نعم للنقد ولا للسخرية!!
فرق بين من ينقد الفكرةَ وبين من يسخر من صاحبِها.. أحبّ مَنْ يعرض رأيَه لا من يفرضُه.. ومن يناقش الفكرة لا من يتهجّم على صاحبها..
فرق بين من ينقد الفكرةَ وبين من يسخر من صاحبِها.. أحبّ مَنْ يعرض رأيَه لا من يفرضُه.. ومن يناقش الفكرة لا من يتهجّم على صاحبها..
ما دمنا لا نحسن الظن ببعضنا فلا ثمرة للحوار..
الاستعلاء وإشعار الآخرين أنك على الحق والحريص والوصيّ على الدين تُكْسِبُك تكبراً يمنعك من الاستفادة من الآخرين..
كما أن دينك غال عليك فهو غال على الطرف الآخر أيضاً..
كما أن لك رأياً تحترمه وتعتقد أنه الأقرب للصواب فكذلك غيرك..
والأمر فيه سعة.. وكلها اجتهادات بشرية تقارب الحق..
ولا أحد يملك الحقيقة الكاملة..
فتواضع وافتح عقلك للفكر الجديد..
فكم كنا ندافع عن آراء ثم ظهر لنا أنها مرجوحة..
وسّع صدرك وقلبك على إخوانك المسلمين..
قال الإمامُ البشيرُ الإبراهيميُّ رحمه الله:
(إنَّ علماءَ القرونِ المتأخّرةِ رَكِبتهم عادةٌ من الزَّهوِ الكاذبِ والدعوى الفارغة، فَجَرَّتهم إلى آدابٍ خصوصيةٍ، منها أنّهم يَلزَمون بيوتَهم أو مساجدَهم كما يلزمُ التاجرُ متجرَه، وينتظرون أن يأتيَهم النّاسُ فيُعلموهم، فإذا لم يأتهم أحدٌ تسخّطوا على الزمانِ وعلى النّاس.
ويتوكَّؤون في ذلك على كلمةٍ إن صدقتْ في زمان، فإنها لا تصدقُ في كلِّ زمان وهي:
[ إنّ العلم يُؤتى ولا يأتي ]
وإنّما تصدقُ هذه الكلمةُ في علمٍ غيرِ علمِ الدِّين،
وإنّما تصدقُ بالنسبة إليه في جيلٍ عرف قيمةَ العلمِ فهو يسعى إليه،
أما في زمننا وما قبله بقرون فإنّ التعليمَ والإرشادَ والتذكيرَ أصبحت بابًا من أبواب الجهاد،
والجهادُ لا يكون في البيوت وزوايا المساجد،
وإنما يكون في الميادين حيث يلتقي العدوُّ بالعدوِّ كفاحًا.
وقد قال لي بعض هؤلاء، وأنا أحاوره في هذا النوع من الجهاد، وأعتب عليه تقصيره فيه:
إن هذه الكلمة قالها مالك للرشيد.
فقلت له:
إن هذا قياس مع الفارق في الزمان والعالم والمتعلم،
أما زمانك هذا فإن هذه الخَلَّة منك ومن مشائخك ومشائخهم أدَّت بالإسلام إلى الضياع وبالمسلمين إلى الهلاك.
فالشبهات التي ترد على العوام لا تجد من يطردها عن عقولهم ما دام القسيسون والأحبار أقربَ إليهم منكم، وأكثرَ اختلاطًا بهم منكم، والأقاليم الإفرنجية تغزو كل يوم أبنائي وأبناءك بفتنةٍ لا يبقى معها إيمانٌ ولا إصلاحٌ.
ففي هذا الزمن يجب عليَّ وعليك، وعلى أفراد هذا الصنف: أن نتَجَنَّد لدفع العوادي عن الإسلام والمسلمين، حتى يأتينا الناس، فإنهم لا يأتوننا وقد انصرفوا عنّا وليسوا براجعين.
وإذا كان المرابطون في الثغور يقفون أنفسهم لصدِّ الجنودِ العدوَّة المغيرة على الأوطان الإسلامية، فإن وظيفة العلماء المسلمين أن يقفوا أنفسهم لصدِّ المعاني العدوَّة المغيرة على الإسلام وعقائده وأحكامه، وهي أفْتكُ من الجنود؛ لأنها خفية المَسَارِب، غرَّارة الظواهر، سهلةُ المداخل إلى النفوس، تأتي في صورةِ الضيف فلا تلبث أن تطرد ربَّ الدار …)
لماذا الجمود على الوسائل القديمة، تنظيف الاسنان بالسواك أو فرشاة الأسنان لذلك بعض الفقهاء قالوا بيده الخشنة أو أي عود أو بخرقة..
أي جهة رقابية بدلا من الحسبة لكل وزارة تخصصها والرقابة للجودة والأمانة والمخالفة باسم الرقابة الدنيوية وليس كل شيء منتسب للدين حتى لا يستشعر الناس أن الدين يحيطهم من كل جانب فينفروا
فوزارة الصحة تراقب المشافي والصيدليات والمراكز الطبية ونقابة الحلاقين تراقبهم وهكذا في كل وزارة أو نقابة أو جهة تراقبها جهة رقابية تضع المواصفات المطلوبة قبل التنفيذ ثم تراقب تطبيق ذلك وتطور كلما رأوا المصلحة في ذلك.. ووتقوم بدورات تطويرية لهذه الجهات..
التعلم بدلا من الوسائل القديمة نستخدم الوسائل الجديدة..
الذي يريد الإصلاح ينطلق من الواقع لتصحيحه وتقويمه فيدرس القدرات (الاستطاعات) ويقدر المصلحة، ثم ينطلق بإصلاح الواقع، فمن أوائل الخطوات في التخطيط للقيام بأي مشروع: (دراسة الواقع ومعرفة نقاط قوتنا وضعفنا والفرص والمخاطر).
أما نسف الواقع ، وعدم الاعتراف به فغير معقول وغير ممكن، ولم يفعله رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، وهو المؤيّد من ربّ العزة..
ولا يفعله أحد على وجه الكرة الأرضية من العقلاء.. مثلاً مسألة: (استعانة المسلمين بالكفار) النصوص الشرعية التي يستشهد بها المحرمون تقتصر على جانب واحد وهو المنع.. بينما هناك نصوص ومواقف نبوية تؤيد القول بالجواز.
والفقه في هذا هو فقه السياسة الشرعية وتصرفات الإمام، والذي يقتضي التعامل حسب مصلحة المسلمين واختيار الأنسب لهم، فالاستعانة بالكفار فيها نصوص تؤيد ونصوص تمنع.
والمعتمد في هذا عدم إطلاق الجواز، وعدم إطلاق المنع، بل الصواب الرجوع لمصلحة المسلمين وحالهم..
فإن كانت مصلحة المسلمين بالتحالف مع عدوٍ ضدّ عدو ثالث، فلهم ذلك، وإن كانت مصلحة المسلمين بعدم الاستعانة بغيرهم -بأن كانوا يخشون تسلّط من استعانوا به عليهم- فلهم ذلك.. فالأمر يعود لتقدير المصلحة حسب الواقع..
فـ(عمل الإمام منوطٌ بمصلحة المسلمين) كما هي القاعدة الشرعية المعروفة في باب السياسة الشرعية..
صحيح أنه ينبغي أن يطوّر المسلمون أنفسَهم بحيث يستغنوا عن الخارج..
لكن الاستغناء عن الخارج -بشكل كامل- ليس بمستطاع دائماً
واشتراط (استغناء المسلمين عن الخارج) غير ممكن..
وفيه تحميل للمسلمين بما لا يطيقون..
ورحم الله شيخ الإسلام حين قال:
“إِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:! {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} المفسر لِقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ؛ وَعَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَحْصِيلُ المصالح وتكميلها؛ وتعطيل الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، فَإِذَا تَعَارَضَتْ كَانَ تَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ مَعَ احتمال أدناهما: هُوَ الْمَشْرُوعَ“ فانعدام مراعاة فقه الواقع، والاستطاعة، وتقدير المصلحة، أساس البلاء !!
سياسة إيران في المنطقة سياسة مجنونة، وستحصد إيران ما تزرعه الآن من كراهية، لكن الشيعة ليسوا كتلة واحدة مع إيران، بل كثير من شيعة العرب ضد سياسات إيران المجنونة!!
فلماذا نخاطبهم خطابًا واحداً طائفياً معادياً؟
نحن بهذا نستعديهم علينا، ونحشرهم كلهم في زاوية واحدة ضدنا..
العجيب: أن الناس تتفنّن بتفريق العدو، ونحن نتفنّن بتجميع العدو وخَلْق أعداء جُدد..
هل سمعتم كلمة واحدة طائفية من حسن نصر الله، أو من النظام السوري؟؟
طبعا لم نسمع، لأنهم سياسيون مخضرَمون، مع أنّهم يستغلون الطائفية أسوأ استغلال، لكن لا يسمحون لهذا الخطاب بالظهور للعَلَن.. بينما خطابنا وإعلامنا مشحونٌ بالطائفية!!
ومشكلتنا ليست مع الشيعة أو غيرهم من الطوائف.. لكن مشكلتنا مع نظامٍ ظالمٍ استطاع الاستمرار في حكمه بمساعدة مجرمين من كلّ الطوائف..
وقد استغلّ طائفته ابشع استغلال..
ولولا وقوف ضباطنا وتجارنا الأنجاس بجواره لما استطاع تسلّم الحكم أصلاً!!
ذكر نكسون في مذكراته متحسِّراً أنه لم يستفد من الخلاف السني الشيعي! وعندما سمع كسينجر نبأ تسلم الخميني الحكم في إيران عام 1979 قال كسينجر: (الآن بدأت حرب المئة عام)!!
ونحن ننجرّ لهذه المكائد باستسلام!!
ينبغي أن يبقى صوت العقل عالياً..
ولا ننجرّ لوحش الطائفية الذي سيأكل المنطقة كلها، والكيان الصهيوني هو الرابح الأكبر.
سبق واقتتل العراق بدعم من دول عربية ثمانيَ سنوات مع إيران بقيادة الخميني.. فهل أنهى أحدُهما الآخر؟؟
واليوم لن ينهي أحدُنا الآخر، لكن سننشغل ببعضنا، ويضعفُ بعضُنا بعضاً، وأعداؤنا ينظرون بغبطة وسرور وحبور!!
صحيح أن إيران تستخدم الطائفية وتأتي بجنود عقائديين بحجة: “الدفاع عن أهل البيت“!
فهل هذا يسوّغ لنا ممارسة نفس الأسلوب القذر؟
يا إخواني الخطأ لا يولّد إلا أخطاءً.
سيستغل هذا الخطاب أعداؤنا الطائفيون ويقولون للمحايدين: “انظروا يا شيعة العالم.. السنة يريدون قتلنا كلنا.. فتعالوا معنا“… هذه نقطة.
النقطة الثانية: كيف سنقنع جنودنا بقتال المسلم السني الذي يصول ويعتدي ويبغي علينا؟ لو جعلناها حرباً طائفية؟
طبعاً ليس كلامي تجديداً لدعوات التقريب مع الشيعة، ولا دعوة لموالاتهم، ولا جهلاً باختلافنا مع عقائد الشيعة.. لكنها دعوة لنبذ الدعوات الطائفية.. (التي تطالب بمعاداة الشيعة لأنهم شيعة)
فليست حربنا حرباً أهلية طائفية (كما تروّج بعض الدول) بل (ثورة شعب مظلوم) اضطرّ لحَمْلِ السلاح ضد (نظام ظالم) استعان ببلدان خارجية مستعمِرة..
طبعا الكلام السابق لا يعني عدم الاحتفاظ بحقّ ردّ عدوان إيران ضدّنا..
قد لا يلقى هذا الكلام ترحيباً الآن، وهذا ليس بمستغرَب لأنّ المنطقة مشحونة بالطائفية..
وإن لم ينهض العقلاء ويصرخوا في وجه الطائفية؛ فستجتاح المنطقةَ موجةٌ (لا دينيةٌ) قاسية تأخذ معها كلّ شيء يمتُّ للأديان بصِلَة.
والتاريخ أمامنا يقول: لا توقظوا وَحْشَ الطائفية فيأكلكم جميعاً..
تتداول المواقعُ الإلكترونية قصةَ ديك مفادها: أن ديكاً طلب منه صاحبُه تركَ الأذان فجراً وإلا ذبحه.. فتركه مسوّغاً ومبرراً ذلك بفقه: (الضرورات تبيح المحظورات) وأن غيره يقوم بهذه المهمة ومن السياسة الشرعية الإبقاء على نفسي..
وبعد مدة طلب منه تقليد صوت الدجاج.. وإلا ذبحه.. فقلد صوت الدجاج.. وبعدها طلب منه أن يبيض وإلا ذبحه..
فقال الديك: ليتني ذُبِحْتُ وأنا أؤذن ولم أقدّم هذه التنازلات.. متعللاً بفقه الضرورات..
ويخلص كاتب القصة إلى أنّ التنازلات آخرها سيئ جداً والأَولى الصلابة على المبادئ وعدم تقديم التنازلات!!
****
لاشك أن هذه القصة لا تخلو من فائدة.. في تعاملاتنا الفردية اليومية والثبات على المبادئ وعدم بيع الدين لشيء من الدنيا رخيص.. فهي قصة رمزية تصلح لمن يقدِّم التنازلات لأتفه الأسباب دون داعٍ ودون حساب..
ولكن في تعميم هذه القصة على كل الأحوال خطرٌ كبير..
حيث أنها تنسف علم السياسة الشرعية وعلم الموازنات بين المصالح والمفاسد.. وفقه الحال والمآل..
ولا أريد أن أقول: إن هذه القصة تسخر من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة للقواعد الفقهية التي تؤكد فقه الضرورات والموازنات والمآلات..
وتَنْصُر هذه القصة منهج الغلاة والجامدين والمزاودين الذين يحلمون بهدم الواقع كله وإقامة واقع آخر كما يتخيلون!!
ومن العجيب أن الموازنة بين المصالح والمفاسد في الشأن الدنيوي الخاص يتعامل به العقلاءُ كلهم -في كل الدنيا- وبكفاءة عالية..
فإذا جاء بعض المتدينين لأمور الدين عطّلوا هذا المبدأ.. متصورين أنّ الدين مجموعة مبادئ جامدة.. لا تراعي ضرورةً ولا واقعاً ولا حاجةً ولا اعتبار له للمآلات ونتائج الأفعال!!
مع أن المتأمّل في السنة النبوية يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة كان يراعي التدرج ويراعي المصلحة حتى يصل لأهدافه ولا يتصلّب في مواقفه مادام الأمر فيه سعة.. فما خير عليه الصلاة والسلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً..
لكن المشكلة في الجامدين أنهم لا ثقافة لهم ولا خبرة بعلم الاجتماع البشري وسنن التغيير والإصلاح، فلا يمكن تنزيل أفكار إصلاحية على أرض الواقع، دون دراسة لذلك الواقع، فالمبادئ لا تنزل على فراغ، لأنك تتعامل مع بشر لهم رغبات وعواطف وعقول وإرادات حرة وحينما تريد إصلاحهم لا بد من التدرج معهم.. وإلا كان تغييرك للمظاهر دون الجواهر.. للأشكال دون الأشخاص.. وستوجِد مجتمعاً منافقاً لا مجتمعاً فاضلاً.. فالأديان جاءت لإصلاح الإنسان..
من آفاتنا عدم التوازن الوعظي.. فمنهج القرآن الموازنة بين الترغيب والترهيب، بينما خطابنا الوعظي اتسم بتغليب الخوف على الرجاء، مما أدى إلى وسوسةٍ سلوكية، وفي كثير من الأحيان إلى القنوط واللامبالاة،على مبدأ: (أنا الغريق فما خوفي من البلل)، كما أنه أدى في حالات أخرى إلى السلبية واعتزال الشأن العام.
كقولهم: (حبُّ الظهور يقصم الظهور).. و(لا تدبّر لك أمراً فذوو التدبير هلكى).. صحيحٌ أن مثل هذه النصوص لها معانٍ تربوية جيدة، إذا استُعملت كدواء لصاحب داء تلزمه جرعة إخلاص، أو جرعة توكّل على الله!!
لكن أن تصبح هذه النصوص هي الغذاء لكلّ الناس.. فستحصل على مجتمع سلبي عاجز يائس
فمن الجريمة في حقّ مجتمعاتنا الإغراقُ في نوعٍ من الخطاب الانعزاليّ السلبيّ، وعدم شفعها بنصوصِ العمل والجدّ والإيجابية، فقد أدّى ذلك لعجز الصالحين، وفاعلية غيرهم.. الذي اشتكى منه سيدنا عمر رضي الله عنه: “أعوذ بالله من جَلَدِ الفاجر وعجز الثقة“!!
فقد تمَّ التعتيم على نصوص الرجاء وحسن الظن بالله والفاعلية والقوة والإقدام.. والواقعية.. تعتيم حتى على قصص السلف الصالح الواقعية، مثل: جاء رجل إلى أحد الصالحين فقال له: أخاف النفاق!!
فقال له: ألستَ تذكر الله في الخلوة؟ قال: بلى، قال: فأنتَ لستَ منافقاً.
ويروى أنّ رجلاً قال لأحد المحدّثين: هنيئاً لك كل هذا الحديث جمعتَه لله!
فقال -بواقعية وتواضع-: أما كلُّه لله فكثير؟! لكنْ هذا شيءٌ أحببناه فعملناه.. أسالُ اللهَ أن يغفر لنا به“.. هذه قصص واقعية قابلة للتطبيق.. بينما ينتقي الوعاظ قصص عن سلفنا الصالح أقرب للخيال كأنهم ملائكة لا يفترون عن العبادة والزهد!! فيقول المستمع في نفسه أين نحن من هؤلاء ويعود لحياته الطبيعية الواقعية.. ولو طلبنا منه المستطاع الواقعي لرحّب به وطبّقه..
ومن الخطاب الذي ترك ندوباً في نفس المستمع الخطاب الذي يدعو لقمع النفس وسحقها واتهامها وكسرها.. ومن أدبياتهمقولهم: الزيتون لا يحلو دون هرس… يا أخي هذه نفس بشرية وليست زيتوناً.. وكما ذكرتُ سابقا يمكن ان يكون هذا دواء لمن نفسُه فيها تكبّر وتعجرف وصل حدّا مرضياً فيلزمه الدواء.. لكن ان يصبح هذا الخطاب هو الغذاء للجميع فهذا سيؤدي لنفوس مكبوتة مسحوقة.. وإنسان مجتمعاتنا المقهورة لا ينقصه شيء من هذا..
ومن نِعَمِ الله تعالى أن وصلتنا ثقافة غربية جديدة، وانتشرت بيننا فأعادت شيئاً من التوازن إلى عموم شبابنا، وهي ثقافة التنمية البشرية والتحفيز والتخطيط وطُرُق النجاح والتفوّق في الحياة..
صحيحٌ أنّ الإكثار والمبالغة بهذا الجانب ربما أورث المتلقي تورّماً في تقدير الذات مبالَغاً فيه، فيعتقد الشاب نفسَه وحيدُ عصره وفريدُ دهره، وأنه سينجح بمجرد إرادته ذلك، دون الأخذ بأسبابِ النجاح.. والحلّ بالخطاب التشجيعي المحفّز المتوازِن… فشكراً للتنمية البشرية..
هناك إعصار فكري يجتاح منطقتنا الإسلامية إعصار يحمل أدوات النقد والهدم، فما كان محظوراً الكلام فيه من قبل، أصبح حديث المجالس، لعدة أسباب منها ظهور الإعلام الاجتماعي الذي أتاح لكل أحد الكلام دون أي تكلفة أو رقابة.
ومن أسباب ذلك: الثورات وظهور نماذج إسلامية تنظيمية وعلى شكل دول بل ظهرت الخلافة نفسها كما أعلن تنظيم الدولة.
ولم يعد الخطاب الديني التقليدي يجيب على الأسئلة الجديدة فسياسة عدم إثارة الفتن لم تعد تجدي، فالفتن فتحت أبوابها من كل جهة,
وعلى الخطاب الديني أن يتطور وذلك (شكلاً ومضموناً)، وهذا يستلزم نوعان من التخصص الديني.
أولهما: الفقيه المفتي.
وثانيهما: الداعية المثقّف.
لأن حاجات الناس إما لجواب سؤال فقهي، أو محاضرة فقهية، فيتوجهون للفقيه المفتي.
وإما يحتاج الناس لسماع كلمة توجيهية إصلاحية، وإما لسؤال ثقافي، فيتوجهون للداعية المثقّف، فهما مجالان واضحان.
وأقترح أن يتسلّم الفقيه الإمامة في المسجد، ليحتكّ بالناس يومياً في الأوقات الخمسة، فيراجعه الناس بما يحتاجون.
بينما يتسلّم الخطيب التدريس في المدارس فيحتك بالطلاب على مدار الأسبوع، وخطب الجمعة، فيكون في كل مسجد شخصان: (فقيه مجتهد) وأقصد بالاجتهاد: الملكة الفقهية التي تؤهّل الفقيه للنظر في المسائل وأدلتها، واختيار ما يناسب الوقائع.
والشخص الثاني: (الخطيب المثقّف) الذي يبني ثقافة راسخة تؤهّله لأن يصبح صاحب نظرة نقدية إصلاحية، ترتفع به لمقام الداعية المفكّر.
وكل تخصص من هذه تحتاج بناء علمياً يختلف عن الاختصاص الآخر، ويبقى الاثنان متفرغان لبناء نفسيهما علمياً وتطويرها طول عمرهما، وحضور الدورات وورشات العمل والمحاضرات، التي تضمن دوام نموّهما بما يكافئ التطوّر العلمي في كل مجلات الحياة.
فيكثر الفقيه من القراءة في الفقه المقارن والفتاوى المعاصرة، والمجلات الفقهية المتخصصة، ويطلع على قرارات ونقاشات المجامع الفقهية في القضايا المعاصرة، ويقرأ في المجال الذي يفتي به من العلوم الأخرى ويستشير المتخصصين حتى يفهم الواقع فـ(الحكم على المسألة فرع عن تصورها) كما يقول علماؤنا..
بينما يركّز الداعية المثقّف على تكوين ثقافة شاملة عبر قراءة في التيارات الفكرية المعاصرة والمذاهب العقدية والنظريات الإصلاحية النهضوية، وآخر الأطروحات الفكرية والفلسفية.
ومن المفيد هنا من أن يتخصص كل واحد منهما باختصاص دقيق عبر الدراسات العليا، (الماجستير والدكتوراه) وذلك ضمن خطة وتنسيق مسبَق مع زملائه حتى يغطوا أهم التخصصات في كل منطقة، ليلبوا الحاجات العلمية لمنطقتهم، ولا يكرروا بعضهم، ومن الجيد في هذا السياق أن يدرس المرء تخصصاً شرعياً وتخصصاً دنيوياً فيصبح مرجعاً شرعياً لأهل هذا التخصص العلمي فيدرس مثلا الطب والشريعة فيصبح مرجعاً في المسائل الطبية الشرعية وهكذا..
ولا يحقر أحدُهما اختصاص الآخر(أقصد الفقيه المفتي والداعية المثقف)، فهما يكملان بعضهما بعضاً، فبعد صلاة الجمعة –مثلاً- يجلسان سوياً للإجابة عن أسئلة الحاضرين، كلٌ حسب اختصاصه.
وخلال الأسبوع يحيل كلٌ منهما للآخر الأسئلةَ التي تتعلق باختصاصه، ولا يستحي أحدُهما من عدم الإجابة، بل نعوّد الناسَ على احترام التخصص، كما في كل شؤون الحياة.وهكذا يطير الدين وينتشر في المعمورة عبر هذَيْنِ الجناحينِ القويينِ: الفكرُ والفقه.
كثيرون منا عنده (شِرك الحُكْم) فيعتقد أن كل مشاكلنا ستنتهي باستلام (جماعتنا) والحقيقة الصادمة أن مشاكلنا الحقيقية ستبدأ وقتها!!
مشاكلنا ستبدأ عندما نستلم الحكم: لأن الحكم يحتاج دراسات وتخطيطاً وإدارة وكفاءات وموارد ووعي شعبي يساعد الحكومة..
بعضنا يظن النموذج الراشد لحكم الدولة المعاصرة جاهز مكتوب، وخططه التنفيذية تنتظر من ينقلها للتطبيق!!
كونُ إسلامنا العظيم شاملٌ في هدايته لكلّ مجالات الحياة شيءٌ، وقدرتُنا على تنزيله على أرض الواقع في كل مجالات الحياة) شيء آخر تماماً..
من الحقائق المؤلمة أننا إلى الآن لم ننجز (نظرياً) نظام حكم إسلامي قابل للتطبيق في الدولة المعاصرة!!
والأدهى من هذا أننا لا نعترف بذلك!!
وإذا قلنا لإخواننا: تعالوا نستورد أفضل ما عند القوم من أنظمة الحكم. (على الرغم أن الديمقراطية منتج إنساني وليس غربيا بحتاً) قالوا: عندنا ما يكفينا..
أرجوكم أخرجوه من (الموجود بالقوة) أي من (قابلية الوجود) إلى (الموجود بالفعل) أي (الوجود الحقيقي)..
نعم نحن ننتسب لدين قابلٍ لإبداع أفضل النظريات، لكننا كُسالى، فالله تعالى أنزل لنا مبادئ هادية في نظام الحكم، لو أعملنا نظرنا فيها لاستخرجنا أفضل الأنظمة، لكننا نكسل عن الاجتهاد.. ونرفض التبعية.. كالفقير المتكبِر!!
كما أن عندنا مشكلة مع من يريد استيراد كلّ شيء من الغرب دون مراعاة لهوية المجتمع وثقافته وخصوصياته..
لكن حديثنا الآن حديث داخل البيت الإسلامي..
بعض الفضلاء يعتقد أنه بمجرد إعلان الحكم الإسلامي ستختفي الكثير من المشاكل.. هيهات هيهات.. الشعارات تدغدغ العواطف، ولا تغيّر الواقع البائس..
تغيير الواقع يحتاج برامج وخطط تعليمية وصحية وبيئية واجتماعية وسياسية واقتصادية..
يحتاج إلى تنمية اقتصادية ومشاريع حيوية تنهض بالبلاد، وتُرضي العباد، فالناس تحتاج إلى من يرعى دنياها، ويؤمّن حاجاتها..
وعصرنا ارتفعت فيه المعايير فالكماليات أضحت ضروريات.. ولو أخلّت بها الحكومة فهي تضرب مستقبلها في الاستمرار في حكم البلاد.
كما نحتاج لحُسْن إدارة الهويات المختلفة في المجتمع (العرقية والدينية والمذهبية) بما يكفل رضاها وفاعليتها ومشاركتها في إدارة البلاد، وعدم تهميشها مما يحولها إلى مصادر إزعاج وإعاقة وقلاقل وقنابل موقوتة ومعارضة خفية..