من المتون المغلقة إلى آفاق الفهم تعرّف على أسرار التعليم الناجح

الثقافة التمازجيّة:

  • يلزم المثقّف أن يتملّك رؤية واضحة للواقع، واستشراف المستقبل، وتشخيص مواطن الخلل، واقتراح كيفيّة العلاج كسياسات وآليّات وخطوات عمليّة واضحة، فلا يكفي الشعارات العامّة والكلمات الحماسيّة.
  • وحتّى يحقّق ذلك، لا بدّ أن يمتلك المثقّف ثقافة تمازجيّة تكامليّة هدفها تكوين رؤية بانوراميّة حول القضيّة الواحدة التي ينظر إليها، ويتمكّن من استخراج المؤثّرات فيها واقتراح الحلول المؤثّرة.
  • فكلّ علم له زاوية ينظر من خلالها للقضيّة المراد دراستها، وبتعدّد العلوم تتعدّد زوايا النظر، حتّى تصبح الرؤية بانوراميّة من كلّ الجهات، ولا ينحصر الباحث بزاوية تخصّصه الضيّقة.

يقول الدكتور عبد الكريم بكّار:

“المجتمعات حين تنهض، لا تنهض بفضيلة أو فضيلتين، وحين تنحطّ لا تنحطّ كذلك بعدد قليل من الرذائل، إنّ النهوض يرتبط بنسيج من الفضائل والعوامل الإيجابيّة، كما أنّ الانهيار يرتبط كذلك بمجموعة من الرذائل والأمراض الاجتماعيّة؛ ولهذا فإنّ على المتحدّث أن يتجنّب تضخيم العلّة التي استند إليها في إقناع جمهوره، وأن يتجنّب كذلك النمط اللغوي الذي يؤكّد على السبب الوحيد، والعامل الوحيد، والمكسب الوحيد..

نحن لا نشكّ في أنّ الظواهر الكبرى تستند في ظهورها إلى عدد من الأسباب، ولا نشكّ بأنّ لكلّ سبب وزنه الخاصّ، وتأثيره الخاصّ في حصول تلك الظاهرة، وهو الذي يسوّغ التركيز على بعض الأسباب وإبرازها، ولكن مع كلّ ذلك فلا بدّ من الحذر.”

  • بداية لنصطلح على التخصّص العلميّ بـ العِلم العموديّ، وعلى الثقافة العامّة بـ الثقافة الأفقيّة.
  • التخصّص مطلوب، والتركيز على العلم العموديّ لا بدّ منه، لكنّ المثقّف لا يجوز إلّا أن يمتلك ثقافة أفقيّة ممتازة.
  • فليحذر من يريد تكوين معرفة ممتازة من أمرين اثنين:

    1. أن يتكلّس الباحث ضمن مسائل تخصّصه الجزئيّة: لأنّ رؤيته للعالم والواقع ستكون قاصرة، وسيصاب بالاختناق المعرفيّ، كالذي ينظر إلى غابة كبيرة من أنبوب ضيّق، ويريد وصفها من خلال رؤيته القاصرة تلك!
    2. أن يحذر من التشتّت في عالم المعرفة الواسع: فالعلوم لها جاذبيّة، وإن لم ينتبه المرء لنفسه سيتوه كلّ فترة في بحر من بحور المعرفة. فلا بدّ من خطّة محكمة يلتزم بها المثقّف حتّى تتكامل معلوماته ولا يكون متشتّتاً.

  • المختصّ الذي لا يملك سوى معرفة بالعلوم الشرعيّة سيكون خطابه أُحادي البُعد، بينما لو دعّم العلوم الشرعيّة بالثقافة العامّة من بقيّة العلوم، وبخاصّة فيما يتناوله من مسائل، سيفهم الواقع علميّاً، ويكون خطابه أقرب لعقول الناس وقلوبهم.
  • لأنّ التقسيم الأكاديمي للعلوم خيالي وليس حقيقيّاً، فالواقع متداخل بين الاقتصاد، الاجتماع، الثقافة، السياسة، الفيزياء، والكيمياء.
  • في الواقع، لا نجد ظواهر منفصلة تمامًا: كيميائيّة بحتة، أو فيزيائيّة خالصة، أو سياسيّة مستقلّة. فكلّها تتداخل، والزوايا التي ننظر منها هي ما تحدد التخصّص الظاهر.
  • إذن، الثقافة الأفقيّة ضروريّة لما ذكرنا، ولأنّ مشكلات الواقع أسبابها متعدّدة وليس سبباً واحداً. وبدون الثقافة الأفقيّة لن تُعرف هذه الأسباب المتعدّدة.

يقول العلّامة ابن خلدون رحمه الله:

“ولا شكّ أنّ كلّ صناعة مرتّبة يرجع منها إلى النفس أثرٌ يُكسِبها عقلاً جديداً، تستعدّ به لقبول صناعة أخرى، ويتهيّأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف”.

ويقول الإمام ابن حزم رحمه الله:

“من اقتصر على علم واحد لم يطالع غيرَه؛ أوشك أن يكون ضحكة، وكان ما خفي عليه من علمه الذي اقتصر عليه، أكثر ممّا أدرك منه، لتعلّق العلوم بعضها ببعض، كما ذكرنا، وأنّها درج بعضها إلى بعض، كما وصفنا، ومَنْ طلب الاحتواء على كلّ علم أوشك أن ينقطع وينحسر، ولا يحصل على شيءٍ”.

  • لذا نحتاج ثقافة تمازجيّة، تمزج بين العلوم وتكتشف الترابط بين العلوم تأثّراً وتأثيراً، وبين المعلومات الجزئيّة تأثّراً وتأثيراً.
  • هكذا تتكامل العلوم وتبني وحدةً فكريّة لا ينقض بعضُها بعضاً. وهذا لا يتحقّق إلّا بـ:

    • التفكير بكلّ معلومة.
    • إدخالها في مكانها ضمن النسق المعرفيّ الشخصيّ.

  • وإلّا بقيت المعلومات مفكّكة ككومة من الخردة!
  • كما أنّ المعلومات تتضارب أحياناً، فلا بدّ من حلّ هذا التعارض، ويتطلّب ذلك:

    • صبراً في القراءة.
    • وتفكيراً في المقروء.

  • فليس المطلوب كثرة القراءة فقط، بل كثرة التفكير بالمقروء.
  • القراءة قضم، والتفكير هضم، فلو لم تُعطِ الهضم وقتاً وطاقةً ستُصاب بعسر الهضم، وتصبح ممن يُقال فيهم: “يحفظون ولا يفهمون”!
  • وهذا مشاهَد عند كثير من المثقّفين، وبخاصّة أصحاب الذاكرات القويّة، فتجدهم يناقضون أنفسَهم، لأنّ معلوماتهم:

    • ليست مرتّبة.
    • ليست مُعالَجة.
    • تمّ تكديسها دون معالجة بالتفكير والتأمّل.

  • فلا يمتلكون منهجيّة في التفكير، ويحفظون المتناقضات وهم لا يشعرون، لعدم بناء منهجيّة محاكِمة للمعلومات.
  • فالعقل يمكن تشبيهه بـ جهاز الحاسوب، والمنهجيّة في التفكير بـ نظام التشغيل، والمعلومات بـ البيانات.
  • نحذّر من الثقافة التكديسيّة، فالمطلوب التمـازج واستخراج العلاقات بين العلوم، وبناء بنية فكريّة متماسكة، كالنحلة التي:

    • تزور الحقول والزهور.
    • تعالج المحصول.
    • تخرج عسلاً شفاءً للشاربين.

  • ومن مهمات النخبة: إجراء تمازج بين الثقافة الإسلاميّة والثقافات الأجنبيّة المفيدة، بما يتحمّله مجتمعنا.
  • فهضم واستيعاب الثقافات الأخرى يحتاج طاقة عالية، لاقتباس النافع وإهمال الضار، أو التحذير منه لو شاع بيننا.

    في موضوع القراءة التمازجية ست ملاحظات وتنبيهات هامة أسوقها في النقاط التالية:

    أ- كلّ علم هو الأفضل عند أهله:

    تكلُّس الباحث ضمن مسائل اختصاصه الجزئيّة مرفوضٌ، وكذلك يُرفض ضياعه في عوالم المعارف الواسع، لذلك سأخصّص الكلام عن كلّ علم بعنوان مستقلّ، لعلّه -بفضل الله وكرمه- يكون هادياً ومعيناً لمن يرغب بتكوين ثقافة فاعلة.

    فهناك مشكلة علميّة عند الحديث عن فضائل العلوم، حيث يتمّ المبالغة في مكانة العلم والتساهل في الروايات كما يتساهلون بوجه الاستدلال، التي تدلّ على فضيلته وأهمّيته، -وهذه الظاهرة موجودة في كلّ مباحث الفضائل والمناقب سواء للأشخاص أو الأماكن ( ) أو الأوقات أو الأعمال- ممّا يورث ارتباكاً علميّاً في تصوّر خارطة العلوم وأولويّاتها وأهميّتها، وأحياناً مكانتها الحقيقيّة في خارطة المعارف.

    فكلّما فتحتَ كتاباً أو استمعتَ لمقدّمة دروس، أو محاضرات في علم ما، تجدُ في مقدّماته كلاماً كثيراً ما يكون مبالغاً فيه عن مكانة ذلك العلم، حتّى إنك تقرأ العبارة المكرّرة في كلّ علم بأنّ “هذا العلم أشرف العلوم”.

    وإن احتاط المؤلّف وكان أكثر دقّة فإنّه يقول: (مِنْ أشرف العلوم) لتعلّق هذا العلم بكذا وكذا.. وهذا الأمر مهمّ جداً، فالعلم المتعلِّق به مهمّ كذلك! ثمّ يسوقون الروايات والاستدلالات (الصحيحة والضعيفة) لبيان أهميّة هذا العلم!

    ومن أسباب المبالغة:

    • أنّ المختصِّ -غالباً- ليس عنده إحاطة ببقيّة العلوم، فهو يقرأ عن فضائل هذا العلم، ويشتغل به ويدرك أهميته، ممّا يورثه استخفافاً -لا شعوريّاً- بأهميّة بقيّة العلوم.
    • ومن أسباب المبالغة منهجيّة التساهل في رواية الأحاديث النبويّة في الفضائل والترغيب، فيتساهلون في الفضائل ما دام قصدهم شريفاً، وهو الترغيب بذلك العلم.
    • ومن أسباب ذلك ضعف اهتمامنا بتاريخ العلوم وفلسفتها، فننشغل باختصاصنا، ونغفل عن غيره من الاختصاصات، فيكون تصوّرنا للخارطة المعرفيّة مشوّهاً.

    وللأمانة فإنّ هذه الآفة موجودة عند كلّ التخصّصات في العلوم والمهن والأعمال، فذلك يُقنع كلّ إنسان بما أقامه الله عليه من مهنة عمليّة أو تخصّص علميّ، فهو يرى أهميّة عمله وضرورته، حتّى يُعمَر الكونُ وتُسَدّ الثغراتُ، وتُلبّى الاحتياجات:

    {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]

    لذلك سنحاول ضبط مكانة كلّ علم، ووضعه في مكانه المناسب ضمن خارطة بقيّة العلوم.


    ب- الاختصاص الثنائي:

    المتصدّون لبيان أحكام الإسلام وهداياته وتعاليمه كثر -ولله الحمد- ولكنّ أطروحات كثير منهم ينقصها العمق والنضج فيما يتعلّق في الاختصاص الذي يتحدّثون فيه، فالعلوم أصبحت متشعّبة جدّاً، فكلّ جزئيّة علميّة أصبح فيها مختصون عميقون، وشمول الإسلام وشمول تعاليمه لكلّ مرافق الحياة، لا يعني شموليّة الناطقين باسمه؟!

    فمن العبث أن يتصدّى كلّ طالب علم أو عالم شرعيّ للكلام والتصريح والتقييم لكلّ ما يدور في المجتمع من قضايا بكافّة المجالات والاختصاصات.

    فالثقافة الأفقيّة لا تؤهّل صاحبها للإدلاء بتصريحٍ وحُكم لكلّ قضيّة، وإلا سيكون كلامهم سطحيّاً، ومثاراً للنقد والأخذ والردّ والفتنة، وكثيراً ما يُوقع الناسَ بسوء الظنّ بالإسلام وعلمائه، والسبب اقتحام الناطقين باسم الإسلام لكل مجال دون مراعاة للتخصص.

    وقد اقترح الدكتور نواف التكروري -حفظه الله- اقتراحاً جميلاً يعالج هذه المشكلة، وهي تقسيم اختصاصات الشريعة لعشرين، أو ثلاثين أو أربعين اختصاصاً، أو أقلّ، أو أكثر، بحيث يدرس الطالب الشقّ الشرعيّ والشقّ العلميّ المتعلّق بهذا الاختصاص، وبذلك يكون عميقاً بهذا الاختصاص.

    وأذكر أنّ هذا الأمر كان هدفاً لِـ (الجامعة الإسلاميّة العالميّة في ماليزيا) حيث يدرس الطالب اختصاصيْنِ، الأوّل اختصاص شرعيّ والثاني اختصاص علميّ.

    ولا شكّ أنّ ذلك مفيد حيث ينضج في ذهن الطالب العلمان، ويحلّ الإشكالات بين العلمين خلال المرحلة الجامعيّة، فيخرج منه بعد خلط هذا الطلع من الزهور المختلفة عسلاً صافياً سائغاً للشاربين -إن شاء الله- وبخاصة لو حصل بين الكلّيّات الشرعيّة والعلميّة تكاملٌ وتنسيق ومراعاة، فتكون المناهج تراعي هذا التكوين عند الدارس.

    ويكون -بعد فترة- الأساتذة خريجين في هذه المناهج، فيتمّ التعديل والتطوير المستمرّ للمناهج الدراسة فيتخرّج علماء جمعوا بين العلم الشرعيّ وما يقابله من العلوم الدنيويّة، فنتخلّص من هذا الفصام النكِد بين العلوم الشرعيّة والدنيويّة!

    قد يُقال: (هذا يحصل في مرحلة الدراسات العليا عند كثير من الدراسين) ونقول: هذا لا يكفيّ، لأنّه يجري اتفاقاً من دون تخطيط، بل كثيرون يدرسون اختصاصاً في الماجستير، وينتقلون لآخر في الدكتوراه! والمطلوب هو الاختصاص في مرحلة البكالريوس، وتعميق ذلك في مرحلة الدراسات العليا، لننتج باحثين عميقين مختصّين يكونون حُجّة وأعلاماً في هذه الاختصاصات!

    لنضرب لهذه الاختصاصات أمثلة:

    أمثلة الاختصاصات  
    الفلسفة والعقيدة الإيمان والإلحاد والأسئلة الوجوديّة
    فلسفة الدين تفسير القرآن الكريم
    الحديث الشريف العبادات والتربية الروحيّة
    الأسرة والعلاقات الزوجيّة المعاملات الماليّة والتجاريّة
    البنوك والمعاملات المصرفيّة السياسة الشرعيّة وأنظمة الحكم
    العلاقات الدوليّة التربية والتزكية
    الحضارة والنهوض التاريخ الإسلاميّ
    أصول الفقه والمقاصد القضاء والمحاكم والقوانين
    القوانين والأنظمة القيم والأخلاق
    مقارنة الأديان الفرق والمذاهب الإسلاميّة
    التيّارات الفكريّة المعاصرة الأدب الإسلاميّ
    الشؤون الطبيّة علم اجتماع المجتمعات الإسلاميّة
    علم نفس المجتمعات الإسلاميّة ويمكن اقتراح اختصاصات أخرى..

     


    ج- مطالبُ كثيرة تقتضي التخفيف:

    تقول القاعدة الشرعيّة؛ وهي قاعدة عقليّة حكيمة: (إذا ضاق الأمر اتّسع) والقاعدة القرآنيّة تقول: {إنّ مع العُسر يُسراً}

    بما أنّ تكوين ثقافة عامّة تتطلّب من المثقّف الاطلاع على علوم كثيرة، ففي المقابل سنخفّف من الكمّيّات المطلوبة في كلّ علم (التكديس) لنحصل على الكيفيّات والفائدة المرجوّة (الفاعليّة).

    وهنا أحبّ الاستشهاد بقول الإمام “الغزاليّ” رحمه الله الذي خفّف شروط المجتهد المعهودة؛ يقول الإمام “الغزاليّ” في شروط المجتهد في الشريعة الإسلاميّة:

    “أَمَّا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ الْأَصْلُ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَلْنُخَفِّفْ عَنْهُ أَمْرَيْنِ:
    أَحَدَهُمَا: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْكِتَابِ، بَلْ مَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ مِنْهُ، وَهُوَ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ آية.
    الثَّانِيَ: لَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بَلْ أَنْ يَكُونَ عَالِماً بِمَوَاضِعِهَا بِحَيْثُ يَطْلُبُ فِيهَا الْآيّة الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ.
    وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى أُلُوفٍ، فَهِيَ مَحْصُورَةٌ وَفِيهَا التَّخْفِيفَانِ الْمَذْكُورَانِ”( ).

    ونحن نريد مثقّفاً له رأي في الواقع، واجتهاد في تشخيص علله وأدويته، ولتكوين ثقافته شروط كثيرة، لذلك سنخفّف في الكمّيّة بالتركيز على النوعيّة.

    فكثير من المدرّسين يحبّون تدريس ما يؤلّفون، قديماً (أصحاب المتون) وحديثاً (دكاترة الجامعة) للمكانة العلميّة التي تعطيها المؤلّفات للمدرّسين، وفي كثير من الأحيان للكسب الماليّ من بيع الكتب.

    لكن المشكلة أنّ أغلب هذه المؤلّفات تكرّر ما سبقها، دون إضافة علميّة تُذكر، لذلك فالحرص على جمع المؤلّفات في كلّ علم، والحرص على قراءتها كلّها لا فائدة كبيرة منه، فكثيراً ما يكون بعض المؤلّفين غير متمكّنين من العلم، فيشوّهون بعض المعلومات، فتلتبس الفروق بين المؤلّفات في ذهن القارئ، وتختلف أساليبهم في التصنيف والتقييم والاصطلاح، فيظنّ القارئ أنّ المشكلة في استيعابه وفهمه، ولكنّ الحقيقة أنّ بعض المؤلّفين غير محقّقين في العلم الذي يؤلّفون فيه!

    ينبغي الحرص على اقتناء الكتب النوعيّة في كلّ علم، تلك الكتب التي نقلت ذلك العلم نقلات نوعيّة في العلم المراد دراسته، والاختصاص فيه.

    ولهذا ننصح بالقراءة للنوابغ في العلوم، فجملة واحدة من هؤلاء تفتح آفاقاً لا تفتحها كتب من كلام غيرهم!

    يقول العلامة ابن خلدون رحمه الله:

    “الفصل الرابع والثلاثون( ) في أنّ كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل:
    اعلم أنّه ممّا أضرّ بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف، واختلاف الاصطلاحات في التعليم، وتعدّد طرقها، ثمّ مطالبة المتعلّم والتلميذ باستحضار ذلك، وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلّم إلى حفظها كلّها أو أكثرها ومراعاة طرقها، ولا يفي عمره بما كُتب في صناعة واحدة إذا تجرّد لها فيقع القصور ولا بدّ، دون رتبة التحصيل»( ).

    ويمثّل لذلك من الفقه على المذهب المالكيّ مثلاً بكتاب المدوّنة وما كتب عليها من الشروحات الفقهيّة، مثل كتاب ابن يونس واللخمي وابن بشير، والتنبيهات والمقدّمات والبيان والتحصيل على العتبيّة، وكذلك كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه.

    ثمّ إنّه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانيّة من القرطبيّة والبغداديّة والمصريّة وطرق المتأخّرين عنهم، والإحاطة بذلك كلّه، وحينئذ يسلم لمن يلمّ بكلّ ذلك منصب الفتيا وهي كلّها متكرّرة والمعنى واحد.

    والمتعلّم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها، والعمر ينقضي في واحد منها.

    ولو اقتصر المعلّمون بالمتعلّمين على المسائل المذهبيّة فقط، لكان الأمر دون ذلك بكثير، وكان التعليم سهلاً ومأخذه قريباً، ولكنّه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه، فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها ولا تحويلها( ).

    ثمّ يذكر ابن خلدون نبوغ ابن هشام في العربيّة ويقول:

    “ودلّ ذلك على أنّ الفضل ليس منحصراً في المتقدّمين، لا سيّما مع ما قدّمناه من كثرة الشواغب بتعدّد المذاهب والطرق والتآليف، ولكنّ فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذا نادر من نوادر الوجود، وإلّا فالظاهر أنّ المتعلم ولو قطع عمره في هذا كلّه، فلا يفي له بتحصيل علم العربيّة مثلاً الذي هو آلة من الآلات ووسيلة، فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة؟ ولكنّ الله يهدي من يشاء”.

    د. البداية بالتفاصيل يُعجز المتعلّم وينفّره

    أترك البيان للخبير بالنفس البشرية، للعبقريّ ابن خلدون رحمه الله:

    “وقد شاهدنا كثيرًا من المعلّمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته،
    ويحضرون للمتعلّم في أوّل تعليمه المسائل المقفلة من العلم،
    ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلّها، ويحسبون ذلك مرانًا على التعليم وصوابًا فيه،
    ويكلّفونه رعي ذلك وتحصيله ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعدّ لفهمها.
    فإنّ قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجًا،
    ويكون المتعلّم أوّل الأمر عاجزًا عن الفهم بالجملة، إلا في الأقلّ، وعلى سبيل التقريب والإجمال والأمثال الحسّيّة.
    ثمّ لا يزال الاستعداد فيه يتدرّج قليلاً قليلاً بمخالفة مسائل ذلك الفنّ وتكرارها عليه،
    والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتمّ الملكة في الاستعداد، ثم في التّحصيل، ويحيط هو بمسائل الفنّ.
    وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي، وبعيد عن الاستعداد له، كل ذهنه عنها،
    وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله، وتمادى في هجرانه!
    وإنّما أتى ذلك من سوء التعليم.
    ولا ينبغي للمعلّم أن يزيد متعلّمه على فهم كتابه الذي أكبّ على التعليم منه بحسب طاقته، وعلى نسبة قبوله للتعليم،
    مبتدئًا كان أو منتهياً، ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها، حتى يعيه من أوّله إلى آخره،
    ويحصّل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره؛
    لأنّ المتعلّم إذا حصّل ملكةً ما في علم من العلوم، استعدّ بها لقبول ما بقي،
    وحصل له نشاط في طلب المزيد، والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم،
    وإذا خلط عليه الأمر، عجز عن الفهم، وأدركه الكلال، وانطمس فكره، ويئس من التّحصيل، وهجر العلم والتعليم!
    والله يهدي من يشاء.”


    هـ. منهاج مختصر ثم متوسط ثم مفصل

    من المفيد التدرّج في شرح العلم للمتعلّم المختص إلى ثلاث مراحل:

    • مرحلة الاختصار،
    • ثم التوسّط،
    • ثم التطويل،

    ويُفضل عدم تفريق جلسات التعليم حتى تبقى في ذهن الطالب، فيربط بينها وتحصل له الملكة بذلك.

    أترك الشرح للعلّامة ابن خلدون رحمه الله حيث يقول:

    “الفصل السابع والثلاثون في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته:
    اعلم أنّ تلقين العلوم للمتعلّمين إنّما يكون مفيدًا إذا كان على التدريج شيئًا فشيئًا وقليلاً قليلاً،
    يُلقى عليه أوّلًا مسائل من كل باب من الفنّ، هي أصول ذلك الباب،
    ويقرّب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوّة عقله، واستعداده لقبول ما يرد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفنّ،
    وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنّها جزئيّة وضعيفة، وغايتها أنّها هيّأته لفهم الفنّ وتحصيل مسائله.
    ثمّ يرجع به إلى الفنّ ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال،
    ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفنّ، فتجود ملكته.
    ثمّ يرجع به وقد شدّ، فلا يترك عويصًا ولا مهمًا ولا مغلقًا إلا وضّحه، وفتح له مقفله،
    فيخلص من الفنّ وقد استولى على ملكته، هذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنّما يحصل في ثلاث تكرارات،
    وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك، بحسب ما يُخلق له ويتيسّر عليه.”

    ويضيف:

    “وكذلك ينبغي لك ألا تطوّل على المتعلّم في الفنّ الواحد، بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها،
    لأنّه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفنّ بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها.
    وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان؛ كانت الملكة أيسر حصولًا، وأحكم ارتباطًا، وأقرب صبغة،
    لأنّ الملكات إنّما تحصل بتتابع الفعل وتكراره، وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه، والله علّمكم ما لم تكونوا تعلمون.”

    أعود وأؤكد أنّ هذا للمختصّين وليس لبناء الثقافة.


    و. احذر المتون المستغلَقَة

    يقول العلّامة ابن خلدون رحمه الله:

    “الفصل السادس والثلاثون: في أنّ كثرة الاختصارات الموضوعة في العلوم مخلّة بالتعليم:
    ذهب كثير من المتأخّرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم، يولعون بها، ويدوّنون منها برنامجًا مختصرًا في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلّتها،
    باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفنّ، وصار ذلك مخلًّا بالبلاغة وعسرًا على الفهم!
    وربّما عمدوا إلى الكتب الأمّهات المطوّلة في الفنون للتفسير والبيان؛ فاختصروها تقريبًا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه، وابن مالك في العربيّة، والخونجيّ في المنطق وأمثالهم، وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتّحصيل،
    وذلك لأنّ فيه تخليطًا على المبتدئ، بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعدّ لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم كما سيأتي.
    ثمّ فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلّم، بتتبّع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم، بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل من بينها؛
    لأنّ ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظّ صالح من الوقت.
    ثمّ بعد ذلك، فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تمّ على سداده ولم تعقبه آفة؛
    فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطوّلة، لكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامّة،
    وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقِلّته، كشأن هذه الموضوعات المختصرة،
    فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلّمين، فأركبوهم صعبًا، يقطعهم عن تحصيل الملكات النّافعة وتمكّنها،
    {ومن يهدِ الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له} والله سبحانه وتعالى أعلم.”


    وخطورة كتب المتون في عصور التخلّف العلميّ عندنا

    يصف العلامة الفقيه الدكتور مصطفى الزرقا رحمه الله وضع العلم في عصر التخلّف بدقة ومنصف، وهو من المدرسة الشرعية العريقة، حيث يقول:

    “الدور الفقهي السادس، من منتصف القرن السابع إلى ظهور المجلة سنة 1286هـ،
    في هذا الدور أخذ الفقه بالانحطاط، فقد بدأ في أوائله بالركود، وانتهى في أواخره إلى الجمود،
    وإن كان في بحر هذا الدور الواسع قد برز بعض الفحول اللامعين، من الفقهاء والأصوليين.
    ففي هذا العصر ساد الفكر التقليديّ المغلق، وانصرفت الأفكار عن تلمّس العلل والمقاصد الشرعية في فقه الأحكام إلى الحفظ الجاف،
    والاكتفاء بتقبّل كلّ ما في الكتب المذهبية دون مناقشة!
    وطفق ذلك النشاط الذي كان لحركة التخريج والترجيح والتنظيم في فقه المذاهب، يتضاءل ويغيب،
    وأصبح مريد الفقه يدرس كتاب فقيه معيّن من رجال مذهبه، فلا ينظر إلى الشريعة وفقهها إلا من خلال سطوره،
    بعد أن كان مريد الفقه قبلاً يدرس القرآن والسنة، وأصول الشرع ومقاصده، وأدلّة الأحكام.
    وقد أصبحت المؤلفات الفقهية – إلا القليل – أواخر هذا العصر اختصارًا لما وجد من المؤلفات السابقة، أو شرحًا له،
    فانحصر العمل الفقهي في ترديد ما سبق، ودراسة ألفاظ وحفظها.
    وفي أواخر هذا الدور حل الفكر العامّي محل الفكر العلمي لدى كثير من متأخّري رجال المذاهب الفقهية.”

    ويكمل الدكتور الزرقا:

    “وقد شاعت نتيجة ذلك طريقة (المتون) في التأليفات الفقهية وأصبحت هي الطريقة السائدة العامة،
    وحلّت كتب المتأخرين فيها محل كتب المتقدمين القيّمة في الدراسة الفقهية.
    وطريقة المتون هذه يعمد فيها المتأخرون إلى وضع مختصرات يجمعون فيها أبواب العلم كلها في ألفاظ ضيقة يتبارون فيها بالإيجاز،
    حتى تصل إلى درجة المسخ أو الألغاز، وتكاد كل كلمة أو جملة تشير إلى بحث واسع أو مسألة تفصيلية،
    كمن يحاول حصر الجمل في قارورة! ويسمى هذا المختصر (متن).
    ثم يعمد مؤلف المتن نفسه، أو سواه، إلى وضع «شرح» على المتن لإيضاح عباراته، وبسط تفاصيل مسائله، والزيادة عليها.
    ثم توضع من قبل آخرين تعليقات على تلك الشروح تسمى (الحواشي) ثم توضع على تلك الحواشي ملاحظات تسمى (تقريرات).
    وتتضمن تلك الشروح والحواشي والتقريرات كثيرًا من المناقشات اللفظية في حل العبارات والألفاظ دون المقاصد الجوهرية في العلم،
    وقد يضيع الموضوع الواحد أو يتشتت ما بين المتون والشروح والحواشي والتقريرات.
    ولا نعني بهذا خلو الحواشي من الفوائد العلمية، بل هي مشحونة بكثير من التحليل والتحقيق والتمحيص والمباحث ذات الشأن،
    ولكنّها قد مزج فيها اللباب بالقشور، وعانى الفقه فيها سقم الطريقة.
    وتاريخ المتون في الحقيقة يرجع إلى أقدم من هذا العصر،
    ولكنّها عندما ظهرت قديمًا كان الغرض منها حكيمًا، وهو جمع المسائل الأولية البسيطة في متون صغيرة، بعبارة سهلة،
    لتكون مبادىء لشداة الفقه، على نحو (الآجرّوميّة) في علم النحو،
    وهذا الغرض يقضي بأن يبقى المتن مختصرًا بسيطًا سهلًا للمسائل الأولية، مقصورًا عليها للغاية التعليمية،
    فلا توضع عليه الشروح الواسعة، ولا الحواشي المعقدة.
    ولكن المتون انقلبت في العصر المبحوث عنه إلى طريقة عامة تعقيدية في تأليف الفقه،
    حتى إنّ من يريد أن يترك له أثرًا وذكرًا علميًا لا يفكر أن يخدم العلم بمؤلف مستقل يعمد به إلى التجديد في أسلوب الفقه ولغته،
    وفي تنقيحه وتقسيمه، وترتيبه وتبويبه، والرجوع بمسائله المشتّتة في غير أبوابها إلى أبوابها ومناسباتها،
    فيضيف إلى جهود المتقدمين الحميدة جهودًا جديدة، بل كان كل مؤلف متأخر يحصر جهده في وضع حاشية على شرح،
    أو شرح على متن معقد، أو يضع متنًا على نسق سائر المتون الاختزالية اللغزية التي تقدّمته.
    ومن هنا نرى أنّ طريقة المتون بدأت قديمًا معقولة الفكرة والغرض لوضع مبادئ العلم البسيطة تسهيلاً على المبتدئين،
    ثم أصبحت بالعوامل التقليدية على أيدي المتأخرين أشواكًا وتعاريج توعّر بها طريق الفقه، واعتص على غير ذوي الاختصاص،
    وأصبحت دوحة الفقه في أخريات هذا الدور تحمل الورق الكثير، عوضًا عن الثمر اليانع.”


    خاتمة

    طبعًا، أطلت النفس في هذا العنوان، لانتشار طريقة قراءة المتون في الدراسات الشرعية،
    وفيها يتم التركيز على (حل العبارات) أكثر من التركيز على فهم العلم ومناقشة أفكاره ومسائله،
    حيث يضيع الوقت والجهد والتركيز في فك طلاسم بعض المتون و(حلحلة) العبارة، وتفكيكها، كأنها شيفرة أو لغز.

    وقد كنّا نعتقد أنّ الكتاب كلما صعُبت عبارته كلما كان دسمه أكثر، واحتاج إلى أستاذ حتى يشرحه،
    وإلا فما فائدة الأستاذ إذا كانت عبارة الكتاب واضحة؟

    وكم أضعنا من جهود في فك عبارات تلك الكتب، كان الأجدى بنا لو ركزنا على فهم ذلك العلم وتفعيله،
    وتطبيق قواعده على المستجدات من المسائل، لكان أكثر فائدة لنا ولمعلّمينا، ولدنيانا وآخرتنا.

    {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]

    هذا المقال جزء من كتاب مقدمات منهجية من سلسلة من التكديس الى الفاعلية




كيف نصنع عقلاً مفكّرًا لا ذاكرة تمشي على قدمين؟

تحصيل المَلَكة

لا يُكتفى بتكديس المعلومات، بل باكتساب مَلَكة ذلك العلم، فأسمى ما ينبغي أن يطمح إليه طالب العلم هو تحصيل الملكة في التخصّص العلميّ الذي يدرسه. والمقصود بـ (المَلَكةِ): عقليّة ذلك العلم، وصَنعته، وحِرفته، وإتقانه.

فلا يكفي حفظ قواعده وفهم مسائله –وإن كان لا بدّ من ذلك– لكن الهدف والمقصود هو تحصيل ملكة العلم: وهي القدرة على تطبيق قواعده، والنقد، والترجيح، والإبداع فيه.

الملكة هي تحصيل المهارة والتذوّق، وامتلاك عقليّة ناقدة مبدِعة في ذلك العلم، بحيث يستطيع العالم من خلال تلك الملكة:

  • حفظ المسائل بسرعة.
  • فهمها وتقويمها.
  • إلحاقها بنظائرها.
  • إدراجها تحت قواعدها.
  • تقويم الأقوال في المسألة أو القضيّة التي يدرسها.
  • الترجيح بين وجهات النظر.
  • بل واشتقاق واجتراح أقوالٍ جديدة إن أمكن.

والسؤال الآن:
هل هذا الهدف في قائمة الأولويّات لدى مؤسّساتنا التعليميّة عموماً، والشرعيّة خصوصاً؟

واقع التعليم:

الواقع يُظهر أنَّ الهمّ الأوّل هو تحفيظ مسائل العلوم.
والمحفوظات –بطبيعة الحال– لا آخر لها، لكثرة المصنّفات!

وقد سبق تنبيه العبقريّ ابن خلدون رحمه الله بقوله:

“إنّ كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل”.

فعمليّاً، كثير من المعلّمين غافلون عن هدف العلم الذي تخصّصوا فيه، منشغلون بجمع المعلومات وحفظها، ويشغلون طلابهم بها.
وهم لا يفعلون ذلك بسوء نيّة، بل بنيّة طيّبة، ويظنّون أنهم بذلك يزيدون علم تلاميذهم.

الهدف الحقيقي:

ليس هدف العلوم حفظ الأقوال والحجج، بل تحصيل (العقليّة والمَلَكة) في ذلك العلم، حتّى يصبح المتعلّم مؤهّلاً لإبداع أقوال جديدة، أو الاجتهاد في موافقة أقوال سابقة، لا نقلاً وتقليداً.

وهذا هو الفرق بين الحافظ، وبين من يملك الملكة!

طبعًا، هذا لا يلغي أهمّيّة الحفظ؛ فحفظ المعلومات شيء لا بدّ منه، وهو أساس كلّ علم.
لكن ما نريد تأكيده هو: عدم الاقتصار عليه.

من سلّم “بلوم” إلى بناء الملكة:

ينبغي الانتقال من الحفظ المحض إلى بقيّة مستويات التفكير التي ذكرها (بلوم) في سلّمه الشهير:

  1. الحفظ
  2. الفهم
  3. التطبيق
  4. التحليل
  5. التركيب
  6. التقويم
  7. الابتكار

وهنا ننبّه إلى أنّ:

أدنى مهارات التفكير: الحفظ والتذكّر،
وأعلاها: الابتكار.

ففرق كبير بين:

  • من يحفظ ويفهم ويطبّق ويحلّل ويقوّم ويبدع، ويصبح منتِجًا للمعلومات.
  • وبين من يكتفي بالحفظ فقط!

مشهد من الواقع:

تجد الكثير من “حفَظة العلوم”:

  • يعيد المفردات والمصطلحات نفسها،
  • بل حتى الكلمات التي حفظها!
  • ولا يقوى على استبدالها بألفاظ أخرى!

وهذا دليل على عدم تمكّن المعاني والفهم العميق، فيبقى الحافظ أسيرًا للألفاظ، مخافة تغيير المعاني التي لم يهضمها!

بينما:

  • صاحب الملكة قد تغيب عنه بعض المعلومات،
  • لكنه قادر بعقليّته أن يستدركها باجتهاده،
  • فعقله، بما ملك من قواعد ومنطق تفكير،
    كأنّه أصبح مولّدًا لفروع ذلك العلم،
    وأضحى منظّرًا فيه.

وهذا ليس مستحيلاً، بل ممكن بالتدريب والممارسة.

الرد على اعتراض شائع:

قد يقال:

“مستوى التلاميذ ضعيف، فلا تكلّفوهم فوق طاقتهم، وكثير من أساتذتهم لا يستطيعون ذلك!”

والجواب:
الحلّ يكمن في:

  • إصلاح المناهج،
  • جعلها تراعي (بناء الملكة)،
  • اعتماد التطبيقات والتدريبات العمليّة منذ المراحل الأولى،
  • تدريب المدرّسين عليها.

عندها، سيدهشنا الأساتذة مع تلامذتهم بقدراتهم ومهاراتهم.

ثمرة بناء الملكة:

لو ربّينا طلابنا على تحصيل المَلَكة:

  • سيعرفون قدر العلماء الكبار،
  • سيوقّرونهم أكثر بكثير،
  • سيفهمون المنزلة التي بلغها هؤلاء العلماء، حين أتوا بتلك العلوم الراسخة.

توجيه تربوي:

علينا أن نوجّه تلاميذنا النابهين لهذا الهدف الأسمى:

بناء الملكة.

ومن قصرت همّته أو استعداده عن بلوغ تلك المرتبة –بعد السعي والمحاولة–
فليكتفِ بما وصل إليه بحسب جهده،
فهذا خيرٌ ألف مرّة من حبسهم في سجن الحفظ فقط!

ولا نشترط في التدريبات صواب الجواب دائمًا؛
ففي الرياضيات –مثلاً– يُعطى التلميذ درجات على خطوات الحلّ السليم،
حتى لو أخطأ في النتيجة، لأن المقصود بناء المهارة، لا مجرد حفظ الناتج!

فلماذا لا نعتمد هذا في علومنا الشرعيّة؟
لماذا نُدرّس المعلومات فقط، ولا نُنمّي “ملكة التطبيق” في تلك العلوم؟

مثال تطبيقي من العلوم الشرعيّة:

  • العقيدة:
    هدفه: بناء القدرة على الحِجاج، والبرهنة على العقيدة، والدفاع عنها وفق ثقافة العصر.
  • التفسير:
    هدفه: التدبّر، الترجيح بين الأقوال والروايات، وتفسير القرآن بما يلائم الواقع، لا نقلاً فقط.
  • مصطلح الحديث:
    هدفه: الحكم على الحديث قبولًا أو ردًّا (تصحيحًا، تحسينًا، تضعيفًا).
  • الفقه وأصوله:
    هدفه: امتلاك مهارة الاجتهاد، بأنواعه (المطلق، المقيد، الباب، المسألة، الترجيحي).
  • علوم العربية:
    هدفه: تذوّق اللغة، وفهمها، وامتلاك أفضل أسلوب عربي للكتابة والتعبير.

إشكال جوهري:

لماذا في التعليم الشرعي:

  • نخرّج تلميذًا لا يجرؤ على استخدام عقله في حكم على مسألة حادثة،
  • ما لم يجد النصّ جاهزًا في كتاب قديم؟!

عندما يتّضح الهدف، تسهل الوسائل.

والأمر ليس صعبًا، فالتعليم الحديث:

  • يدرّب الطلاب على تحليل الشعر،
  • وعلى كتابة الإنشاء الإبداعي،
  • وعلى حلّ مسائل جديدة في الكيمياء والفيزياء والجبر…
    لم تمرّ بهم حرفيًا، لكن تمرّنوا على القواعد.

الختام بسؤال:

فلماذا لا تكون امتحاناتنا الشرعية مثلها؟
تعتمد اختبار ملكة الطالب وتمكّنه من العلم،
لا اختبار ذاكرته فقط!

وبخاصّة أن عصرنا:

  • مليء بالمستجدّات والنوازل التي تتطلب نظراً جديداً.
  • ومليء بفيض المعلومات المتضاربة، التي تحتاج إلى ترجيح.

والترجيح لا يصحّ إلا لمن امتلك الملكة
فهل نبدأ الإصلاح من هنا؟

هذا المقال جزء من كتاب مقدمات منهجية من سلسلة من التكديس للفاعلية




بين القلم والمنهج: قراءة تُثمر تفكيرًا”

لعلّ الكتابةَ أعظمُ اختراع بشريّ؛ فبها تمّ نقل خبراتهم وعلومهم وأخبارهم، وإليها تمّت الإشارة بقوله تعالى:
(الذي علّم بالقلم).
فالمعلّم هو الله تعالى، والوسيلة هي الكتابة؛ فللقلم وَحْيُهُ وتوفيقُه وهدايتُه.

والاختراع الثاني أو الاكتشاف الثاني هو اكتشاف المناهج العلميّة التي ضبطت المعارف والعلوم.

ولا تخفى أهميّة القراءة للاستفادة من أعظم اختراعين للبشريّة:
الكتابة وضبط المناهج.

فما الفرق بين الأميّ الذي لا يحسن القراءة، وبين المتعلّم الذي لا يقرأ؟!
وكما نقول دائماً:
نحن أمّة اقرأ، وأمّة الإيمان بالخالق الكريم سبحانه وتعالى:
(اقرأ باسم ربّك الذي خلق)،
(اقرأ وربّك الأكرم).


ما المقصود بالقراءة المنهجية؟

نقصد بالقراءة المنهجيّة:
القراءة التي يهدف صاحبها لبناء مَلَكَة عقليّة منهجيّة متعدّدة التخصّصات، ليرى الواقع بأبعاده كلّها، وليس من زاوية ضيّقة تخصّصيّة.

يعالج من خلال هذه العقليّة المعلوماتِ، ويقيّمها، ويشخّص المشكلات، ويضع لها الحلول.

إذن، ليس المقصود بالقراءة تراكم المعلومات، بل اكتساب العقليّة والمنهجيّة التفكيريّة.

يقول جون لوك:
“القراءة لا توفّر للعقل إلّا موادّ المعرفة، لكنّ التفكير هو ما يجعل ما نقرؤه ملكاً لنا”.

فمجرّد القراءة يراكم معلومات خاماً، غير معالجة، وغير متناسقة مع غيرها، ككومة أحجار، غير مرتّبة، وغير متجانسة.

أمّا عندما يفكّر فيها القارئ، ويقارنها بمعلوماته وقواعده ومسلّماته، ويرجّح بين المتعارضات، فحينها تصبح ضمن منظومته الفكريّة، وبالتالي تضحي مِلكه.


كيف نصل إلى المَلَكَة العقليّة المنهجيّة؟

لا بدّ من مراعاة عدّة ملاحظات تعين على ذلك وتؤدّي إليه، من أبرزها:

1. أنواع القراءة:

القراءة أنواع، بحسب الكتاب والهدف من القراءة، ويمكن اختصارها في خمسة أنواع رئيسة:

الرقم نوع القراءة تعريفها
1 القراءة الاستكشافيّة تصفّح كتاب ما لأخذ فكرة عنه وتقييمه، بقراءة الغلاف، المقدّمة، الفهرس، إلخ.
2 القراءة الانتقائيّة لمراجعة معلومة أو موضوع معيّن، مثل تفسير آية أو تخريج حديث.
3 القراءة السريعة بقصد التسلية أو الاطلاع السريع أو مراجعة كتاب قرأته سابقاً.
4 القراءة التحليليّة قراءة متأنية بقصد الدراسة والتمحيص، وغالباً لدواعي الامتحان أو الأهمية.
5 القراءة البحثيّة حفر معرفي حول موضوع معيّن، بهدف الكتابة فيه أو إعداد بحث.

أيّ هذه الأنواع أفضل؟

لا يوجد نوع هو “الأفضل” على الإطلاق، بل كلّ طريقة هي الأفضل بحسب الكتاب والهدف من قراءته.

  • بعض الكتب تحتاج تأنّياً وتحليلاً.
  • الروايات والقصص والكتب الخفيفة لا تحتاج تطويلاً.
  • بعض الكتب لا تساوي ثمن الورق الذي طبعت به.
  • وبعض الكتب الجيّدة يكفي أن نكتب منها ملخّصات ونقتبس منها أهمّ الأفكار.
  • وبعض الكتب المحوريّة كالنبع الثرّ، كلما قرأت فيها أعطتك… كـ “الموافقات للشاطبي”، وقد روى الدكتور سيف عبد الفتاح أنّه قرأه أكثر من عشر مرات!

كيف نقرأ؟

من الضروري ألّا يكون القارئ متلقّياً سلبيّاً:

  • لا يستسلم للأفكار دون تفكير.
  • ولا يكون مشاكساً همه الأكبر النقد.
  • بل المطلوب: القارئ المنصِف، الذي يحاور الكاتب، ويشاركه في معالجة الموضوعات.

وهكذا:

  • يتّفق معه ويضيف عليه حيناً.
  • يعدّل عليه أحياناً.
  • يخالفه ويردّ عليه في أحيان أخرى.

وبذلك يكسب مَلَكَة ذلك العلم.


خاتمة:

وكم هي جميلة هذه العبارة المنسوبة لـ فرانسيس بيكون:

“بعض الكتب ينبغي أن يُذاق، وبعضها يجب أن يُزدرد، وبعضها القليل خليق أن يُمضغ ويُهضم… ذلك أنّ بعض الكتب ينبغي أن يُقرأ منها شيء، وبعضها ينبغي أن تُقرأ، ولكن ليس بالحرص التامّ، وقليلة هي تلك الكتب التي يجب أن تقرأ كاملة، وبكامل الاجتهاد والانتباه”

هذه المقال جزء من كتاب من القراءة




الثقافة بين الهوية والمعرفة (نحو مثقّفٍ واعٍ وصانعٍ للتغيير)

الحراك الثقافي والعلمي المعاصر

المُطَّلع على الساحة العلميّة والفكريّة اليوم يجدها – بفضل الله – في حَرَاك ونشاط استثنائيّ مقارنةً بقرون الجمود والتقليد التي مرّت على الأمّة. فحركة الكتابة والنشر، وبخاصّة الكتابات “خارج الصندوق” كما يُقال، كثيرة، ومن رحم الكثرة تُولد النوعيّة والجودة بإذن الله.

دور وسائل التواصل والنشر

لقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل النشر الحديثة في تسهيل عملية النشر بعيداً عن مقصّ الرقابة والحذف والمنع، مما أتاح للمفكّرين والمثقّفين نشر أفكارهم بحرية أكبر، وبالتالي ساهمت في تنشيط الحراك الثقافي.

استمرار هيمنة ثقافة الجمود

ورغم هذا الحراك المتنامي فإن ثقافة الجمود والتقليد ما زالت تسيطر على ميادين علميّة وثقافيّة وفكريّة ليست بالقليلة، وأخطر هذه الميادين هي المؤسّسات التعليميّة. هذه الثقافة قد تبلورت وتكرّست عبر قرون، فتصلّبت وسيطرت على الحياة الثقافيّة، فنشأ عليها الصغير وشاب عليها الكبير، وأصبح تغييرها من أعسر الأمور. يقول ابن خلدون رحمه الله تحت عنوان “كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل”: “ولو اقتصر المعلّمون على كذا وكذا [يقصد الأساسيّات] لكان الأمر دون ذلك بكثير، وكان التعليم سهلاً ومأخذه قريباً، ولكنّه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه، فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها ولا تحويلها”.

ثقافة التجديد في مقابل التقليد

رغم الجمود فإن ثقافة الإبداع والتجديد والتطوير قد أحرزت اختراقات لا يُستهان بها، لكنّ قلاع التقليد ما زالت مسيطرة خصوصًا في المجالات المرتبطة بالهويّة الإسلاميّة والعربيّة، وذلك لتأثرنا المباشر بها، بخلاف بقية العلوم الكونيّة والطبيعيّة التي نحن فيها عالة على غيرنا، ممّا سمح بتطويرها لاعتمادها على علوم الأمم المتقدّمة، ولأنها لا تُعدّ في وعي الناس مجالًا للغزو الفكري.

إشكالية التكرار وضعف النقد

المطالع في كثير من الإنتاج العلمي والثقافي العربي يجد كثرة في المعلومات المكرّرة، وضعفاً في التمحيص والتحقيق، وافتقاراً للنقد المستمر، ومن أهمّ أسباب ذلك هو السعي لتكديس المعارف على حساب نوعيّتها وفاعليّتها، وضعف إعمال العقل في تحليلها، مما يرسّخ بيئة من الجمود والتقليد.

حاجة طلاب العلم إلى المنهجية

كثير من طلاب العلم الشرعي والثقافة الإسلاميّة يتساءلون عن برنامج علمي أو منهج ثقافي يسيرون عليه لتكوين ثقافتهم. غير أنّ الغالب في الواقع هو انشغالهم بجمع وتكديس الأفكار والمعلومات، وحفظها وتكرارها، بل والتفنّن في الدفاع عنها، والتوسّع في الشرح والتدليل عليها دون نقد أو إعادة نظر أو محاولة للإبداع.

أهمية بناء الثقافة الواعية

ما نسعى إليه هو الانتقال إلى ثقافة واعية تُمكّن الإنسان من تصوّر صحيح للواقع، وتقييم دقيق له، وقدرة على اتخاذ قرارات فاعلة مبنيّة على فهم السنن الكونيّة وطبيعة الأشياء. ولا يتمّ ذلك إلا بالتأمّل وبالاستفادة من المختصّين في مختلف الحقول، ومن خلال ثقافة عامة واسعة الأفق.

صفات المثقّف الفاعل

هذا البحث يهدف إلى تكوين مثقّف فاعل يتسلّح بالمعارف النوعيّة التي تعينه على المشاركة المؤثّرة في الإصلاح والإبداع والإضافة المعرفيّة ضمن تخصّصه. فالمثقّف الحقيقي لا يكتفي بتكرار ما حفظ، بل يسعى إلى تجاوز التخصص والانفتاح على علوم أخرى، مما يساعده على تكوين رؤية شاملة أعمق وأدقّ للظواهر والقضايا.

الرؤية البانورامية للثقافة

على المثقّف وطالب العلم أن يطّلع على مجموعة من العلوم، ويستوعبها، ويستخلص منها العلاقات المختلفة بين الأسباب والنتائج، ويبتعد عن النظر إلى الأمور من زاوية تخصّص واحد فقط. فكلّ علم يقدّم تحليله الخاص، والمثقّف الحقيقي هو من يكوّن رؤية بانوراميّة تجمع زوايا النظر المختلفة وتُنتج وعياً شاملاً ومتّزناً.

الخاتمة: دور المثقّف الشامل

الظاهرة الواحدة غالبًا ما تتداخل فيها عوامل متعدّدة بنسب متفاوتة، والمتخصّص يرى جانباً واحداً منها، بينما المثقّف المتعدّد المشارب ينظر إلى القضيّة الواحدة من عدّة زوايا، ليصل إلى تحليل أقرب إلى الصواب والموضوعيّة. وهكذا يكوّن المثقّف رؤية متكاملة، تشبه عمل النحلة التي تأكل من كلّ الثمرات لتخرج شراباً نافعاً فيه شفاء للناس.

ثانياً: معاني الثقافة

المعنى الاصطلاحي للثقافة

للثقافة أكثر من 150 تعريفاً، كثير منها متشابه، لكن ما يهمنا هنا معنيان:


المعنى الأول: ثقافة المجتمع

الثقافة: معنى عامّ مركّبٌ من المعارف والعقائد والأفكار والفنون والأخلاق، والقوانين والعادات والأعراف والتقاليد، والسلوكيّات وطرائق العيش، التي تميّز مجتمعاً ما أو جماعة معيّنة.

فالثقافة هي الصفات المميّزة لمجتمع عن غيره من المجتمعات، أو لجماعة عن غيرها، أو لأسرة عن غيرها، أو فرد عن غيره. فثقافة مجتمع هي هويّته، وبصمته الخاصّة، التي تمكّننا من التفريق بينه وبين غيره من المجتمعات، وهذه الثقافة فيها الصواب وفيها الغلط، وفيها ما لا يمكن وصفه بصواب ولا غلط، بل هو اختيار من بين خيارات أخرى.

عوامل تشكّل الثقافة بهذا المعنى كثيرة منها الدين والبيئة والعلوم والخبرات والاحتكاك بالأمم الأخرى. وهي متطوّرة ومتغيّرة، منها جوانب صلبة، ومنها جوانب مرنة، وفيها جوانب حضاريّة، وفيها جوانب متخلّفة، ومنها الجوانب العلميّة ومنها المبنيّة على التوارث والتقليد المحض، المبنيّ على الجهل والخرافات والأساطير.

وهي قويّة بحيث تهيمن على أفراد المجتمع، حيث يتمّ تلقّيها في الأسرة منذ ولادة المرء، ثمّ يساهم المجتمع كلّه في تكريسها، ووسم الأفراد بها، حتّى يموت المرء، وتتوارثها الأجيال. وهناك ثقافة بسيطة يتمّ تداولها تلقائيّاً، وهناك ثقافة منظّمة مدروسة يتمّ التخطيط لنشرها.

أمّا الأفراد، فمن تعريف الثقافة يتّضح لنا أنّ كلّ فرد ينتمي إلى جماعة، يحمل معه ثقافة تلك الجماعة، بشكل أو آخر، بغضّ النظر عن مستوى علمه ومعرفته.

ومهمّة المصلحين والمثقّفين والمتعلّمين إصلاحُ الأفكار والسلوكيّات الخاطئة، والارتقاء بالموجودة إلى الأفضل، أي العمل على تقويم وإصلاح ثقافة المجتمع بشكل مستمرّ. فتغيّر الثقافة يتمّ بشكل أسرع عند المتعلّمين والمنفتحين من الأفراد، ثمّ تنتقل هذه الإصلاحات الثقافيّة من النخبة إلى عامّة أفراد المجتمع بشكل متدرّج.

المعنى الثاني: الثقافة كمخزون معرفي

وهو المعنى المقصود في كتابنا. المعارف والعلوم والمهارات المطلوبة لتكوين الإنسان المثقّف، وهو الشخص الذي تجاوز تخصّصه، ووسّع دائرة اطلاعه وقراءاته واهتمامه، بحيث يحصل على رؤية شاملة للواقع والنظريّات والأفكار الإنسانيّة، حتّى يصبح أكثر تأثيراً بلسانه وقلمه، فيمتلك مجموعة أفكار إصلاحيّة وعلاجيّة من أجل بلوغ مجتمع أفضل.

تعريف المثقّف المسلم

هو الذي زاد على الماضيّ، باطلاعه على العلوم الإسلاميّة واستوعبها وهضمها، وانطلق بآرائه في ضوء ضوابط الإسلام ومبادئه وتصوّراته الكبرى، وحمل هموم أمّته وآمالها وقضاياها الكبرى.

من أكبر مهامّ المثقّف إنتاج فكر جديد، لحلّ أزمة حاليّة أو مستقبليّة متوقّعة. ونلاحظ أنّ رفع جَودة الثقافة بالمعنى الثاني (العلم والمعرفة) تؤثّر إيجابيّاً على رفع جَودة الثقافة في المجتمع بالمعنى الأوّل (الأفكار وطريقة الحياة).

تعريف الثقافة الإسلاميّة

هي مجموعة المعارف والمعلومات النظريّة، والخبرات العمليّة المستمدّة من القرآن الكريم، والسنّة النبويّة، التي يكتسبها الإنسان، ويحدّد على ضوئها طريقة تفكيره، ومنهج سلوكه في الحياة.

الألقاب الثقافيّة: المثقّف وغيره

فيما يلي تعريف لبعض الألقاب التي تطلق على أشخاص يعملون في الحقل الثقافيّ والتوعويّ الإصلاحيّ. ما سنذكره من تعريفات هي اصطلاحات وألقاب أغلبيّة، قد تنطبق على غالبيّة، وقد لا تنطبق على بعضهم، لكنها تقدّم فروقاً واقعيّة واضحة بين هذه الألقاب.

جدول يوضح الفرق بين المختص، العالم، الداعية، المصلح، المثقف، المفكر، الفيلسوف

الصنف التعريف المهام الرئيسية السمات المميزة
المختص طالب علم تخصّص في مجال معيّن وصرف فيه جزءًا من عمره دراسة علم محدد متخصص في علم واحد (مثل التاريخ، الكيمياء)
العالِم شخص برع في اختصاصه حتى فاق أقرانه التعمق والتبحر في علمه من المتفوقين أو المتميزين في تخصصه
الداعية لديه علم وهمّ إصلاحي، يركّز على التوجيه والإرشاد التبليغ، التذكير، الهداية، دفع الناس إلى الصلاح نشاطه ميداني، لا يُنتج غالبًا مفاهيم جديدة
المصلِح صاحب رؤى إصلاحية مستندة إلى ثقافة أمّته معالجة القضايا السياسية أو الاجتماعية أو الأخلاقية يغلب عليه النضال والتأثير العملي وليس التنظير الفكري
المثقّف تجاوز اختصاصه ووسّع دائرة قراءاته واهتماماته التأثير باللسان والقلم، تقديم أفكار علاجية وتقنية يعرف شيئًا عن كل شيء، احتكاكه بالجماهير أقل من الداعية والمصلح
المفكّر مثقّف يُحلّل الماضي، ويفهم الحاضر، ويستشرف المستقبل توليد الأفكار، إنضاجها، فهم الواقع بعمق أعلى من المثقّف، أقل من الفيلسوف، يمارس التفكير المنهجي المستمر
الفيلسوف الأكثر تجريدًا، يضع المفاهيم الكلية وينتج النظريات إنتاج مفاهيم ونظريات كبرى، فهم الوجود والعقل يعمل بالكليّات، يلبّي حاجات العقول، يقود التفكير المجرد



المفكر والحركي: هل يكملان بعضهما أم يتصارعان؟

أيّهما أهمّ: المفكّر أم الحركيّ؟[i]

خلال نقاشاتنا وحواراتنا كثيراً ما نسمع من يقول: إنَّ هذا الكلام تنظير.

ويقولون: ما أكثر المنظرين وما أقلّ العاملين.

ويقولون: هذا تنظير بارد، بعيد عن أرض الواقع.

ويقولون: عامل وحركيٌّ واحد على الأرض، خير من ألف منظّرٍ لا ينزل إلى ساحة العمل.

فهل فعلاً لدينا كمّ كبير من المنظّرين؟ وماذا نقصد بالمنظّرين؟ وهل العامل الحركيّ خير من المنظّر؟

لا شكّ أنّ الحركة بركة، والعمل واجب، وأنّ الإيمان لا ينفع ما لم يُشفع بالعمل الصالح، وأنّ التنظير يبقى كلاماً، ما لم يُترجم إلى واقع ملموس.

ولا ريب أنّ بعض الكُتّاب والمفكرين يجلسون في بروج عاجيّة، ويخاطبون الناس من علٍ، دون ملامسة لهمومهم، ودون اكتراث بمعاناتهم؛ فلا يتألّمون لآلام الناس، ولا يأملون آمالهم، ولا يحلمون أحلامهم..

لكن: هل هذا يسوّغ لنا أنْ نعمّم القول، بتفضيل العاملين على العلماء، والحركيّين على المفكّرين، والميدانيّين على المنظّرين؟!

وأن نهاجم كلّ منظّر أو مفكّر أو كاتب أو عالِم ينقد بعض ممارسات العاملين أو تصوّراتهم وأفكارهم؟ أو حتّى ينقض النظريّة كلَّها التي تأسّس عليها عملهم؟!

هل يُلام من يقدّم النصح والتوجيه؟!

هل يجب أن يطبّق الكاتب ما يقوله ويكتبه كلّه؟، حتّى فيما يخصّ الشأن العامّ في المجال السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ والحضاريّ؟! وهل يتأتّى له ذلك فيما لو أراد ذلك؟!

من المؤكّد أنّ الجمع بين التطبيق والتنظير أفضل، لكنّ الحقّ ينبغي أن يقال، وهو أنّ الجمع بين التنظير الدائم والحركة والتنفيذ، أمر لا يتيسّر إلا للنوادر من الرجال.

بل أزعم أنّه من المؤكّد أنّ جانباً سيتغلّب على جانب، عند من يجمع بين الحركة والتنظير، إمّا أن تغلب الحركةُ التنظيرَ، أو يغلب التنظيرُ الحركةَ، وهذا من الضعف البشريّ، فالكمال لله وحده، وحتّى يبقى بعضُنا يحتاج بعضاً، ولا نستغني، ففوق كلّ ذي علم عليم.

الحقيقة أنّ مَهمّة العالم والكاتب والمثقّف والمنظّر أن يقدّم أفكاراً وحلولاً، فينقد ما يراه منكراً أو خطأً أو قاصراً، حتّى إنّه قد ينقد الحسن لنفعل الأحسن، وينقد الصحيح لنفعل الأصحّ، وينقد الجيّد لنحرص على الأَجود، وينقد المناسب ويرشدنا للأنسب.

إذ يفترض أنّنا نطمح للتطوُّر والتميّز في عالَم يتنافس بالجَودة وفق أدقّ المعايير.

العالم يتنافس اليوم في امتلاك المعرفة والمعلومات والتقنيّة، وكلّها نتاج المنظّرين والعلماء والمفكّرين والمخترعين، سواء في الجانب التطبيقيّ المادّيّ أو في المجال الاجتماعيّ الإنسانيّ.

ونحن عندنا شحٌّ في المفكّرين والعلماء والباحثين، إلّا إذا اعتبرنا كلّ من يتكلّم وينقُد -ويهرف بما لا يعرف من عامّة الناس- منظّراً!

من مظاهر تخلّفنا نفورُنا من التخطيط والتنظير والتفكير والنقد، واندفاعنا للتنفيذ والحركة والعمل، فكم من أعمال ومشاريع انطلقت دون تفكير ودراسة وتخطيط كافٍ، فكانت النتائج كارثيّة، وكم من تفكير عميق وخطط رائعة لم تتحوّل إلى عمل وتنفيذ، فبقيت حبيسة الكتب والدراسات!

ومن مظاهر نفورنا من التنظير وصف (الفكر بالبرود) فنقول: (فكر بارد).

وهنا ملاحظة مهمّة ينبغي الانتباه إليها، وهي أنّ المفكّر ينبغي أن يميّز بين معرفة هموم الواقع وحاجاته، وبين أن ينغمس في العمل والتطبيق.

فعليه أن يبتعد عن الانغماس بالتنفيذ والعمل والحركة، فالواقع له تغيّرات ومشكلات وضغوطات، وإلّا عاش حال (طوارئ التنفيذ) فيتشوّش ولا يعود قادراً على الإبداع والتفكير الحرّ، وتصبح أفكاره تحت ضغط الواقع، فينقلب إلى ميدانيّ تنفيذيّ تستغرقه التفاصيل، وإطفاء الحرائق.

وهنا لا بدّ من أن يوازن بين رفرفة الفكر الاستراتيجيّ التنظيريّ، وواقعيّة الفكر التكتيكيّ التنفيذيّ.

ففي المعارك الكبرى يتركون القيادة العليا بعيدة عن ساحة المعركة، يحفظونها في مكان آمن، حتّى يفكّروا للمعركة بعيداً عن ضغطها.

ومن عجائبنا أنّنا نندب حظّنا، ونشكو قلّة مراكز البحث والتفكير، ثمّ نلوم من يتفرّغ ويكدّ في البحث والتنقيب والتفكير، وينتج لنا بحوثاً وكتباً رصينة..

فيندفع أحدهم وينعتها بالمعرفة الباردة..

وننسى أو نتناسى أنّ أصل كلّ حركةٍ ومشروعٍ وعملٍ فكرةٌ، فـ “وراء كلّ مشروع عظيم.. فكرةٌ عظيمة”.

وكثيراً ما تبقى كتابات بعض العلماء مهجورة غير منتفَع بها، وبخاصّة إذا كانت سابقة لزمانها، فالوعي بها يكون ضعيفاً في زمان كاتبها، ثمّ يأتي أوانها، وتعرف الأمَّة قيمتها، ومدى الحاجة إليها، فتقبل عليها، وتنتفع بها أشدّ الانتفاع، بل إنّ بعض الحركيّين يستفيدون من كتابات المنظّرين، ولا يعلنون ذلك!

قد يقول قائل: لكنّ الكُتّاب والمنظّرين عندنا كثيرون، فما أكثر المنظّرين عندنا، وما أقلّ العاملين!

فنقول: هذا الكلام غير دقيق، فكثيراً ما تعترضنا مشكلات وعقبات وتحدّيات تحتاج إلى منظّرين، يقدّمون فيها حلولاً فتكاد لا تجد أحداً، -دعك من الثرثارين ممّن يهرفون بما لا يعرفون- ممّن لو طبّقتَ كلامهم لازداد الأمر سوءاً.

ثمّ إنّ إحصاءات إنتاج الكتب وطباعتها وقراءتها في عالمنا العربيّ تشير إلى أنّنا في ذيل أمم الأرض، هذا من حيث الكمّ.

أمّا من حيث النوع فحدّث عن البحر ولا حرج، فالتكرار يكاد يكون السمة العامّة للكتب، كأنّنا تعاهدنا ألا يخالفَ بعضُنا بعضاً في أفكارنا وأطروحاتنا.

إذن لا يقلّل قدر العلماء والمفكّرين والمنظّرين إلّا مخطئ، ها هي الحكومات المستبدّة تتعامل بحزم مع كلّ صاحب قلم حرّ، لأنّها تعرف (قوّة تأثير الكلمة) ويعرفون أثر الفكر في التغيير.

بصراحة: الذي نحتاجه حقّاً هو: تلاحم العلم مع العمل، والمنظّرين مع الفاعلين، والمختبَر مع المصنَع، والمهندس مع المنفّذ، فينطلق العمل من عقول العلماء والمفكّرين إلى أرض الميدان، ويعود الحركيّون دائماً إلى العلماء والمفكّرين بنتائج أعمالهم ليعدّل العلماء والمفكرون المسار ويصوّبوا ويصحّحوا ويطوّروا، فيحصل الإبداع والتميّز، فلا بدّ من تحالف أُولي الأيدي مع أولي الأبصار.


[i] هذا المقال مقتبس من كتاب بصراحة

تحت عنوان فقيه أم مفكّر؟




النقد: مرآة الإبداع ومفتاح النهضة

ما هي حاجتنا للنقد؟[i]

• النقد كالدواء… مرٌّ، لكنّه مهمّ في التقويم والتصويب.

• والناجحون دائماً يطلبون من يرشدهم للخلل، وكذلك الأمم المتطوّرة تفرح بالكتابات الناقدة النوعيّة، حتّى إنّ الشركات الكبرى تموّل أبحاثاً لنقدها وذلك لتطوير منتجاتها وخدماتها وأدائها.

• بل أضحى للتفكير الناقد كتبٌ ودورات تقوم بها المؤسّسات والمنظّمات، وتحرص في اجتماعاتها على تمثيل الفكر الناقد، وذلك لأجل الانتباه للأخطاء والمخاطر والعيوب ونقاط الضعف في القرارات، وحرصاً على التطوير والإبداع، فلا يمكن إبداع جديد ما لم نشعر بقصور القديم، وبالتالي نقوم بالبحث والتنقيب والتفكير بحلول جديدة.

• فالتطوير والتقدّم مدينٌ للنقد، فلولاه لما عرفنا خطأ السابق، أو قصوره على الأقلّ، ولم نشعر بالحاجة لشيء أكثر صلاحيّة وتطوّراً، فالنقد بداية الإبداع، فلا بدّ من نقد السابق لنفكّر بإبداع الجديد.

• والمطلوب مرآة صقيلة مستوية، ترينا صورتنا على حقيقتها، لا المقعّرة التي تضخّمنا، ولا المحدّبة التي تصغّرنا.

• ولكن أليس بعض النقد هدّاماً؟ وبعضه جلداً للذات؟ وبعضه هدّاماً للرموز؟ وبعضه تشويهاً للتاريخ؟

• هنا يجب أن نميّز بين المندسّين المغرضين الهدّامين المعادين للمشروع الإسلاميّ، وبين الناقدين الناصحين الصادقين المنتمين للتيّار الإسلاميّ، الذين همّهم النصح والإصلاح والتطوير والتصحيح، فلا يدفعنا حبّنا وانتماؤنا وولاؤنا للتنظيمات والجماعات، وحماستنا لأفكارنا أن نضع الجميع في سلّ واحد.

• فهل كلّ ناقد كاره لمن ينقدهم؟ أو ضالّ أو مخطئ؟ أو يريد الشهرة والصعود على أكتاف المنقود، أو صاحب مصلحة أو مدفوعٌ له؟!

• علينا سماع المخالفين والنقّاد، بل البحث عنهم وعن أطروحاتهم، حتّى نطّلع عليها، ونقارن بينها وبين أفكارنا وسلوكنا، فنأخذ ما نراه صواباً، ونترك مالا نراه مناسباً.

• لأنّ المحبّ والمنتمي عادة لا ينتبه للأخطاء، لانغماسه بالعمل والتنفيذ، أو لشدّة حبّه وولائه، بينما من نصنّفهم (ناقدين متحاملين) فإنّهم كثيراً ما ينتقدون أشياء تستحقّ الانتقاد.

• ينبغي ألّا نتعامل مع كلّ فكرة مخالفة، أو نقد على أنّه (طعن) و(شبهات) ينبغي الردّ عليها، فنكون نتلقّى الكلام دون استماع، ولا فهم ولا تعقّل، بل نتلقّاه بألسنتنا لنردّ عليه كما عبّر القرآن الكريم:

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ)،

بدل أن نتلقّاه بآذاننا لنعيه ونفهمه، ولا نتركه يمرّ على عقولنا، فلعلّ النقد صواب! ولعلّ الحقّ معه.

• إخواني: النقد والحوار ينفع مع من كان ولاؤه للإسلام أكبر من ولائه للفكرة أو الحركة أو التنظيم.

• النقد والحوار ينفع مع من يرى حزبه وجماعته ومذهبه الفكريّ أو الفقهيّ أو العقديّ أو السلوكيّ يراهم جزءاً من المسلمين، وليس الممثل الحصريّ للإسلام!

• أمّا من يرى تطابقاً بين فكره والإسلام، فلا ينفع معه النقاش، فهو ينطلق في نقاشه من كونه الممثّل الحصريّ للإسلام، فأيّ نقد لفكره يعني عنده نقداً للإسلام!

• وعلى كلّ حال.. فليس الحلّ مع الناقدين بنصب محاكم التفتيش والإقصاء، وتراشق التهم والألقاب والدخول بالنّيّات.

• كما أنّ السخرية والاستهزاء والتسخيف والاستخفاف بالناقدين ليس حلّاً، لأنّه يوغر الصدور، ويجافي بين القلوب، ويفرّق الصفّ، وقد يحوّل المنتقِد من مجرّد منتقد إلى عدوٍّ حقيقيّ.


[i] هذا المقال مقتبس من كتاب بصراحة
تحت عنوان: بين النقد والهدم  




ما هي حاجتنا للنقد؟

• النقد كالدواء… مرٌّ، لكنّه مهمّ في التقويم والتصويب.

• والناجحون دائماً يطلبون من يرشدهم للخلل، وكذلك الأمم المتطوّرة تفرح بالكتابات الناقدة النوعيّة، حتّى إنّ الشركات الكبرى تموّل أبحاثاً لنقدها وذلك لتطوير منتجاتها وخدماتها وأدائها.

• بل أضحى للتفكير الناقد كتبٌ ودورات تقوم بها المؤسّسات والمنظّمات، وتحرص في اجتماعاتها على تمثيل الفكر الناقد، وذلك لأجل الانتباه للأخطاء والمخاطر والعيوب ونقاط الضعف في القرارات، وحرصاً على التطوير والإبداع، فلا يمكن إبداع جديد ما لم نشعر بقصور القديم، وبالتالي نقوم بالبحث والتنقيب والتفكير بحلول جديدة.

• فالتطوير والتقدّم مدينٌ للنقد، فلولاه لما عرفنا خطأ السابق، أو قصوره على الأقلّ، ولم نشعر بالحاجة لشيء أكثر صلاحيّة وتطوّراً، فالنقد بداية الإبداع، فلا بدّ من نقد السابق لنفكّر بإبداع الجديد.

• والمطلوب مرآة صقيلة مستوية، ترينا صورتنا على حقيقتها، لا المقعّرة التي تضخّمنا، ولا المحدّبة التي تصغّرنا.

• ولكن أليس بعض النقد هدّاماً؟ وبعضه جلداً للذات؟ وبعضه هدّاماً للرموز؟ وبعضه تشويهاً للتاريخ؟

• هنا يجب أن نميّز بين المندسّين المغرضين الهدّامين المعادين للمشروع الإسلاميّ، وبين الناقدين الناصحين الصادقين المنتمين للتيّار الإسلاميّ، الذين همّهم النصح والإصلاح والتطوير والتصحيح، فلا يدفعنا حبّنا وانتماؤنا وولاؤنا للتنظيمات والجماعات، وحماستنا لأفكارنا أن نضع الجميع في سلّ واحد.

• فهل كلّ ناقد كاره لمن ينقدهم؟ أو ضالّ أو مخطئ؟ أو يريد الشهرة والصعود على أكتاف المنقود، أو صاحب مصلحة أو مدفوعٌ له؟!

• علينا سماع المخالفين والنقّاد، بل البحث عنهم وعن أطروحاتهم، حتّى نطّلع عليها، ونقارن بينها وبين أفكارنا وسلوكنا، فنأخذ ما نراه صواباً، ونترك مالا نراه مناسباً.

• لأنّ المحبّ والمنتمي عادة لا ينتبه للأخطاء، لانغماسه بالعمل والتنفيذ، أو لشدّة حبّه وولائه، بينما من نصنّفهم (ناقدين متحاملين) فإنّهم كثيراً ما ينتقدون أشياء تستحقّ الانتقاد.

• ينبغي ألّا نتعامل مع كلّ فكرة مخالفة، أو نقد على أنّه (طعن) و(شبهات) ينبغي الردّ عليها، فنكون نتلقّى الكلام دون استماع، ولا فهم ولا تعقّل، بل نتلقّاه بألسنتنا لنردّ عليه كما عبّر القرآن الكريم:
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ)،
بدل أن نتلقّاه بآذاننا لنعيه ونفهمه، ولا نتركه يمرّ على عقولنا، فلعلّ النقد صواب! ولعلّ الحقّ معه.

• إخواني: النقد والحوار ينفع مع من كان ولاؤه للإسلام أكبر من ولائه للفكرة أو الحركة أو التنظيم.

• النقد والحوار ينفع مع من يرى حزبه وجماعته ومذهبه الفكريّ أو الفقهيّ أو العقديّ أو السلوكيّ يراهم جزءاً من المسلمين، وليس الممثل الحصريّ للإسلام!

• أمّا من يرى تطابقاً بين فكره والإسلام، فلا ينفع معه النقاش، فهو ينطلق في نقاشه من كونه الممثّل الحصريّ للإسلام، فأيّ نقد لفكره يعني عنده نقداً للإسلام!

• وعلى كلّ حال.. فليس الحلّ مع الناقدين بنصب محاكم التفتيش والإقصاء، وتراشق التهم والألقاب والدخول بالنّيّات.

• كما أنّ السخرية والاستهزاء والتسخيف والاستخفاف بالناقدين ليس حلّاً، لأنّه يوغر الصدور، ويجافي بين القلوب، ويفرّق الصفّ، وقد يحوّل المنتقِد من مجرّد منتقد إلى عدوٍّ حقيقيّ.




التفكير بين القيود والانطلاق: فهم أخطائه وتقويته

أسباب أخطاء التفكير[1]

لماذا نقع في أخطاء التفكير؟

  • العقل محدود، ويتأثر بالمعلومات الخاطئة أو غير الدقيقة أو القديمة، كما أنه قد يرتكب أخطاء في التحليل والاستنتاج.

  • التفكير قد يؤدي إلى رأي صائب أو خاطئ، مثل الماء الذي ينبت أعشابًا ضارة أحيانًا.

  • رغم أن العقل أوجد حلولًا ومخترعات رائعة، إلا أنه تسبب في مشاكل خطيرة، مثل:

    • التلوث البيئي.

    • مخاطر أسلحة الدمار الشامل.

    • هيمنة التقنية والذكاء الصناعي وخروجهما عن سيطرة الإنسان.


  • العقل ليس معصومًا عن الخطأ، خاصة عندما ينقطع عن تعاليم السماء، مما يؤدي إلى انفتاح غير منضبط على الشهوات والغرائز.

عوامل أخرى تؤدي إلى أخطاء التفكير

  1. ضعف الإمكانات الذهنية، مثل الخيال والذاكرة والقدرة على التحليل والتركيب.
  2. تفاوت القدرات العقلية بين الأفراد.
  3. بعض المشكلات قد تكون أكبر من قدرة شخص واحد، مما يستدعي العمل الجماعي والتخصصات المتعددة.
  4. يمكن تحسين التفكير عبر التدريب والقراءة حول مناهج التفكير وأخطائه.

هل يمكن تقوية التفكير؟

التفكير نوعان

  • التفكير الاعتيادي: تلقائي وروتيني بسبب تكرار الأعمال، حيث يحوّل العقل المهام المتكررة إلى عمليات لا واعية، مثل قيادة السيارة أو الكتابة.

  • التفكير المدروس والمركّز: يتطلب جهدًا ووعيًا، وهو ما يُعرف بـ “فعل التفكير” وليس مجرد “ردّ الفعل”.

معوقات تحسين التفكير

  • الرضا عن مستوى التفكير وعدم الشعور بالحاجة إلى تحسينه.

  • أنظمتنا التعليمية تعتمد غالبًا على مهارات التفكير المتدنية (التذكر، الفهم، التطبيق) بدلًا من المهارات العليا (التحليل، التركيب، التقويم، الإبداع).

  • الخبراء التربويون لاحظوا أن الامتحانات تركز على اختبار الذاكرة وليس مهارات التفكير.

العقل كـ”عضلة التفكير

  • التفكير مهارة يمكن تطويرها، مثل المهارات اللغوية والحسابية.

  • الذكاء فطري لكنه ينمو بالتعلم والممارسة.

  • أبو حنيفة رحمه الله قال لأحد تلاميذه بعدما نضج فكره: جئتنا عادياً فأنضجتك الصُّحبة.

  • كان أسلوبه في التدريس يعتمد على النقاش والجدل، مما يعزز مهارات التفكير.

أهمية تعزيز التفكير الإبداعي

الدعوات لتنمية التفكير الإبداعي

  • ينادي إدوارد دي بونو بجعل التفكير الإبداعي ثقافة مجتمعية.

  • بعض الدول خصصت وزارات مثل وزارة تنمية الذكاء في فنزويلا.

  • الجامعات الحديثة بدأت بتدريس مهارات التفكير، بينما علماؤنا القدماء كانوا يدرّسون المنطق لحماية التفكير من الأخطاء.

التفكير كأولوية كبرى

  • المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.

  • التفكير فريضة إسلامية، كما أشار العقاد في كتابه التفكير فريضة إسلامية.

  • طاقات العقول تكاد تكون مشلولة بسبب التقليد والجمود والخوف من النقد والإبداع.

عوائق التفكير الإبداعي في مجتمعاتنا

أمثلة على العبارات المثبطة

  • “وهل أنت أفهم منهم؟!”

  • “لو كان هذا الأمر ممكنًا، لفعله ألف شخص قبلك!”

  • “حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس.”

  • “انظر ماذا يفعل الناس وافعل مثلهم.”

  • “أنت تحبّ المخالفة!”

  • رغم أن الوضع أصبح أفضل من السابق، إلا أننا بحاجة مستمرة إلى التطوير.

  • القرآن يدعونا دائمًا إلى الأحسن قولًا وسماعًا واتباعًا وفعلًا وحوارًا، كما في الآيات:

    • (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

    • (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)

    • (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)

    • (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

    • تحسين التفكير يقلل الأخطاء


  • التحسن مطلوب دائمًا

  • لا يمكن تحقيق المثالية لأن العقول والمقدرات البشرية محدودة.
  • لكن هناك فرق بين أن تكون نسبة الصواب 30% والأخطاء 70%، وبين أن تصبح نسبة الصواب 95% والأخطاء 5%.
  • هذا الفرق هو ما يميز الشخص الناجح عن الفاشل، والشركة الناجحة عن الفاشلة، والمجتمع المتقدم عن المتخلف.

التفكير هو أقوى موارد البشرية في عصرنا

  • ما يولّده التفكير من أفكار وابتكارات وعلوم هو القوة الحقيقية لأي أمة.

[1] هذه المقالة جزء من مقدمة كتاب أخطاء التفكير




التفكير والتفلسف: رحلة العقل بين التأمل والابتكار

التفكير والتفلسف

  1. تعريف التفكير

    • التفكير هو إعمال العقل وتشغيله في الموجودات للوصول إلى المطلوب المجهول.
    • الرأي الذي يصل له العقل بعد التفكير هو المطلوب، مثل: نتيجة أو تحليل أو تركيب أو تطبيق أو تقويم أو تصحيح أو نقد (إيجابيات وسلبيات) أو الوصول إلى فكرة إبداعية.
    • المقصود بالتفكير هو التعمّق والتأمّل وتقليب الموضوع المفكَّر فيه على وجوهه والنظر في منشئه وأسبابه وأحواله ومآلاته، وليس التفكير السطحي السريع الذي لا يبذل فيه المرء جهدًا ولا يتريّث في إصدار النتيجة.

  2. قول ابن القيم في التفكير
    يقول ابن القيم ؒ:
    “الرأي ما يراه القلب بعد فكر وتأمّل وطلب لمعرفة وجه الصواب”.
  3. التفلسف كنوع راقٍ من التفكير

    • من عوامل انتشار الأخطاء في التفكير في مجتمعاتنا جفول الوعي الإسلامي السنّي عن الفلسفة في وقت مبكر.
    • يُفهم من كتاب “تهافت الفلاسفة” لحجة الإسلام الغزاليؒ أنه يحرّم الفلسفة كلّها، ولكن في الحقيقة، نقد الغزالي نوعًا معينًا من الفلسفة، وهي الفلسفة المادية التي تنكر ثوابت الدين، ولم ينكر المنهج الفلسفي في التفكير.
    • المنهج الفلسفي في التفكير يعني: التعمّق في التفكير، وعدم قبول المعرفة دون شكٍّ منهجي، بحيث تثبت المعرفة بعده على الحجج والبراهين وليس بالتقليد والتسليم التلقائي.

  4. تعريف التفلسف

    • التفلسف بمعنى: “التعمّق في المعاني والتجريد والربط بين المفاهيم لإنشاء النظريات”، وهو أمر لا يمكن للإنسان أن يتحضّر ويتقدّم بدونه.
    • علماؤنا مارسوا الفلسفة ولم تنقطع؛ فالغزالي، وكل علماء العقيدة الذين نافحوا عن تعاليم الدين، تفلسفوا حينما دافعوا، بما فيهم الغزالي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم رخمهم الله.

  5. أنواع الفلسفة
    الفلسفة تُطلق على شيئين:

    • المباحث الفلسفية والنظريات الفلسفية والآراء الفلسفية.
    • المنهج والطريقة الفلسفية للوصول إلى الآراء والنظريات الفلسفية.
    • النوع الأول (المُنتَج الفلسفي) قد تتفق معه وقد تختلف، أما النوع الثاني (المنهج)، فالمفروض أن يكون مقبولًا ومطلوبًا.

  6. مجالات الفلسفة

    • الفلسفة لا تقتصر على المباحث الثلاثة المعروفة (الوجود، المعرفة، القيم)، بل تناولت كل شيء في الحياة بتعمّق.
    • التفلسف يشمل كل العلوم، فمن يتحدث بنظريات العلوم أو بالنظريات في علم من العلوم أو بالكليات في باب من الأبواب، فهو يقوم بفعل فلسفيّ.
    • كل تجريد للمعاني، وكل ربط بينها، وكل إنشاء لنظرية أو حكم عقلي تحليلي أو تركيبي أو تقويمي، أو تقديم فهم آخر، هو فعل فلسفيّ.
    • الفلسفة بهذا المعنى (التعمّق في التفكير وعدم الاكتفاء بالظواهر) لا لغة لها، ولا زمان، ولا مكان، ولا دين، ولا علم محدّد.




أخطاء التفكير

حاجة الإنسان إلى التفكير وإعمال العقل لا تقلّ عن حاجته إلى الطعام والشراب، فالتفكير حالة تلازم الإنسان بدأً من أصغر الأشياء وانتهاء بأعقدها.

والسباق اليوم بين الدول بات سباقاً فكرياً بامتياز، وباتت الأمة التي تستطيع تنظيم أفكارها وعلومها وتطويرها واستثمار هذه العلوم بما يخدم الشعب مادياً ومعنوياً هي الأمم الأكثر تقدّماً.

والمسلمون اليوم بأمس الحاجة إلى الاهتمام الدائم بالعقل والفكر ونتائجه، لأنهم أمة (اقرأ) وأمة (يتفكرون).

فكثيراً ما يتمّ التركيز في الخطاب الديني على الاهتمام بالأخلاق والالتزام السلوكي بتعاليم الدين والاهتمام بالروح، ولا يُعطى الاهتمام بالعقل المكانة التي يستحقها، ولا الاهتمام باستثمار هذه النعمة الكبرى التي ميّز الله بها الإنسان عن سائر الكائنات الاهتمام الذي يليق بمكانته.

 فالذي أعتقده أنّ العقل هو ما فضّل الله به الإنسان على سائر المخلوقات، ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً))(الإسراء:70).

فالعقل وما يتضمنه من حرية الاختيار وما يقتضيه من التكليف وما ينتج عنه من الحساب هو (الأمانة) التي عرضها الله على السماوات والأرض فأبين أنْ يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان.

فاختراعات العقل واكتشافاته ومنجزاته شيء يستحق التقدير.. فسبحان من خلق الإنسان في أحسن تقويم..

لماذا هذا العنوان: أخطاء التفكير؟

وكيف تكون من أسباب تخلّفنا وتعيق النهوض في مجتمعاتنا وبلداننا؟

  1. لأنّ كل مشروع مبدع وراءه فكرة مبدعة، وكل مشروع فاشل وراءه أفكار فاشلة، أو إدارة فاشلة!
  2. التفكير يؤثّر على السلوك والعواطف والكلام والقرارات والآراء والقبول والرفض..
  3. حتى نصل لأفكار سليمة لا بدّ من اعتماد طريقة تفكير سليمة وتجنّب أخطاء التفكير،

فأخطاء التفكير مثل الفيروسات التي تعشعش في برنامج تشغيل الحاسوب، فتعيق حركته وانسيابيته، وقد تؤدّي لشلله وتعطّل عمله!

 وكذلك أخطاء التفكير تعيق عمليات التفكير في عقولنا، وتحرف تفكيرنا عن المسار الصحيح وقد توردنا المهالك! وبعضها يشلّ فاعلية صاحبها! كما سيظهر جلياً عند الاطلاع عليها.

فأخطاء التفكير من أهم أسباب تخلفنا، لذلك تجد أنماطاً مخطئة للتفكير تسود في البيئات المتخلّفة، بينما تنتشر منظومات فكرية غيرها في البيئات المتقدمة، حتى على صعيد الأفراد، فطريقة تفكير الناجحين مختلفة عن طريقة تفكير الفاشلين!

وكنت كلّما ناقشت معضلة ما مع أستاذي الكبير الدكتور عبد الكريم بكّار حفظه الله كثيراً ما يؤكّد على أهمية طرائق التفكير ومنهجيته السليمة وأنها من أهم المهمات ومن أَولى الأولويات الجديرة باهتمام المصلحين.

 هل هي أخطاء في التفكير أم أخطاء في التعبير؟

الحقيقة هي أخطاء في التفكير، فالتعبير ما هو إلا أداة لتوصيل المعاني والنتائج والأفكار التي نعتنقها.. لذلك عرّف المناطقة الإنسان بأنه (حيوان ناطق) أي مفكّر..

لذلك لو تكلم إنسان أمامنا بأفكار نراها خاطئة، نقول له: ما هذا الكلام؟!! أنت كيف تفكّر؟!!

لماذا التركيز على أخطاء التفكير:

لأنها سنة سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الخَيْرِ، وكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي) ([1])

ولأن التخلية قبل التحلية، ولأن التنبيه على أخطاء التفكير تقع تحت الأمر بالمعروف والنهي بشكل أو بآخر، ولأن تلك الأخطاء تفسد الصواب وتعكّر التفكير، كما أنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح فالانتباه لطرائق التفكير الخاطئة مقدّم على التركيز على طرائق التفكير السليمة..

ولأن كلّ قراراتنا بناء على العقل.. وحتى نرشّد العقل.. ونحسّن تفكيرنا..

ولكثرة المعلومات التي نغرق بها عبر وسائل التواصل والكتابات والفيديوهات في أيامنا، فلا بدّ من منهجيات ومهارات تفكير حتى نُحسن التعامل معها، ولترشيد حواراتنا وجدلنا ونقاشاتنا..

ولو تأمل نقاشاتنا الأسرية وفي العمل وبين الأصدقاء وعلى وسائل التواصل وحواراتنا في وسائل الإعلام.. عند الاختلاف نتهم بعضنا بدلاً من مناقشة الفكرة! دائماً مختلفين ونكاد لا نتفق على شيء، والحقيقة أنّ المشكلة بطريقة تفكيرنا!  فلا يوجد عندنا لغة مشتركة تعبّر عن عيوب وأخطاء تفكيرنا..


([1]) رواه البخاري ومسلم.

هذا المقال مقدمة كتاب “أخطاء التفكير”، ويمكنكم تحميله مجانًا من خلال قسم الكتب.