والسّنّة فهما غذاء، ولا يجوز اللجوء للدواء في حال الشفاء، ويجب تناول الدواء عند المرض، فالأَوْلى عرض العقيدة كتقرير أوليّ، من غير ذِكْر الشبهات والردود عليها، فـ(ذِكْر الشبهة يحييها)، ومنهج القرآن الكريم غرس الإيمان العقليّ والعاطفيّ الذي يزرع الخوف من الله والحبّ له،  فيثمر عملاً صالحاً وخُلقاً حسناً.

ومما يُؤسف له أن يبني بعض المنتسبين لهذه المذاهب العقديّة (أشاعرة وسلفيّة) الولاء والبراء على ذلك، ويَظهر ذلك في الردود العلميّة القاسية، وامتحان كلّ متقدّم لوظيفة أو منصب دينيّ، فإن أثبت الصفات أو أوّلها (بحسب اتجاه اللجنة الفاحصة) فهو كفءٌ عقديّاً، وإلّا فهو غير كفء، وينبغي منعه مِنْ أيّ نشاط علميّ أو دعويّ، وإن كان علّامة الدنيا! وبهذا المعيار المجحِف نفسه يُعامل المتأخّرون أئمّةَ السلف، فمَنْ خالف في شيء من جزئيّات العقيدة (التي يتبنّونها) فهو منحرِف عقديّاً، وينبغي التنبيه على ذلك والتحذير منه، حتّى وصل الأمر بأن أحرق بعضُهم كتباً مرجعيّة لكبار الأئمة لمجرّد مخالفتهم في مسألة الصفات!
فضيّقوا دائرة الإسلام العظيم، وحصروا أمّة المليار ونصف المليار-التي لطالما تغنّينا بها- في أضيق نطاق، نطاقٍ يكاد لا يتّسع إلا للشيخ الذي وضع المعايير (متن العقيدة) وتلاميذه الذين اتّبعوه فيما قال.
وكلّ جماعة تخالف جزءاً من اختيارات هذا العالم العقديّة، تصبح تتقاطع مع أهل السُّنَّة بمقدار ما توافق اجتهاداته! فاختيارات العالم هي الميزان والمعيار الذي أنزله الله ليكون حُجّة على خلقه (بزعمهم)!

وكثير من هذه الآراء العقديّة لم تنتشر بقوّتها الذاتيّة، بل بالاستعانة بالمال والسلطة والإعلام، كما أنّ كثيراً من هذه الخلافات يُزكي أُوارَها السياسيّون ممّن يقتاتُ على تفرّقنا!
وبعد أن يصبح الأمر انتماء لمذهب، تنشأ العصبيّات التي تنتقي من النصوص والأقوال ما يوافقها!! وتختفي الموضوعيّة والإنصاف.
وقد أصبحت هذه اللوثةُ منهجيّة علميّة، فكلّ عالم (من القدماء أو المعاصرين) يُسأل عن تفاصيل عقيدته، فإن خالف بشيء، يأتي مَنْ يقول: (هو مِنْ أهل السُّنّة والجماعة إلا في كذا) ممّا خالفهم فيه!
فتصبح آراؤنا العقديّة هي المعيار والمقياس الذي تُقاس به عقائد الناس، فنحن حُجة الله على خلقه!!
وهنا لطيفة مهمة وهي أن أكثر كتب العقيدة لم تُنسب للإسلام وإنما نسبت إلى أسماء مؤلفيها مثل: العقائد النسفية والواسطية والطحاوية والتدمرية وعقيدة الأشعري والماتوريدي، وليست العقيدة الإسلامية، فنُسبَت لأصحابها وهي بحق كذلك، فقد كان كل عالم يكتب تصوّره وفهمه لفروع وتفاصيل العقيدة الإسلامية أي تصوراته واجتهاداته في المسائل النظرية  مما يتعلق عالم الغيب، حسب فهمه لكتاب الله وسنة رسول الله  وترجيحه بين آراء الفلاسفة والمتكلمين واجتهاده ورأيه في المسائل التي أثارت العقل.
وحتى ما يسمى العقيدة من الكتاب والسنة، فهذان المصدران (الكتاب والسنة) هما مصدر كل المسلمين، وما في تلك الكتب (السلفية) ما هي إلا فهوم وانتقاءات المؤلفين، كما لا يخفى.
لهذا فلا يجوز أن يُزعم أن هذا مراد الله تعالى وأن هذه هي الحقيقة المطلقة التي ينبغي اعتقادها ومن أنكرها فهو كافر، فهو تقوّل وافتئات على الله ، طبعاً المقصود هنا فروع العقيدة وتفاصيلها، أما أصول العقيدة المجمَع عليها، فيمكننا القول هذه هي العقيدة الإسلامية التي يجب الجزم والإيمان بها.

فالمطلوب أن يكون انتماؤنا لما جاء به نبيّنا محمد صلي الله عليه وسلم وهو الإسلام، ومفهوم أهل السُّنَّة والجماعة يجب أن يمثّل المسلمين بأوسع نطاق.. ولا نُخرِج عن هذا المصطلح إلا من انحرف انحرافاً يبعده عن الأمّة..

والغريب أنّ مَرَضَ اضطهاد العالم الذي لا يوافق غيرَه الرأيَ بمثل هذه المسائل الخلافيّة، سلوكٌ قديم فهذا ابن حِبّان (صاحب الصحيح) يطرده أناسٌ من سجستان ويتّهمونه برِقّة الدين، لأنّه أنكر (الحدّ) عن الله تعالى! ويعلّق الإمام الذهبي ؒ على هذه الحادثة تعليقاً نفيساً فيقول: “إنكاركم عليه بدعة أيضاً، والخوض في ذلك ممّا لم يأذَن به الله، ولا أتى نصٌّ بإثبات ذلك ولا بنفيه، ومن حُسْنِ إسلامِ المرءِ تركه ما لا يعنيه، وتعالى الله أن يُحَدّ أو يُوصَف إلا بما وَصَفَ به نفسَه أو علَّمه رُسُلَه، بالمعنى الذي أراد، بلا مِثْلٍ ولا كَيْف، (ليسَ كَمثله شيءٌ وهو السميعُ البصير) [الشورى:11] وقال في موضع آخر: إنكاره الحدَّ وإثباتكم للحدّ نوعٌ من فُضول الكلام، والسكوت عن الطرفين أَوْلَى (8). 
صدق الإمام الذهبيّ رحمه الله تعالى، فالذي يبقى في عقل المسلم ووجدانه هو تعظيم الله ومحبّته، وتغيب عن ذهنه هذه التفصيلات والتنطّعات التي ما أنزل الله بها من سلطان!
لذلك أرى أن يقتصر تعريف أهل السُّنَّة والجماعة على من اعترف بحجيّة القرآن الكريم والسُّنَّة النبويّة مصدراً للتشريع والاعتقاد، أمّا ما عدا ذلك فيغتفر الخلاف فيه، وقد ذكرتُ سابقاً أنّ ذلك يشمل الأشاعرة والماتريديّة والسلفيّة في مجال الاعتقاد، ويشمل أتباع المذاهب الأربعة وغير المتمذهبين من السلفية، ويشمل الصوفية السُنيّة من العلماء المنضبطين بالشريعة البعيدين عن البدع والخرافات.
وهذا لا يلغي التناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بين الجميع.
لأنّ أهل السُّنَّة اليوم هم جسد الأمّة، وهذا الجسد يتشكل من دوائر متداخلة، نفصّل فيها في معرض التدارس، ونُجْمِل فيها في زمن المواجهة الشاملة، والتحدّي الخارجي الذي يهدّد باجتياح الأمّة قاطبة (9).
إذن لا بدّ من اصطفاف جديد لأهل السُّنّة، يفوّت الفرصة على أعداء الأمّة ممن يستثمرون هذه الثغرات، وبخاصّة في زمن التكتّلات المصلحيّة العالميّة، وتهديد الأمّة بالاستباحة والإبادة.
بصراحة: إذا لم نتجاوز هذا الخلاف فكلّ حديث عن التعايش ووحدة المسلمين وتساويهم وتعاونهم، حديثٌ ليس له فائدة.
وستنفجر هذه المسألة بين الفينة والأخرى لتمزّق الصفّ، وتشتّت الجهود.
وأختم بهذه الآيات الكريمة التي تغني عن كلّ الكلام السابق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)} [آل عمران: 102 – 108]

_____________________________________________________________________

(1) توسعتُ في الملاحظات التي ينبغي الحذر منها في التصوف في كتاب مستقل بعنوان: التصوف رؤية جديدة.

(2) ينظر: مقدمة كتاب عقيدة المسلم، محمد الغزالي.

(3) ينظر: الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني، 1/210

(4) ينظر: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، 1/73.

(5) ينظر البحث القيّم: الصفات الخبريّة عند أهل السّنّة والجماعة، د.محمد عياش الكبيسي.

(6) ينظر: مقال الإيمان المفتوح والعقيدة المغلقة، د.محمد مختار الشنقيطي.

(7) تهذيب التراث الإسلامي، د.محمد عمارة.

(8) ينظر: سير أعلام النبلاء، 16/97، ميزان الاعتدال في نقد الرجال، 6/99

(9) ينظر مقال: من غروزني إلى الكويت، عباس شريفة.​




داء المشيخة

قد يقول قائل: وهل المشيخة داء؟

نعم عندما يتحول طالب العلم إلى شيخ بزِيٍ معيّن، ينتظر من الناس الاحترام والتبجيل، والدعوات للولائم والعطايا، والتصدُّر بالمجالس والمدح والذِّكْر الحسن.. ويشكو انتشار قلة الأدب، ويتباكى على زمان الأدب.

بينما الدعوة مِنْ أُسُسِها: الصبرُ على الأذى، والمحن والابتلاءات، وغِلظة العوام، وتهجّم الحكّام والظلّام.

فلسنا أفضلَ حالاً من أنبياء الله!! والقرآن حاشد بقصص الأنبياء، وذِكْرِ إيذاء أقوامهم لهم، تصبيراً وتثبيتاً لمن تبع سبيلَهم.

فيروى أن أحد الدعاة الكبار المشاهير زار بلدةً فوجد الناس ينتظرونه محتفين  به، محتشدين مرحّبين.

فرجع إلى نفسه متّهماً قائلاً: يجب أن نعيد حساباتنا، فالأنبياء الصادقون كانوا يلقون الأذى!! 

طبعا هذا من صدقه ومراقبته لنفسه، وإلا فالهجرة إلى المدينة كان هذا شأنُها.

لكن الهجرة نقطة في بحر الأذى الذي لقيَه صلّى الله عليه وسلم.

مرةً قال أحدُ الكتّاب المثقفين: لا ينقضي عجبي من اتباع العوام لبعض المشايخ! فو الله خطاب هؤلاء المشايخ لا يقنع عاقلاً!! لكنه الرصيد الموجود في وُجدان الناس لعلماء الدِّين عامة، الذي زرعه العلماء الصادقون، وورثه هؤلاء الدراويشُ المتكسِّبون!!

فبعض المشايخ يقتاتون على ما بذله العلماء الصادقون المضحُّون.

هناك فرق بين مَنْ يحملون الإسلامَ، وبين مَنْ يحملهم الإسلام!!

هناك فرق كبير بين الداعية الذي يريد هداية الناس.. وبين المُدَّعي الذي يريد المكاسب والجاه، والاحترام والتقدير من الناس..

هناك فرق بين مَنْ يعتبر العمل للإسلام مكاسب.. وبين مَنْ يعتبره واجباً عليه أن يتحمّل في سبيلها المصائب..

هناك فرق بين من يعتبر العمل للإسلام مغنَماً، وبين من يعتبره مغرَماً!! وليس مقالي هذا رخصةً وذريعةً للناس لإساءة الأدب مع علمائهم!! 

فالمقال موجّه لإخواني طلاب العلم الصادقين، ولكلِّ مقام مقال، وما يقال لطرف، لا يُقال للطرف الثاني، فالأمم الراقية تحترم علماءَها، لأنهم يساهمون في تنمية العقول والأرواح والأنْفُس..

وقد كتب الطنطاوي قديماً مقالاً نعى فيه على بعض المشايخ ما سماه: (صناعة المشيخة) ويقصد أنها: “صارت علامة على طبقةٍ تأخذ من الناس ولا تعطيهم، وتستجيب لدعواتهم ولا تدعوهم، وتقول لهم ولا تسمع منهم، وسمةً لمن هو غريب عن عاداتهم ومواضِعِهم، صارمٌ في وعظهم، شديدٌ في نصحهم، لا يقبل رداً على كلام، ولا جدالاً في رأي، يتكلم (النحْويَّ)..”

وفي النهاية هذا تذكير لي وإخواني، أن يحملوا همّ الدعوة، ويتحمّلوا في سبيلها ما يلاقون، ولا ينتظروا من الناس جزاءً ولا شكوراً.




دكتوراه ببضع صفحات!!

دور الدراسات العليا الأكاديمية في التجديد

ما زلتُ أذكر أستاذي الذي أشرف عليّ في مرحلة الماجستير، جزاه الله عني كل خير، عندما أمسك بإحدى خطط البحث المقترحة للماجستير: (الخطة: عبارة عن فهرس مبدئيٍ للبحث الذي ينوي الباحث كتابته)، وكانت وقتها حوالي سبع صفحات A4، قرأ الخطة ثم أشار إلى جزء صغير فيها (عدة أسطر) وقال: “هنا عملك!” يقصد: هنا العمل الحقيقي، والباقي تكرار لمن سبقك. تأمّلت تلك الخطة فوجدتُ كلامه صحيح ودقيق، ففي ذلك الجزء الصغير الذي أشار إليه من الخطة، كانت النوازل المعاصرة التي تحتاج إلى اجتهاد جديد.

لقد انتشرت في ديار المسلمين -بفضل الله تعالى- الدراسات العليا التي ينال بها الباحثون الألقاب العلمية (الماجستير والدكتوراه) ثم يترقّون بعدها عبر البحوث المحكّمة والتدريس الجامعي إلى درجة (الأستاذية)، وهو تطبيق عملي لقوله تعالى: (وقل رب زدني علماً) وهي ظاهرة تستحقّ الإشادة والفرح والترشيد، فبحوثُ الدراسات العليا من المجالات المعوّل عليها في الاجتهاد المعاصر والنهوض ببلداننا.

لذلك سأذكر أربع ملاحظات لتساهم الدراسات العليا والبحوث العلمية بنهضة بلداننا

الملاحظة الأولىعلينا أن نشجّع الباحثين على الإبداع والاجتهاد الجديد:

رغم انتشار الدراسات العليا في ديارنا إلا أنها خالية في كثير من الأحيان من أهم مقاصدها وهو: تعلّم مناهج البحث العلمي، في التخصّص الذي اختاره الباحث، وتقديم نتائج وتوصيات نظرية وعملية تسدّ النقص العلمي، وتحلّ الإشكال المعرفي، وتطوّر الواقع الفعليّ، الذي لأجله قام الباحث ببحثه، وينعكس ذلك على الحياة العلمية والعملية، فتتطوّر الأنظمة والأفكار والمنتجات، فتنهض البلاد.

لكن بعض الجامدين حتى ممن يحملون الألقاب العلمية، ويشرفون على الباحثين ويشاركون في مناقشة البحوث -مع الأسف- يُخرجون هذه البحوث عن مقصودها وهدفها ولبّها وفائدتها الحقيقية، وذلك بطريقة مناقشتهم وملاحظاتهم، فيمنعون الباحث من الترجيح أو إبداء الرأي، ويوبّخونه لو ظهرت شخصيته في البحث، بدلاً من تشجيعه على الاجتهاد والإبداع والإتيان بالجديد!! (طبعا هم يزعمون أنهم يريدون أن يربّوا الباحث ويعلموه التواضع واحترام جهود السابقين، لكنهم مثل الذي يريد أن يقوم بعملية للعين ليصلحها فبدلاً من إصلاحها يُعميها!! وهم هكذا يفعلون، فبدل أن يجعلونه يترك التكبر ويتواضع، يجعلونه يترك الاجتهاد والإبداع، ويجمد على أقوال السابقين. لكنّ فِعْلَهم هذا في حقّ الباحث يعتبر جريمة!! لأنهم يقتلون إبداعه.

حتى إنّ أحد (الدكاترة الجامدين) كان يقول: “الترجيح بين أقوال العلماء قلة أدب!!” طبعاً بمعيار هذا الدكتور كلُّ علمائنا -حاشاهم- من قليلي الأدب، فكتبهم طافحةٌ بترجيح مذاهبهم، والردِّ على المخالف لهم من بقية المدارس، أو من يخالفهم ضمن المذهب الواحد. وبهذا المنهج الجامد يفقد البحثُ العلمي فائدته وهدفه، فالأصل في البحث العلمي أن يعالج مشكلة علمية، ويسدّ ثغراً مفتوحاً يحتاج لاجتهاد واختراعٍ وحلّ جديد.

الملاحظة الثانية: ألا ينشغل الباحثون بالبحوث والدراسات التي لا يحتاجها واقعنا:

ولا فائدة علمية ولا عملية منها، ولا نحتاجها في دنيانا ولا تنفعنا في آخرتنا! بل يركّز على المسائل والقضايا التي تحتاجها بلادنا.

لذلك علينا أن نوفّر عناوين للبحوث التي نحتاجها في كل مرافق حياتنا وتخصّصاتنا، بدلاً من تشتّت الطلاب وحيرتهم في اختيار مواضيع لدراساتهم وبحوثهم، فنترك للطلاب الأغرار هذه المهمة الشاقّة، ولا نستثمر جهودَهم بما ينفع بلداننا.

الذي نقترحه: أنّ كلّ قطاع من وزارات الدولة ومؤسساتها، ومؤسّسات المجتمع المدني وحتى القطاع الخاص، أن يكتب ما يحتاجه من موضوعات تحلّ مشاكله وتساعده على التطوير، ويرسل بهذه العناوين أو المشكلات إلى مؤسسة متخصّصة بجمع هذه المسائل، ولتكن -مثلاً- وزارة التعليم العالي، أو (أي مؤسسة حتى لو كانت ربحية تقوم على الإشراف على هذا الأمرفيرجع لها طلبة الدراسات العليا لأخذ العناوين المطلوبة، فنحقّق خدمة متبادلة: للطالب الذي يبحث عن موضوعٍ لبحثه من جهة، وللمؤسسة أو الجهة التي تبحث عن بحوث لتطوير نفسها وحلّ مشاكلها من جهة ثانية، كما يمكن أن ترعى (الجهةُ التي تحتاج البحث) الطالبَ مادياً لينجز لها بحثاً وحلولاً لمشاكلها، التي قد تكلّفه ثلاث أو أربع سنوات من العمل البحثيّ الشاق.

وقبل هذا علينا أن ننشر هذه الثقافة في مجتمعاتنا، فإلى الآن أكثر الناس لا يعرف عن الدراسات العليا شيئاً، ولا عن البحوث النظريّة والعمليّة والإحصائيّة والتجريبيّة، فيظنون الدراسات العليا كتباً تُحفظ كالدراسة المدرسية، لذلك لا يوجد ارتباط بين الجهات التي تحتاج الأبحاث من جهة، وبين طلاب الدراسات العليا من جهة مقابلة!

ولطالما كنّا نتباكى على عدم وجود مراكز بحث في ديارنا، وننشر –متحسّرين- الإحصاءات عن المبالغ الطائلة التي تنفقها الدول الراقية على البحث العلمي، وننسى الجهود المضنية التي يبذلها طلاب الدراسات العليا في بلداننا، مع ما يبذلونه من (وقت وجهد ومال) حتى يُنجزوا أبحاثهم، وهي موارد للأمة مضيّعة، أو غير مستثمَرة -بشكل لائق- على أقل تقدير.

الملاحظة الثالثةالاختصار والتركيز في البحوث والدراسات على موضع الإبداع وحلّ الإشكال:

بدلاً من المباحث الطويلة التي تمهّد وتلخّص كثيراً مما ليس ضرورياً للبحث؟

فكثير من البحوث الأكاديمية ليس فيها إلا الجمعُ، وإعادةُ الترتيب، وفي أحيان قليلة إعادةُ الصياغة والإتيان بأمثلة معاصرة.

يجب أن نعمل على أن تصبح بحوثنا دائماً (مركّزة) بدلاً من رُكام الأوراق التي تخلو من العطاء الجديد؟! فكثير من الكتب الإبداعية التي أحدثتْ ضجةً ونقلة نوعية في الوسط العلمي العالميّ؛ عبارةٌ عن مقالة أو كُتيّب صغير!!

لكننا قومٌ مفتونين (بالكمية على حساب النوعية) كما يقول أستاذنا د. عبد الكريم بكار، فالتفاخر -مع الأسف- بعدد الصفحات لا بنوعية الكتابة والجديد فيها! ولطالما سمعنا أنّ الجامعات العالمية المرموقة تعطي درجة الدكتوراه على بحث صغير الحجم، (عدة ورقات) وأصارحكم أنني كنتُ لا أعرف سببَ ذلك وأستغربُه، (كيف يعطون شهادة أكاديمية عالية لبحث صغير الحجم؟!).

وهنا يأتي سؤال: كيف سنتأكّد أن الطالب تملّك المنهج العلميّ، إذا لم يكتب بحثاً طويلاً؟ الجواب: بما أنّ الباحثَ وصل لنتائج صحيحة، وناقشتْه اللجنةُ العلمية (المتخصّصة) واطمأنوا أنه استخدم منهجاً علمياً سليماً، ووصل به للنتائج التي انتهى إليها، فقد حقّق المقصود، وأضحى باحثاً مؤهّلاً لتطبيق ذلك المنهج العلميّ في بحوث جديدة، واستخراج النتائج التي تثري الحقل المعرفي. فلا نحتاج لتكرار المعلومات التي سبقتْ دراستُها، وليس لنا فيها رأيٌ جديد، وذلك لعدة أسباب أهمها:

1-هدر الموارد:

 كإضاعة وقت وجهد الباحث والقارئ، بغير فائدة تناسب ذلك الوقتَ والجهد المبذول، والورقَ والحبر الذي ينتج عن تكبير (ونَفْخِ) المؤلّفات، حتى إنّ الرفوف تأنّ، والأماكن تضيق، بالمجلدات الكثيرة، وأغلبها نسخٌ وتكرار!

2-ضياع الإبداع وسط التكرار:

البحوث الطويلة تُلزم القارئَ لها أن يقرأ شيئاً مكرّراً معروفاً ومذكوراً ببقية الكتب، إذا لم يتنبّه القارئ ويتجاوز ذلك المكرّر، وبخاصة إذا كان ممن يُؤثر قراءة الكتاب كاملاً!، بل ربما أصابه الملل أو الانشغال فيترك البحث قبل أن يصل إلى (الزبدة) أي: المقصود وهو الاجتهادات الخاصة بالمؤلّف، فتضيع جواهر البحث وآراء الباحث الخاصة بين ركام المعلومات المكرّرة. بينما لو اقتصر الكاتب على الزبدة فقط، وأتى بحججها وأدلتها وناقشها جيداً، لقرأها -لا محالة- كل من يطّلع على البحث.

حتى المتخصّص يعجز عن الاطلاع والإحاطة بالمؤلّفات في تخصّصه، لكثرتها وطولها وتكرارها للمعلومات، فلا يقف المتخصص بسهولة على الفروق بين وجهات نظر المؤلِّفين، فـ”كثرة المصنّفات تعيق عن التحصيل” كما ذكر العبقري ابن خلدون رحمه الله في مقدمته.

3-نفاد جهد الباحث قبل الوصول للمقصود:

 في البحوث المطوّلة عندما يصل الباحث للجزء (الذي يحتاج اجتهاداً جديداً) ربما يكون قد أصابعه الإعياء والملل، فلا يعطي هذا الجزء حقّه، وهو المقصود من بحثه أصلاً!! وقد سمعت أستاذنا د. أحمد الريسوني يقول: مشكلة (مبحث المقاصد) أنه يأتي في نهايات الكتب -غالباً- فيصل له المؤلف وقد تعب، فلا يعطيه حقّه من البحث والتمحيص والتوسّع والإنضاج، وهذا من أسباب تأخّر نضوجِ هذا العلم الجليل أي (المقاصد). فالتركيز على المشكلة البحثية وحلّها، يساهم في تفرّغ الباحث أو المؤلّف لحلّ مشكلة علمية أخرى، ولا ينشغل ولا يستفرغ جهده ووقته وطاقته بتكرار وإعادة صياغة المعلومات القديمة المعروفة.

4-رفع سوية الكتابات العلمية:

 نريد الاختصار في الأبحاث حتى نعتاد التركيز على الإبداع والتجديد، ونتخلّص من تكرار المعلومات في المؤلفات كالآلة الناسخة! نريد الاختصار حتى نخفف من ظاهرة: (الاهتمام والافتتان بالكمية على حساب الكيفية والنوعية الجيدة)، فلطالما سمعنا من يقول مفتخراً: “ألّفتُ كتاباً بلغ كذا وكذا من الصفحات”، ولا يذكر قيمتها العلمية! مع أنّ المنطق يقضي بأنّ (الكمية الكبيرة غالباً ما تكون على حساب النوعية الممتازة)، فالجمع بين الكمية الكبيرة، والجَودة العالية نَدَر أن يجتمعا وبخاصّة في مجال التأليف العلميّ.

الملاحظة الرابعةضرورة نشر الدراسات والأبحاث حتى يستفيد منها الناس:

 فبعد الانتهاء من البحث، ومناقشة اللجنة العلمية للباحث، ونيله الدرجة العلمية (ماجستير أو دكتوراه) لا يجد الباحث داراً للطباعة تنشر بحثَه، فيُرمى البحثُ في المخازن أو يبقى حبيس الأدراج، أو في ملفٍ إلكتروني في حاسوب، لا يستفيد منه أحد! على الأقل انشروه إلكترونياً فالنشر الإلكتروني لا يكلّف شيئاً، وإلا فما فائدة هذا البحث إذا لم يأخذ طريقه للنشر والتطبيق في الواقع.

علينا أن نعيدَ النظر بتفعيل الدراسات العليا، حتى تساهم بنهضة بلادنا، فالدراسات الأكاديمية ذات النوعية الراقية، نكسب منها أمرين اثنين: أولاً: باحثون أكاديميون يحملون مناهج علمية في عقولهم، ويطبّقونها في حياتهم. والأمر الثاني الذي نكسبه: بحوث نوعية راقية تساهم في تطوير واقعنا، حتى نستعيد حضارة أمتنا، والله الموفّق.