داء المشيخة

قد يقول قائل: وهل المشيخة داء؟

نعم عندما يتحول طالب العلم إلى شيخ بزِيٍ معيّن، ينتظر من الناس الاحترام والتبجيل، والدعوات للولائم والعطايا، والتصدُّر بالمجالس والمدح والذِّكْر الحسن.. ويشكو انتشار قلة الأدب، ويتباكى على زمان الأدب.

بينما الدعوة مِنْ أُسُسِها: الصبرُ على الأذى، والمحن والابتلاءات، وغِلظة العوام، وتهجّم الحكّام والظلّام.

فلسنا أفضلَ حالاً من أنبياء الله!! والقرآن حاشد بقصص الأنبياء، وذِكْرِ إيذاء أقوامهم لهم، تصبيراً وتثبيتاً لمن تبع سبيلَهم.

فيروى أن أحد الدعاة الكبار المشاهير زار بلدةً فوجد الناس ينتظرونه محتفين  به، محتشدين مرحّبين.

فرجع إلى نفسه متّهماً قائلاً: يجب أن نعيد حساباتنا، فالأنبياء الصادقون كانوا يلقون الأذى!! 

طبعا هذا من صدقه ومراقبته لنفسه، وإلا فالهجرة إلى المدينة كان هذا شأنُها.

لكن الهجرة نقطة في بحر الأذى الذي لقيَه صلّى الله عليه وسلم.

مرةً قال أحدُ الكتّاب المثقفين: لا ينقضي عجبي من اتباع العوام لبعض المشايخ! فو الله خطاب هؤلاء المشايخ لا يقنع عاقلاً!! لكنه الرصيد الموجود في وُجدان الناس لعلماء الدِّين عامة، الذي زرعه العلماء الصادقون، وورثه هؤلاء الدراويشُ المتكسِّبون!!

فبعض المشايخ يقتاتون على ما بذله العلماء الصادقون المضحُّون.

هناك فرق بين مَنْ يحملون الإسلامَ، وبين مَنْ يحملهم الإسلام!!

هناك فرق كبير بين الداعية الذي يريد هداية الناس.. وبين المُدَّعي الذي يريد المكاسب والجاه، والاحترام والتقدير من الناس..

هناك فرق بين مَنْ يعتبر العمل للإسلام مكاسب.. وبين مَنْ يعتبره واجباً عليه أن يتحمّل في سبيلها المصائب..

هناك فرق بين من يعتبر العمل للإسلام مغنَماً، وبين من يعتبره مغرَماً!! وليس مقالي هذا رخصةً وذريعةً للناس لإساءة الأدب مع علمائهم!! 

فالمقال موجّه لإخواني طلاب العلم الصادقين، ولكلِّ مقام مقال، وما يقال لطرف، لا يُقال للطرف الثاني، فالأمم الراقية تحترم علماءَها، لأنهم يساهمون في تنمية العقول والأرواح والأنْفُس..

وقد كتب الطنطاوي قديماً مقالاً نعى فيه على بعض المشايخ ما سماه: (صناعة المشيخة) ويقصد أنها: “صارت علامة على طبقةٍ تأخذ من الناس ولا تعطيهم، وتستجيب لدعواتهم ولا تدعوهم، وتقول لهم ولا تسمع منهم، وسمةً لمن هو غريب عن عاداتهم ومواضِعِهم، صارمٌ في وعظهم، شديدٌ في نصحهم، لا يقبل رداً على كلام، ولا جدالاً في رأي، يتكلم (النحْويَّ)..”

وفي النهاية هذا تذكير لي وإخواني، أن يحملوا همّ الدعوة، ويتحمّلوا في سبيلها ما يلاقون، ولا ينتظروا من الناس جزاءً ولا شكوراً.




دكتوراه ببضع صفحات!!

دور الدراسات العليا الأكاديمية في التجديد

ما زلتُ أذكر أستاذي الذي أشرف عليّ في مرحلة الماجستير، جزاه الله عني كل خير، عندما أمسك بإحدى خطط البحث المقترحة للماجستير: (الخطة: عبارة عن فهرس مبدئيٍ للبحث الذي ينوي الباحث كتابته)، وكانت وقتها حوالي سبع صفحات A4، قرأ الخطة ثم أشار إلى جزء صغير فيها (عدة أسطر) وقال: “هنا عملك!” يقصد: هنا العمل الحقيقي، والباقي تكرار لمن سبقك. تأمّلت تلك الخطة فوجدتُ كلامه صحيح ودقيق، ففي ذلك الجزء الصغير الذي أشار إليه من الخطة، كانت النوازل المعاصرة التي تحتاج إلى اجتهاد جديد.

لقد انتشرت في ديار المسلمين -بفضل الله تعالى- الدراسات العليا التي ينال بها الباحثون الألقاب العلمية (الماجستير والدكتوراه) ثم يترقّون بعدها عبر البحوث المحكّمة والتدريس الجامعي إلى درجة (الأستاذية)، وهو تطبيق عملي لقوله تعالى: (وقل رب زدني علماً) وهي ظاهرة تستحقّ الإشادة والفرح والترشيد، فبحوثُ الدراسات العليا من المجالات المعوّل عليها في الاجتهاد المعاصر والنهوض ببلداننا.

لذلك سأذكر أربع ملاحظات لتساهم الدراسات العليا والبحوث العلمية بنهضة بلداننا

الملاحظة الأولىعلينا أن نشجّع الباحثين على الإبداع والاجتهاد الجديد:

رغم انتشار الدراسات العليا في ديارنا إلا أنها خالية في كثير من الأحيان من أهم مقاصدها وهو: تعلّم مناهج البحث العلمي، في التخصّص الذي اختاره الباحث، وتقديم نتائج وتوصيات نظرية وعملية تسدّ النقص العلمي، وتحلّ الإشكال المعرفي، وتطوّر الواقع الفعليّ، الذي لأجله قام الباحث ببحثه، وينعكس ذلك على الحياة العلمية والعملية، فتتطوّر الأنظمة والأفكار والمنتجات، فتنهض البلاد.

لكن بعض الجامدين حتى ممن يحملون الألقاب العلمية، ويشرفون على الباحثين ويشاركون في مناقشة البحوث -مع الأسف- يُخرجون هذه البحوث عن مقصودها وهدفها ولبّها وفائدتها الحقيقية، وذلك بطريقة مناقشتهم وملاحظاتهم، فيمنعون الباحث من الترجيح أو إبداء الرأي، ويوبّخونه لو ظهرت شخصيته في البحث، بدلاً من تشجيعه على الاجتهاد والإبداع والإتيان بالجديد!! (طبعا هم يزعمون أنهم يريدون أن يربّوا الباحث ويعلموه التواضع واحترام جهود السابقين، لكنهم مثل الذي يريد أن يقوم بعملية للعين ليصلحها فبدلاً من إصلاحها يُعميها!! وهم هكذا يفعلون، فبدل أن يجعلونه يترك التكبر ويتواضع، يجعلونه يترك الاجتهاد والإبداع، ويجمد على أقوال السابقين. لكنّ فِعْلَهم هذا في حقّ الباحث يعتبر جريمة!! لأنهم يقتلون إبداعه.

حتى إنّ أحد (الدكاترة الجامدين) كان يقول: “الترجيح بين أقوال العلماء قلة أدب!!” طبعاً بمعيار هذا الدكتور كلُّ علمائنا -حاشاهم- من قليلي الأدب، فكتبهم طافحةٌ بترجيح مذاهبهم، والردِّ على المخالف لهم من بقية المدارس، أو من يخالفهم ضمن المذهب الواحد. وبهذا المنهج الجامد يفقد البحثُ العلمي فائدته وهدفه، فالأصل في البحث العلمي أن يعالج مشكلة علمية، ويسدّ ثغراً مفتوحاً يحتاج لاجتهاد واختراعٍ وحلّ جديد.

الملاحظة الثانية: ألا ينشغل الباحثون بالبحوث والدراسات التي لا يحتاجها واقعنا:

ولا فائدة علمية ولا عملية منها، ولا نحتاجها في دنيانا ولا تنفعنا في آخرتنا! بل يركّز على المسائل والقضايا التي تحتاجها بلادنا.

لذلك علينا أن نوفّر عناوين للبحوث التي نحتاجها في كل مرافق حياتنا وتخصّصاتنا، بدلاً من تشتّت الطلاب وحيرتهم في اختيار مواضيع لدراساتهم وبحوثهم، فنترك للطلاب الأغرار هذه المهمة الشاقّة، ولا نستثمر جهودَهم بما ينفع بلداننا.

الذي نقترحه: أنّ كلّ قطاع من وزارات الدولة ومؤسساتها، ومؤسّسات المجتمع المدني وحتى القطاع الخاص، أن يكتب ما يحتاجه من موضوعات تحلّ مشاكله وتساعده على التطوير، ويرسل بهذه العناوين أو المشكلات إلى مؤسسة متخصّصة بجمع هذه المسائل، ولتكن -مثلاً- وزارة التعليم العالي، أو (أي مؤسسة حتى لو كانت ربحية تقوم على الإشراف على هذا الأمرفيرجع لها طلبة الدراسات العليا لأخذ العناوين المطلوبة، فنحقّق خدمة متبادلة: للطالب الذي يبحث عن موضوعٍ لبحثه من جهة، وللمؤسسة أو الجهة التي تبحث عن بحوث لتطوير نفسها وحلّ مشاكلها من جهة ثانية، كما يمكن أن ترعى (الجهةُ التي تحتاج البحث) الطالبَ مادياً لينجز لها بحثاً وحلولاً لمشاكلها، التي قد تكلّفه ثلاث أو أربع سنوات من العمل البحثيّ الشاق.

وقبل هذا علينا أن ننشر هذه الثقافة في مجتمعاتنا، فإلى الآن أكثر الناس لا يعرف عن الدراسات العليا شيئاً، ولا عن البحوث النظريّة والعمليّة والإحصائيّة والتجريبيّة، فيظنون الدراسات العليا كتباً تُحفظ كالدراسة المدرسية، لذلك لا يوجد ارتباط بين الجهات التي تحتاج الأبحاث من جهة، وبين طلاب الدراسات العليا من جهة مقابلة!

ولطالما كنّا نتباكى على عدم وجود مراكز بحث في ديارنا، وننشر –متحسّرين- الإحصاءات عن المبالغ الطائلة التي تنفقها الدول الراقية على البحث العلمي، وننسى الجهود المضنية التي يبذلها طلاب الدراسات العليا في بلداننا، مع ما يبذلونه من (وقت وجهد ومال) حتى يُنجزوا أبحاثهم، وهي موارد للأمة مضيّعة، أو غير مستثمَرة -بشكل لائق- على أقل تقدير.

الملاحظة الثالثةالاختصار والتركيز في البحوث والدراسات على موضع الإبداع وحلّ الإشكال:

بدلاً من المباحث الطويلة التي تمهّد وتلخّص كثيراً مما ليس ضرورياً للبحث؟

فكثير من البحوث الأكاديمية ليس فيها إلا الجمعُ، وإعادةُ الترتيب، وفي أحيان قليلة إعادةُ الصياغة والإتيان بأمثلة معاصرة.

يجب أن نعمل على أن تصبح بحوثنا دائماً (مركّزة) بدلاً من رُكام الأوراق التي تخلو من العطاء الجديد؟! فكثير من الكتب الإبداعية التي أحدثتْ ضجةً ونقلة نوعية في الوسط العلمي العالميّ؛ عبارةٌ عن مقالة أو كُتيّب صغير!!

لكننا قومٌ مفتونين (بالكمية على حساب النوعية) كما يقول أستاذنا د. عبد الكريم بكار، فالتفاخر -مع الأسف- بعدد الصفحات لا بنوعية الكتابة والجديد فيها! ولطالما سمعنا أنّ الجامعات العالمية المرموقة تعطي درجة الدكتوراه على بحث صغير الحجم، (عدة ورقات) وأصارحكم أنني كنتُ لا أعرف سببَ ذلك وأستغربُه، (كيف يعطون شهادة أكاديمية عالية لبحث صغير الحجم؟!).

وهنا يأتي سؤال: كيف سنتأكّد أن الطالب تملّك المنهج العلميّ، إذا لم يكتب بحثاً طويلاً؟ الجواب: بما أنّ الباحثَ وصل لنتائج صحيحة، وناقشتْه اللجنةُ العلمية (المتخصّصة) واطمأنوا أنه استخدم منهجاً علمياً سليماً، ووصل به للنتائج التي انتهى إليها، فقد حقّق المقصود، وأضحى باحثاً مؤهّلاً لتطبيق ذلك المنهج العلميّ في بحوث جديدة، واستخراج النتائج التي تثري الحقل المعرفي. فلا نحتاج لتكرار المعلومات التي سبقتْ دراستُها، وليس لنا فيها رأيٌ جديد، وذلك لعدة أسباب أهمها:

1-هدر الموارد:

 كإضاعة وقت وجهد الباحث والقارئ، بغير فائدة تناسب ذلك الوقتَ والجهد المبذول، والورقَ والحبر الذي ينتج عن تكبير (ونَفْخِ) المؤلّفات، حتى إنّ الرفوف تأنّ، والأماكن تضيق، بالمجلدات الكثيرة، وأغلبها نسخٌ وتكرار!

2-ضياع الإبداع وسط التكرار:

البحوث الطويلة تُلزم القارئَ لها أن يقرأ شيئاً مكرّراً معروفاً ومذكوراً ببقية الكتب، إذا لم يتنبّه القارئ ويتجاوز ذلك المكرّر، وبخاصة إذا كان ممن يُؤثر قراءة الكتاب كاملاً!، بل ربما أصابه الملل أو الانشغال فيترك البحث قبل أن يصل إلى (الزبدة) أي: المقصود وهو الاجتهادات الخاصة بالمؤلّف، فتضيع جواهر البحث وآراء الباحث الخاصة بين ركام المعلومات المكرّرة. بينما لو اقتصر الكاتب على الزبدة فقط، وأتى بحججها وأدلتها وناقشها جيداً، لقرأها -لا محالة- كل من يطّلع على البحث.

حتى المتخصّص يعجز عن الاطلاع والإحاطة بالمؤلّفات في تخصّصه، لكثرتها وطولها وتكرارها للمعلومات، فلا يقف المتخصص بسهولة على الفروق بين وجهات نظر المؤلِّفين، فـ”كثرة المصنّفات تعيق عن التحصيل” كما ذكر العبقري ابن خلدون رحمه الله في مقدمته.

3-نفاد جهد الباحث قبل الوصول للمقصود:

 في البحوث المطوّلة عندما يصل الباحث للجزء (الذي يحتاج اجتهاداً جديداً) ربما يكون قد أصابعه الإعياء والملل، فلا يعطي هذا الجزء حقّه، وهو المقصود من بحثه أصلاً!! وقد سمعت أستاذنا د. أحمد الريسوني يقول: مشكلة (مبحث المقاصد) أنه يأتي في نهايات الكتب -غالباً- فيصل له المؤلف وقد تعب، فلا يعطيه حقّه من البحث والتمحيص والتوسّع والإنضاج، وهذا من أسباب تأخّر نضوجِ هذا العلم الجليل أي (المقاصد). فالتركيز على المشكلة البحثية وحلّها، يساهم في تفرّغ الباحث أو المؤلّف لحلّ مشكلة علمية أخرى، ولا ينشغل ولا يستفرغ جهده ووقته وطاقته بتكرار وإعادة صياغة المعلومات القديمة المعروفة.

4-رفع سوية الكتابات العلمية:

 نريد الاختصار في الأبحاث حتى نعتاد التركيز على الإبداع والتجديد، ونتخلّص من تكرار المعلومات في المؤلفات كالآلة الناسخة! نريد الاختصار حتى نخفف من ظاهرة: (الاهتمام والافتتان بالكمية على حساب الكيفية والنوعية الجيدة)، فلطالما سمعنا من يقول مفتخراً: “ألّفتُ كتاباً بلغ كذا وكذا من الصفحات”، ولا يذكر قيمتها العلمية! مع أنّ المنطق يقضي بأنّ (الكمية الكبيرة غالباً ما تكون على حساب النوعية الممتازة)، فالجمع بين الكمية الكبيرة، والجَودة العالية نَدَر أن يجتمعا وبخاصّة في مجال التأليف العلميّ.

الملاحظة الرابعةضرورة نشر الدراسات والأبحاث حتى يستفيد منها الناس:

 فبعد الانتهاء من البحث، ومناقشة اللجنة العلمية للباحث، ونيله الدرجة العلمية (ماجستير أو دكتوراه) لا يجد الباحث داراً للطباعة تنشر بحثَه، فيُرمى البحثُ في المخازن أو يبقى حبيس الأدراج، أو في ملفٍ إلكتروني في حاسوب، لا يستفيد منه أحد! على الأقل انشروه إلكترونياً فالنشر الإلكتروني لا يكلّف شيئاً، وإلا فما فائدة هذا البحث إذا لم يأخذ طريقه للنشر والتطبيق في الواقع.

علينا أن نعيدَ النظر بتفعيل الدراسات العليا، حتى تساهم بنهضة بلادنا، فالدراسات الأكاديمية ذات النوعية الراقية، نكسب منها أمرين اثنين: أولاً: باحثون أكاديميون يحملون مناهج علمية في عقولهم، ويطبّقونها في حياتهم. والأمر الثاني الذي نكسبه: بحوث نوعية راقية تساهم في تطوير واقعنا، حتى نستعيد حضارة أمتنا، والله الموفّق.




التجديد بين المقاصديين والنصوصيين

 إنّ تقدّم وانتشار الفكر الذي ينزع نحو توسيع الحريّات والمساواة ومراعاة حقوق الإنسان وثقافة التعايش والتسامح مع الآخر، والسلم الأهليّ، وتقديم العلم التجريبيّ ونزعة العقلنة.. 

ذلك كلّه أدّى لنفور الإنسان الفطريّ، ممّا يعاكس ذلك أو يخالفه، ممّا تجد بعضه في اختيارات المدرسة السلفيّة المعاصرة، وفي كتب (المدرسة التقليدية) التراثيّة القديمة التي كانت في وقتها في القمّة، مقارنة بثقافة وسلوك الشعوب الأخرى حينها، لكن الزمان تحوّل، وأصبحنا على أعتاب عصر جديد، وما زالت الاجتهادات كما هي! 

ونقول: النفور (الفطري) وليس الانبهار بالغرب لأن الفطرة الإنسانية تنفر مما يخالف العدل والرحمة وحفظ حقوق المستضعفين من النساء والأطفال والعبيد والعناية بالطبيعة والرحمة بالحيوان.. وغيرها من القيم التي ينادي بها إعلان حقوق الإنسان العالمي، بعكس ما يروجه الكثيرون أن المعجبين بثقافة حقوق الإنسان وتلك القيم الإنسانية الراقية مبهورون بثقافة الغالب (الثقافة الغربية). 

ونقول: الإسلام جاء مراعياً حقوق الإنسان بل سباقاً لكثير منها، لكن مراعاتنا لها في بعض الاختيارات والتفسيرات البشرية التاريخية كان متفاوتاً، والوعي البشري تطور جداً وأضحى حساساً جداً تجاه ما يخالف ذلك، وهنا ننادي بمراجعة ما يخالف ذلك في بعض الفروع الاجتهادية، وعدم التمسك بتلك الاجتهادات البشرية التاريخية، وبخاصة أنه يتوفر لدينا اجتهادات أخرى (تراثية) وبعضها معاصر تراعي تلك القيم بشكل أوضح، كما أن القيم الكبرى التي نادى بها إعلان حقوق الإنسان، مشترك إنساني ومحل اتفاق بين الأمم بنسبة أكثر من 80%، وليست حكراً على الثقافة الغربية!! 

وهنا نسارع ونقول: لا داعي لإثارة (الأسطوانة المحفوظة) وهي إن الغرب منافق لا يلتزم بهذه المبادئ مع غيره، فعدم التزامهم لا يسوّغ لنا ألا نراعيها نحن كذلك!! وعدم التزام الآخرين بالعدل لا يبيح لنا الظلم، وعدم التزام الآخرين بالأمانة لا يسوّغ لنا الخيانة والسرقة!!    

 مؤخّراً بدأت تظهر دعوات لتجديد الخطاب الدينيّ، كما ظهرت أصوات تنادي بتجديد أصول الفقه نفسه، وهو (قواعد استنباط الأحكام من الأدلّة الشرعيّة)، لأنّ المدرسة السلفيّة يغلب عليها الأخذ بظاهر الكتاب والسنّة مباشرة، وعدم الخضوع للعقليّة الأصوليّة التعليلية المقاصدية العميقة.

الحل بقواعد المقاصديين في التعامل مع النصوص:

لذلك نرى من معالم التجديد الأساسيّة التي ننادي بها: إحياء فقه وقواعد استنباط المدرسة المقاصديّة التعليليّة، فالفقه هو الفهم، و(مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ) البخاريّ، أي: يفهّمه الدين، ولو كان فهمه ظاهريّاً ميسّراً لكلّ عاميّ لما كان هناك ميزة لمن أراد الله به خيراً، وفقُه الدين. 

وعلى رأس المدرسة المقاصدية المدرسة الحنفية والمالكية، فليس كل حديث صحيح يُعمل به، بل ينبغي أن نعود لكتب أصول الفقه للمذهبين المقاصديين (الحنفي والمالكي) وننشر طريقتهم في التعامل مع الحديث النبوي الشريف، حتى نغلق باب الطعن بكل السنة النبوية المطهرة الذي كان من أهم أسباب ظهوره (برأيي) ردة فعل على المدرسة الأثرية التي جعلت كل حديث – صحيح الإسناد – سنة. 

 من أسباب ازدهار الفكر السلفي:

كان وراء انتشار السلفيّة في العقود الأخيرة الماضية في العالم بسبب تبنّيها من قِبَل الدولة السعوديّة، المدعومة بالثروة النفطيّة، ولبساطة الدعوة السلفيّة، وارتباطها الواضح بظاهر الكتاب والسّنّة، وانغلاق وتكلس ما عداها من الفكر التقليديّ (أشعرية – مذهبية – صوفية) مؤخراً، ذلك كلّه ساهم في انتشار فكر المدرسة النصوصيّة الأثريّة (السلفيّة).

 لكنّ ذلك رافق تشنّجاً وتعصّباً لآراء واختيارات معينة لهذه المدرسة (السلفية)، وجفولاً من المدرسة العقليّة التعليليّة المقاصديّة للأحكام، مع نزعة تشدّد وميل نحو الاختيارات الأصعب أو الأشدّ، أو الأحوط في الغالب، وإلا فللسلفيّة اختيارات فقهيّة ميسّرة، تخالف فيها المدرسة التقليديّة. 

الاتهام بمخالفة الأحاديث:

لكن بعض الجامدين من ذوي النزعة الظاهرية من الذين لم ترسخ قدمهم في علم أصول الفقه (وهو علم آلة الاجتهاد) يقولون: المقاصديون وأهل الرأي يخالفون الحديث، أنترك حديث رسول الله لرأيهم؟!!

 لكن المقاصديين يجيبون: أنتم تخالفون (جيشاً) من الأحاديث والآيات الكريمة، وتتركونها لتُعْمِلوا حديثاً واحداً جاء في حال خاصّة، وهو ما يسمّيه علماؤنا (واقعة عين)، أي: حال خاصّة لها ظروف خاصّة، لا يجوز تعميمها، فلا نعمّم ذلك الحكم الخاصّ الذي جاء في الحديث، ونترك المبدأ العامّ الذي رسّخته مجموعة من الأحاديث والآيات. 

وهذا ما سمّاه الحنفيّة: (مخالفة القياس) أي: مخالفة النصّ الجزئيّ للمبدأ العامّ الذي رسّخته النصوص المتواترة معنويّاً من كتاب وسُنّة، فعندما يأتي حديث آحاد -مثلاً- ويخالف مبدأ عامّاً تدعمه مجموعة نصوص، فيعتبرون حديث الآحاد حديثاً شاذّاً لا يجب العمل به، فليست القضيّة مخالفةً للحديث ومعارضةً له، وهجراً له، لكنّها اجتهادٌ في تأويل ذلك الحديث الذي خالف مجموعة من الأحاديث والآيات الأخرى.

تيارات ضمن التيار الواحد:

وهذا الخلاف قديم يرجع للخلاف بين المدرسة العقليّة التعليلية المقاصديّة، وهم الحنفيّة والمالكيّة والمدرسة النصوصيّة الأثريّة الظاهرية النزعة، وهم الشافعيّة والحنابلة، طبعاً هنا الكلام بالوجهة العامّة والنزعة الغالبة على المدارس الفقهيّة، وإلا فداخل كلّ تيار عريض تيّارات صغيرة، فبين المقاصديّين بعض النصوصيّين، وبين النصّيّين بعض المقاصديّين، وهؤلاء قد يشكّلون اتجاهاً خاصّاً داخل المدرسة الفقهيّة العامّة، كما أنّهم يتفاوتون بالنزعة التعليلية العقلية المقاصدية التي تدل على الفقه وهو الفهم، فالجمود على الظاهر ليس شأن الفقيه بل العوام يفهمون الظاهر، والفقيه الخبير يأخذ بالمقصِد والعلة. 

 وترتيبهم في هذا حسب ترتيبهم الزماني فأعلاهم كعباً الإمام أبو حنيفة صاحب الاستحسان ثم يليه مؤسس المصالح الإمام مالك تلميذ ربيعة الرأي، ثم الإمام الشافعي صاحب الاستصحاب (البراءة الأصلية) وهي أقل تلك المصادر (المفتوحة) عقليةً وحاجة للنظر والاجتهاد، وهو الذي حاول الوقوف في الوسط، لكنه كان أميل للأثريين، ثم الأثري بامتياز الإمام أحمد الذي لم يعده بعض الفقهاء في زمرة الفقهاء! كابن عبد البر في الانتقاء وابن رشد في بداية المجتهد وغيرهم، وأشدّهم نصوصية وظاهرية ابن حزم الذي وقع بأقوال –بسبب ظاهريته- شنّعوا عليه بها، ولم يعتبروا خلافه عند انعقاد الإجماع، وقال قائلهم: (ليس من الحزم الأخذ بقول ابن حزم).

 وهذا لا يعني أنّ النصوصيين أقلّ ذكاء من المقاصديين، بل إنك تجد بين النصوصيين والظاهريين عباقرة أصّلوا ونظّروا لهذه المدرسة كابن تيمية وابن حزم، وإن كانت عقليتهم مقاصدية مصلحية تبعاً للطوفي الحنبلي!

هل نقاطع النصوصيين؟

وهذا لا يدعونا للميل إلى بعض المذاهب وهجر غيرها، فلا يوجد مذهب جمع الصواب كلّه، كما لا يوجد مذهب غلب عليه الخطأ، بل كل مذهب كان عنده إشراقات في بعض الاجتهادات ورؤى عميقة وموفّقة، وفيها توسعة على عباد الله. 

كما أنّ هذه النزعة أقصد: (المقاصديّة والنصوصيّة) هي طريقة تفكير موجودة في كلّ الأديان والمذاهب الفكريّة، في كلّ زمان ومكان، ففيهم من يجمد على نصوص القانون، ومنهم من ينظر لمقاصد القانون وروحه. 

وما حادثة بني قريظة منّا ببعيد حينما (طلب النبيّ ﷺ عدم صلاة العصر إلا في بني قريظة)(1) فبعضهم نظر للهدف والمقصِد؛ وهو الإسراع، فصلّى في الطريق، وبعضهم تمسّك بظاهر الكلام، فلم يصلِّ إلا في بني قريظة، وأقرّ النبيّ ﷺ الفريقين، لمعرفته بأنّ أذهان الناس هكذا منذ القدم وسيبقون إلى قيام الساعة، منهم من ييبحث عن المقصد، ومنهم الذي يكتفي بظاهر الكلام، ومن الطريف أنّ ابن حزم قال: (لو كنت معهم ما صليت إلا في بني قريظة)، وأنّ ابن تيمية قال: (الصواب مع من صلى في بني قريظة)، وبذلك يتصالحان مع نزعتهما النصوصية. 




المنقِذ من الجمود الديني

الجمود الفكري والعلمي والاجتهادي أحد أسباب تخلفنا وحتى تنهض أمتنا من جديد لا بد من كسر قيد الجمودولكي نتخلّص من الجمود وندخل في التجديد والاجتهاد المطلوب أقترح أن نقوم بالخطوات الأربعة الآتيّة

الخطوة الأولى: ترك مهاجمة من يترك التقليد:

 ليت الجمود يقتصر على نفسه، بل –مع الأسف- يتناول كلّ من تجرّأ واقتحم غمار الاجتهاد، فلا يتلقّى تشجيعاً كما هو المفروض أنه الطبيعيّ والمنطقيّ، بل يُواجه بالاستهزاء والسخريّة والهجوم والاتهام. لا بدّ أن نترك عقليّة الهجوم على كلّ من يخالفنا ونتّهمه في دينه وعقله وانتمائه وولائه، فهذا: (مبهور بالغرب)، وذاك (يحبّ الظهور) لذلك يخالف الرأي السائد (المقرّرات)، والآخر (مشبوه)، وفلان (لم يأخذ عن الراسخين)، وعلّان (غير متخصّص)، و(دع عنك إرضاء اليهود والنصارى)، ودع عنك (الأقوال الشاذّة)، و(مَنْ قال بهذا قبلك؟!)، وهذا (مخالف للجمهور)، وهذا (خَرْقٌ للإجماع)، وذاك (عميل)، وهذا (دَرَس أو درّس أو عاش في الغرب).. مع أنّ كثيراً من رموزهم تنطبق عليه بعض الصفات الماضية، لكنّه لم يخالفهم، فلا مشكلة، أمّا لو خالفتهم فسيرمونك بكلّ تهمة، وسيلبسونك أيّ تهمة تناسبُك.. خالفْهم فقط وسترى العجب.. من قائمةِ التُهَمِ المجهّزة مسبَقاً. صحيح أنّ الصواب من الجماعة أقرب، لكن هذا ليس بإطلاق، فكم رجّح علماؤنا قولَ عالم بخلاف الجمهور، وكان قوله هو المخلّص والموئِل في كثير من النوازل، فميزان الحقّ ليس بالإحصاء والأغلبيّة، فذاك مجاله بالانتخابات السياسيّة وليس طريقة للترجيح العلميّ! وإلا لكان الترجيح بحسب الأغلبيّة دائماً، وهذا ليس سبيل المحقّقين، نعم يمكن اللجوء للأغلبيّة عند تكافؤ الأدلّة، أمّا عند رجحان الدليل والحجّة على غيره، فندور مع الدليل أينما دار. أمّا عن إرضاء الآخَر من اليهود والنصارى والغرب والآخرين كلّهم، فهؤلاء (الآخرون) متقدّمون وسعداء ومشغولون بأنفسهم، راضون بواقعهم، وهم ليسوا متآمرين علينا يريدون فَرْضَ حلولهم التي نجحت في مجتمعاتهم، فهم ليسوا حقول تجارب ثم يصدّرون لنا ما نجح عندهم، وهم لا يهتمّون بنا ولا بأفكارنا، إلا بمقدار ما يمسّ مصالحهم، ويؤثّر عليهم، بينما نحن من يذوق ويلات أفكارنا، وجمودنا، ونحن مَنْ تخلّفنا عن فقهائنا وعلمائنا العظام، الذين كانوا يجتهدون ويجدّدون، ويغيّرون أقوالَهم، ويخالفون شيوخَهم، ويتّبعون الحجّة والبرهان من أيّ إناء خرج، فنحن بحاجة للحكمة من أي إناء خرجت. يجب التعويل على الحجّة والبرهان في نقاش من يجتهد، ولا نترك القول والاجتهاد الذي قدّمه، ونهاجم القائل: هل جمعتَ شروط المجتهد؟ هل حفظتَ كذا؟ هل فعلتَ كذا؟ بدلاً من مهاجمة القائل واتهامه بكلّ نقيصة ناقشْ فكرتَهُ وأدلّتَهُ، اعتبره لم يملك شروط الاجتهاد التي تشترطها، لكنّه استطاع أن يتعب ويأتي بقولٍ ويستدلّ عليه، ويأتي بالحجج والأدلّة، وقدّم وجهة نظره في اجتهاده ذاك، فلنناقش الفكرة ولنترك المتكلّم.

الخطوة الثانية: نشر ثقافة الاجتهاد والتجديد: 

لن نستطيع الإبداع العلميّ، وأن يكون لنا شهود حضاريّ في عصرنا، حتّى نحطّم الأصنام الفكريّة المزيّفة التي نعكفُ عليها، وننشر بدلاً عنها أفكاراً صحيحة، قابلة للتطبيق، ونناضل في نشرها حتّى تضحي مألوفة معروفة، وتأخذ حقّها من التطبيق والانتشار. فالفكرة تأخذ قوّتها من صحّتها وحجّتها وأدلّتها: ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [البقرة:١١١] أوّلاً، ثمَّ من صلاحيّتها للتطبيق في الواقع ثانياً، ومن مدى انتشارها ثالثاً، فما فائدة فكرة ممتازة غير معروفة؟!! ومن تطبيقها عمليّاً رابعاً، وإلا فستبقى فكرة لا أثر لها في أرض الواقع. وآفة العلم الجمود والتحجّر والانغلاق، وكثيراً ما نبني أسواراً عالية ونسجن أنفسنا داخلها، فمن أين يأتي التجديد؟ فإذا كنّا التزمنا بالمدرسة الفكريّة التي نشأنا فيها بحكم الظروف، ولم نخترها بعد دراسة مقارنة، وإذا كنّا لا نقرأ إلا لنفس المدرسة، ولا نسمع إلا لها، ولا نزور إلا رموزَها، ولا نصاحب إلا منها، من أين سنسمع الرأي المخالف أو الحجّة المُغايرة؟!! بينما علينا أن نربي (طلّاب علم) باحثين، يتعشّقون الأسئلة الجديدة، ويجِدّون بالبحث والتفكير في حلّها، يتقنون فنّ البحث، وحلّ المشكلات، والحفر المعرفيّ، والإتيان بحلول (من خارج الصندوق) كما يُقال، أي: من خارج المقررات التي يحفظونها، أو من داخل الصندوق، إذا كان ما في الصندوق صالحاً لزماننا، فالمشكلة لا تبرز أصلاً لو كان القول القديم المعروف المنتشر يُنجِد ويُسعِف ويَصلُح، المشكلة تبرز عندما يصبح ما حفظناه يلائم زماناً سابقاً، والواقع قد تغيّر مائة وثمانين درجة! ويلزمنا أن نضع منهاجاً ينتج بنهايته طالبَ علمٍ مؤهّلاً للاجتهاد بدرجاته المختلفة، وتقف درجة الطالب الاجتهاديّة مكان وقوفه، بحسب قدرته وإرادته وهمّته، بمعايير دقيقة وواضحة، وللإنصاف فقد سبقنا الشيعة الإمامية في هذا الأمر. أمّا أن نربيّ ببغاوات يكرّرون ما حفظوه، فالببغاوات لا يصلحون إلا للعَرْض والتندّر. وقد قدّم الفاروق عمر رضي الله عنه أعظم نموذج لفقيه يراعي الواقع ويتفاعل معه، ويقدّم المصلحة المعتبَرة شرعاً بما لا يُعارض مقاصد الشرع، فأوقف العمل بعدّة نصوص قرآنيّة، مراعاة للواقع، الذي تبدّل برأيه رضي الله عنه، والحقيقة أنّ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يوقف العمل بالنصّ بالتشهّي بل إنّ شروط العمل بالنصّ لم تعد تتحقّق، والواقع الذي جاء النصّ له قد تبدّل. ولو كان بعض الجامدين في زمنه لأنكروا عليه ترك العمل بالنصوص! وكثير من فقهائنا رووا أحاديث وخالفوها في اجتهاداتهم، لأنّهم قدّموا نصوصاً أخرى عليها، مراعين مقصد الشارع الحكيم، والمبادئ العامّة التي رسّختها النصوص، فعلوا ذلك كلّه باجتهادهم ورأيهم. كما فعل الإمام مالك رحمه الله في أحاديث رواها في الموطأ ولم يعمل بها، ومثله الإمام محمد صاحب أبي حنيفة الذي روى الموطّأ، وهذا مشهور معروف في كتب الفقه التي تذكر الأدلّة ووجه الاستدلال، حيث يسوقون القول ويذكرون الأدلّة التي أخذوا بها ورجّحوها، كما يذكرون الأدلّة التي خالفوها والردود عليها

الخطوة الثالثة: الاستفادة من أطروحات المفكّرين والباحثين المعاصرين: 

من المفيد أن ينظر المتخصّصون في الفقه في الاجتهادات المعاصرة الجديدة، وبخاصّة في آراء (المفكّرين) من غير المتخصّصين في الفقه، فهؤلاء المفكّرون أقرب لروح العصر والواقع والعُرف البشريّ، وأكثر انعتاقاً من قولبة وتأطير الاجتهادات القديمة، التي يغلب عليها ثقافة تلك العصور، فليأخذوا من اجتهاداتهم المعاصرة ما يرونه صالحاً، ثمَّ يؤصِّلونه ويذكرونه كاجتهاد معاصر.. فعند المفكّرين منجَم غنيّ من الاجتهادات المعاصرة الممتازة، كثير منها مؤصّل، وبعضها ينقصها التأصيل، فكثير من المفكّرين لا يصبرون على الـتأصيل، وربما بعضُهم لا يتقنه، وقد كان الفاروق عمر رضي الله عنه يستعين بالشباب من صغار السنّ، يعجبه حِدّة ذكائهم في حلّ المشكلات، فلماذا نزهد نحن بأقوال غير المتخصّصين من الأذكياء وأصحاب الرأي؟! ومن البدهيّ هنا أن نقول: كلّ من يجتهد يخطئ، فليست كلّ أفكارهم صحيحة بطبيعة الحال. لكن المثقف المتخصّص بتخصّص ما قد يرى آراء فقهية في مجال تخصصه تكون موفقة ومناسبة لروح العصر والدين، أكثر من رأي الفقهاء القدماء، لأن الواقع تغيّر، وظهرت فيه تفاصيل لا يحيط بها عادة إلا الفقيه المعاصر، ومن التوفيق أن المجامع الفقهية تستعين بالمتخصصين في اجتهاداتهم المعاصرة

الخطوة الرابعة: نشر ثقافة الاجتهاد المقاصدي: 

هذا لا يعني فتح الباب لكلّ من هبّ ودبّ، ليقول في دين الله برأيه وهواه، دون علم وبرهان، لكنْ لو قال مثقّف أو مفكّر -غير متخصّص- رأياً دينيّاً، فعلينا أن ننظر فيه بحياديّة كاملة، ولا نردّه لمجرّد كونه خرج من غير متخصّص، فالعبرة هنا بطريقة الاستدلال والحجّة والبرهان، (فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ). نحن ندعو المتخصّصين إلى أن ينفتحوا على كلّ الأقوال والاجتهادات، قديمها وحديثها، ما كان ضمن المذاهب الأربعة، وما كان خارجها، المهمّ أن يكون ممّا نُقل إلينا مع دليله وحجّته، وعندها لا يهمّنا مَنْ القائل؟ بما أنّ القولَ ودليلَه أمامنا، نستطيع تأمّله ووزنه بميزان العلم والحُجّة والبرهان. فالمطلوب الانفتاح على كلّ الاجتهادات، وأن يجتهدوا بما يناسب روح العصر، مراعين مقاصد الشارع الحكيم، والقيم العامّة، والمبادئ القطعيّة، فهذا هو لبّ الدين وبه يكون صالحاً لكلّ زمان ومكان. أمّا النصوص التفصيليّة فقد راعت الظروف الخاصّة زماناً ومكاناً وحالاً، فالمهمّ الحفاظ على النسق العام والمقاصد القطعيّة والمبادئ الراسخة، وعدم تضييع المبادئ العامّة لنصّ جزئيّ جاء في حال خاصّة. هذه خطوات أربعة لعلها تساهم في طريق التخلّص من الجمود والدخول بالتجديد المنشود، ولعل بعض الباحثين يساهمون في خطوات أخرى حتى تكتمل الرؤية ويتضح المنهج. والله من وراء القصد




التجديد بين مطرقة التقليديين والسلفيين!!

أحد أهمّ أسباب تخلّفنا عن عصرنا هو تخلّفنا عن ديننا، فإسلامنا جاء مرناً متجدّداً صالحاً لمواكبة الزمان والمكان، فجمدنا عند آراء السابقين، كأنّها وحي منزَل، فأنتجنا متعصّبين جامدين كما نرى في كلّ ميدان علميّ، فالجمود في كلّ التخصّصات والصناعات، ليس مقتصراً على التخصّص الشرعيّ فقط، فثقافة إبداع حلول جديدة، ما زالت تحبو في مجتمعاتنا!
وإن كان التقليد والجمود في المجال الشرعيّ أكبر، لاستخدام القامعين- والصادّين عن الاجتهاد- لسلاح الزجر الدينيّ: أتريد تحريف دين الله؟ أتريد الابتداع في الدين؟ أأنتَ خير من الأئمة السابقين؟
فأصبح خطابنا الإسلاميّ بأطيافه: السلفيّ والتقليديّ لا يناسب واقعنا الذي تغيّر عن السابق بما لم يخطر على قلب بشر! فكيف نحتكم في زماننا لأقوالٍ دينيّة اجتهاديّة كُتبت لزمانٍ الفرقُ بينه وبين زماننا كبير؟!
كما أنّ الغالب على خطابنا الدينيّ الأقوال المتشدّدة التي تميل للانعزال عن الأمم الأخرى والانسحاب من الحياة، والجفول من كلّ جديد!
 وسأتكلم هنا عن المدرستين المسيطرتين على الساحة الإسلامية في أيامنا، المدرسة التقليدية والمدرسة السلفية:

أولاً: هيمنة الخطاب التقليديّ:

يسيطر الخطاب التقليديّ الذي يحصر الفقه بالمذاهب الأربعة، والعقيدة بمذهبَين (الأشعري والماتوريدي)، ويتفاوتون بتعلّقهم بالتصوّف بتدرّجاته ومدارسه، ويغلب عليهم التقليد، ويبتعدون عن الاجتهاد والترجيح.
   وهنا للإنصاف علينا أن نذكر أهم ميزات المدرسة التقليدية: أنهم حفظوا لنا الدين ونقلوا اجتهادات السابقين وكان منهم المفتي والواعظ والمربي والعالِم الذي ينشر العلوم الشرعية المختلفة، وعليهم درسنا ومنهم نهلنا أصول العلوم الشرعية، وهم غيورون على الدين متمسّكون به مدافعون عنه، لكن ما نأخذه عليهم أنهم يجمدون على أقوال السابقين.
ومع الأسف أغلب تربيتنا العلميّة والفكريّة تقوم على التلقين والحفظ، وتصبّ في ثلاثة مهام، كلّما أتقنها الطالب)الذي سيصبح عالماً يكون مقدَّماً وراسخاً ((عندهم:
1- كيف تحفظ المقرّرات؟ 
2- كيف تجتهد بنشرها وتتفنّن في ذلك؟
3- كيف تدافع وتنافح عن تلك المقرّرات؟
وتلك المقرّرات ما هي إلا اختياراتٌ من أقوال متعدّدة، فهناك مدارس ومذاهب أخرى، لا تُدرس تلك الأقوال أصلاً، بل إن دُرست فلا تُدرس بإنصاف، فكثيراً ما يأتون بالأقوال غير المعتمدة، ولا ينقلون أدلّتها كلّها، فيظهر قول المدرسة الأخرى ضعيفاً هزيلاً ثمَّ يردّون عليه، فيُورِث ذلك طالبَ العلم تعصّباً لمذهبه الذي درسه.
وهذا ما يسمّونه في المغالطات المنطقيّة: (مغالطة رجل القَشّ)، حيث تُصَوَّر الفكرةُ تصويراً هزيلاً كرجل القشّ، فيسهل حرقه والقضاء عليه! بينما الفكرة الحقيقية تكون أقوى من (رجل القشّ) بمرّات وكَرَّات، لكن لو صوّروها على حقيقتها لعجزوا عن إحراقها، أو الردّ عليها أو نقدها! فيلجؤون لمغالطة (رجل القشّ).
 لذلك من المتعارف عليه في المنهج العلميّ، أنّ الأقوال تُنقل من كتب أصحابها، لا ممّن نقل عنهم، لاحتمال الخطأ بالنقل، أو الوهّم بالفهم أو التحيّز وعدم التثبّت، أو غيرها من العلل والآفات.
وكان من أهم مظاهر المدرسة التقليدية حصرهم للفقه بالمذاهب الأربعة.

1-حصر الفقه بالمذاهب الأربعة:

أمّا حصر المذاهب الفقهيّة المعتبرة بالمذاهب الأربعة، فتلك أيضاً قضيّة أضرّت بالفقه الإسلاميّ عموماً، فالمذاهب الأربعة لم تستوعب كلّ الاجتهادات، كما أنّها لم تغطِ الوجوه الخلافيّة المحتمَلة للمسائل كلّها، والواقع أكبر دليل على ذلك، فهناك أوجه خلاف خارج المذاهب الأربعة، خلافاً لمن يزعم أنّ المذاهب الأربعة تقاسمت وجوه الخلاف الذي تحتمله المسائل!.
صحيح أنّ بعض المجتهدين من أتباع المذاهب حقّقوا ودقّقوا، لكن ضمن المذهب، ونادراً ما يخرجون عن أقوال الإمام، ولو خرجوا لما كان خروجهم مرحباً به عند كثيرين، فمثلاً: الإمام الوليّ العراقيّ الشافعيّ غضب من ترجيحات الإمام النوويّ الشافعيّ (التي خالف فيها أقوال الإمام الشافعي) وقال: “وَنَحْنُ شَافِعِيّة لَا نَوَوِيّة” لكن رغم ذلك أصبح الإمام النوويّ مرجّحاً ومحرّراً ومحقّقاً في المذهب الشافعيّ.
فحَصْر المذاهب المقبولة بالمذاهب الأربعة نفعها كثيراً، حيث تركّزت عقول العلماء فيها، فخُدمت هذه المذاهب الأربعة، ولكن ذلك أضرّ بغيرها (من المذاهب والأقوال) واندثر كثيرٌ منها.
كان الإمام الشافعيّ رحمه الله يقول: “الليث أفقه من مالك، إلا أنّ أصحابَه لم يقوموا به”.
 كما أنّ حَصْر مَنْ تأهّل للاجتهاد بمذهب من تلك المذاهب الأربعة، ضيّق إمكاناته كثيراً، كالحصان القويّ الذي تَربِط قدميه وترخي له الوثاق قليلاً، بحيث تسمح بفرجة قصيرة بين أقدامه، فتحرمه من الانطلاق، وتجعله يمشي ببطء شديد بسبب قيوده، وهو المؤهّل أن يجري ويسابق الريح! وكذلك بعض العلماء الذي تقيّدوا بالمذاهب، لعلّ بعضهم كان إماماً ربما يفوق إمامه مؤسّس المذهب بالاجتهاد والرأي.
لكنهم حَجرُوا عليه وقالوا: لا يحقّ لك الاجتهاد المطلق، أي مباشرة من الكتاب والسنّة بقواعدك الاستنباطيّة التي تختارها، بل لا بدّ من التقيّد بقواعد إمام المذهب، ولا يجوز لك مخالفة الإمام، بل تستنبط أقوالاً وتستخرجها من كلام الإمام!! وهو ما يُعرَف بالتخريج على قول الإمام.
والمشكلة المعاصرة التي نواجهها أنّ الواقع ضاق بأقوال المذاهب الأربعة، ولم تعد أقوالهم تسعف الواقع، واحتجنا إلى الخروج على أقوالهم إلى بعض اجتهادات غيرهم من السلف أو المعاصرين! لكن الخارج عن المذاهب الأربعة لا يسلم من الهجوم عليه، لأنّه خالف المذاهب الأربعة! الذين كثيراً ما يسمّونهم: (الجمهور)، بل بعضهم يسمّي اتفاقهم: (إجماعاً)، عملياًّ لا نظريّاً، فلا يقول: (المذاهب الأربعة) إذا اتفقوا يعدّ اتفاقهم إجماعاً لا يجوز الخروج عليه، لكنّه عمليّاً هكذا يفعل، فمن يخالف ما اتفق عليه المذاهب الأربعة، يقولون له: أنت تخالف (الجمهور) ومن يخالفهم فقوله (شاذّ مردود)!
مع أنّنا نقول: لو كان أئمة المذاهب الأربعة في زماننا لغيّروا من اجتهاداتهم، لتغيّر الواقع.
لكن الجامدين يرمون كلّ مخالف للمذاهب الأربعة بالشذوذ ويحذّرون منه، كأنّ الله تعبّدنا بهذه المذاهب فقط!
والجمود على أقوال السابقين يعطيها عصمة وقدسيّة لا تجوز لغير الوحي، كما أنّها تنافي أنّ الوحي لا تنقضي عجائبه عبر العصور!!
ناقشتُ مرّة أحد أساتذتي الراسخين في موضوع: (فتح باب الاجتهاد المغلَق)، فقال: “لا تتعب نفسَك بهذا الموضوع واجتهد، لا أحد يمنعك!”
وصدق أستاذي (إلى حدٍّ ما) فهذا ما يفعله بعض الفقهاء الراسخين، وبخاصّة في المجامع الفقهيّة، والكتابات الفقهيّة المعاصرة، والدراسات الأكاديميّة العليا، لكن عدم تعميم هذه الفكرة، أعني: (فتح باب الاجتهاد لكلّ من يمتلك المؤهّلات الممكنة والمعقولة ويبذل وُسْعه في اجتهاده) وتشجيع الجميع على ذلك، وترك الشروط التعجيزيّة، أقول: إذا لم نفعل ذلك فنحن نحرم أنفسَنا من طاقات كبيرة وجبّارة، فلو فتحنا الباب أمام المؤهّلين، وشجّعناهم لقدّموا لنا حلولاً للكثير من الإشكالات.
تجدر الإشارة هنا إلى (الشروط التعجيزيّة للمجتهد[1]) التي وضعها المصنّفون (في زمن الجمود الفقهيّ) وأدعو للعودة إلى زمن الازدهار الفقهيّ في القرون الخمسة الأولى، (وإن كان هناك طفرات مشرقة في القرون التي تلتها، لكنّها كانت كالاستثناء الذي يؤكّد القاعدة).
 

2-تكريس التقليد:  

تم تكريس ثقافة التقليد عبر قرون (من القرن السادس الهجري إلى القرن الثاني عشر الهجري تقريباً)، حيث بنوا للتقليد منظومة فكرية متكاملة يشدّ بعضها بعضاً، من وجوب تقليد أحد المذاهب الأربعة، وإغلاق باب الاجتهاد، واعتبار الأخذ من أكثر من مذهب تلفيقاً غير مسموح به، والطعن بمن خالف هذا؛ بل السعي به عند الحكام وسجنه، وإغراء العامة بالاعتداء عليه، وربما وصل الأمر إلى السعي في قتله. 

واعتقاد أنّ حل كل مشاكلنا والإجابة عن تساؤلاتنا موجود ومسطور في كتب التراث، لكن مشكلتنا بعدم العلم والاطلاع على كنوز التراث! فالأجوبة للتحديات المعاصرة كلها موجودة تحتاج من يستخرجها من كتب التراث.  

3-الشروط التعجيزيّة للاجتهاد: 

    يمكن أن نتفهّم سبب إغلاقهم باب الاجتهاد بعد القرن الخامس، وذلك بسبب عدم وجود نوازل جديدة تُذكَر، لم ينصّ على حكمها القدماء، فالعصور تكاد تكون عصراً واحداً مكرّراً، لا جديد فيها!! 

ففي عصر الازدهار الفقهيّ (القرون الخمسة الأولى) تفنّن فقهاؤنا بالاجتهاد والتصنيف والنصّ على حكم كلّ مسألة واقعة، بل تعدّوا واقعهم إلى افتراض مسائل لم تقع وأجابوا عنها، ومرّت عدّة عصور وهم يصنّفون، ثمَّ جاء زمن جمع هذه المادّة العلميّة وترتيبها وتصنيفها (زمن المتون)، فأغلقوا باب الاجتهاد الجديد، وهاجموا كلّ من حاول فتح ذلك الباب، وكان من وسائلهم في إغلاق ذلك الباب (الشروط التعجيزيّة) التي اشترطوها لمن يريد بلوغ (درجة الاجتهاد)، بينما كان الأصل أنّ كلّ فقيه مجتهد، فبمجرّد أن تكون فقيهاً فأنت مجتهد في استخراج الأحكام، حتّى اشترطوا الاجتهاد في المفتي والقاضي وحتّى الحاكم! ممّا يدلّ على أنّ صفة الاجتهاد ينبغي أن تكون منتشرة جدّاً.

ومما كرّس هذه الفكرة سيطرة سوء الظن بزماننا على العقل المسلم فدائما ما سبق خيرٌ مما سيأتي!

4-سوء الظنّ بزماننا: 

 مع الأسف بقيت أدبيّات ورواسب هذا الجمود إلى أيّامنا هذه، فلو سألت عن مجتهد في زماننا لضنّوا أن يشيروا إلى أحد!! فهل خلا زماننا من المجتهدين؟! 

الحقيقة لا، لم يخل من مجتهدين، ففي زماننا الكثير من المجتهدين، وهم يمارسون الاجتهاد بتفاوت، بين درجات الاجتهاد (مطلق، مقيّد، بمسألة، بترجيح، بفتوى) لكنّها الصورة النمطيّة التي رسموها في مخيّلتنا للمجتهد الذي يحوز (منصب الاجتهاد!) فلا تنطبق على أحد!! 

كما أنّ سوء الظنّ في زمان كلّ كاتب أو متكلّم سمة عامّة، والحنين للماضي المتخيّل وليس الحقيقيّ صفة عامّة في المتكلّمين والكتّاب، ولو رجعت إلى قدماء المصنّفين لوجدت ذمّ زمانهم والترحّم على السابقين، فمن هم أولئك السابقون إذا كان كلّ جيل يعيب زمانه!! وهذا من زمن الصحابة رضوان الله عليهم!! 

الحقيقة أنّ كلّ زمان فيه الخير وفيه الشرّ، لكنّ الإنسان من إنكاره للواقع وتشوّقه لعالم المثاليّة (غير الموجود أصلاً) يهرب إلى المستقبل (المأمول)، أو الماضي (الجميل)! 

وقديماً قالوا: (المعاصرة حرمان) وقالوا أيضاً: (المحروم من حُرم بركة أهل زمانه)، لكنّ العاقل يعرف قدر الرجال، فلا يحرمه القرب المكانيّ (مزمار الحيّ لا يُطرب) أو القرب الزمانيّ (المعاصرة حرمان)، فكثير من الأئمة ربّما كانوا في زمانهم لا يسمّونهم أئمة، ثمَّ أطلقوا عليهم لقب (الإمام) في العصور اللاحقة، والواقع أنّ عصرنا أفضل من العصور السابقة، من حيث انتشار العلم والوعي والقراءة والكتابة والتديّن الواعي، وتقلّص مساحة الخرافات والشعوذة والجهل والتقليد. 

المنطق يقول: كلّ عالم يأتي بعد من سبقه، من المفترض أنّه اطلع على آخر إنجازات السابقين واكتشافاتهم وتطويراتهم، وهو بدوره يضيف عليها، فينبغي أن تكون معلوماته أنضج ممّن سبقه. 

 ولو رجعتَ إلى سِيَرِ أئمّة الاجتهاد ستجد أنّهم يتناقشون ويغيّرون آراءهم بعد الاقتناع، وبعضهم يغيب عنه نصُّ حديث، وبعضهم لا يستحضر آية قرآنيّة في الموضوع الذي يتحاورون فيه، فيذكّره الآخرون بالآية، ويعترف بعضُهم بضعفه في مجال ما (من أدوات الاجتهاد الأساسيّة) مثلما روي عن الإمام الشافعيّ أنّه طلب من تلميذه الإمام أحمد أن يساعده ويصوّب له ويذكّره لو خالف حديثاً نبويّاً، ويقول له: (أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فاعلموني حتى أذهب إليه، كوفياً كان أو بصرياً أو شامياً)(1) ولم يعترض أحدٌ على الإمام الشافعيّ رحمه الله ويقول له: فكيف تجتهد؟ وكيف تغيّر مذهبك؟ وكيف تخالف أستاذَك الإمام مالكاً؟ بل كيف تتجرّأ وتكتب ردّاً عليه!! إلا ما كان من بعض متعصّبي المذهب المالكيّ ممّن تعرّض للإمام الشافعيّ رحمه الله بالضرب المبرّح الذي تسبّب بموته رحمه الله! 

 فهل نحن في زماننا نقتدي بمن لم يعترض على الشافعيّ رحمه الله؟ أم نحن أشبه بذلك الأحمق الذي قتل الإمام الشافعيّ رحمه الله؟ 

كم نقتل من أئمة في زماننا، بمناهجنا التعليميّة السقيمة؟ كم نئِد من موهبة بأسلوبنا القاتل في معاملة من يجتهد ويحاول الإتيان برأي جديد؟! 

5-آفة كتب المناقب: 

وهنا يجب التنبيه إلى أنّك إذا أردت أن تنظر في سير العلماء المجتهدين وحياتهم وصفاتهم ومؤهّلاتهم العلميّة، فعليك أن تنظر في غير كتب (المناقب)، فتلك الكتب آفتها أنّها تقتصر على (المناقب)، وغالباً ما تتساهل في الروايات والمبالغات التي تجعل المترجَمين أقرب إلى الملائكة منهم إلى البشر، ممّا يخرجهم عن واقعيّة القدوة التي يمكن التأسّي بها، فالمباريات كانت حامية الوطيس بين أتباع المذاهب في جمع (مناقب أئمتهم) والحقيقة –مع الأسف- لا تُسعِف في مباريات ومزايدات (مدح الأئمة)، فإذا كان إمام المذهب المخالف يصلّي نصف الليل، فسنجعل إمامنا يصلّي الليلَ كلّه، وإذا كان إمامهم يفعل كذا، فسنأتي بروايات تجعل إمامنا يفعل أضعافَه، وإذا كان إمامهم يحفظ كذا فسنروي أنّ إمامنا يحفظ كذا وكذا أضعاف من ينافسنا. 

لكنّ الذي يقرأ شروط المجتهد عند الإمام الغزاليّ رحمه الله في المستصفى – مثلاً – يرى الشروط المقبولة والمعقولة للمجتهد. 

كما أنّ الصواب أنّ الاجتهاد يتجزّأ، فيمكن للباحث أن يجتهد في مسألة أو مجموعة مسائل، أو في باب فقهيّ ويبلغ فيه مرتبة الاجتهاد، وهذا ما يمشي عليه كلّ الباحثين في الدراسات العليا في أطروحاتهم العلميّة، أو بعبارة أصحّ: هذا ما ينبغي أن يمشي عليه كلّ الباحثين في بحوثهم. 

المشكلة أنّنا بإغلاقكم باب الاجتهاد، لا يلتفت لكلامنا إلا الصالحون، أمّا من نخشى اقتحامه لهذا الباب من غير المؤهّلين، أو من يريدون هدم الدين من داخله، فلن يلتفت إلى كلامنا أصلاً، والواقع أكبر دليل، فنحن -عمليَاً- نمنع الصالحين والمتخصّصين، وعدم وجود الاجتهادات الجديدة التي تراعي الواقع، تدعو الناس لجعل الفقه الإسلاميّ وراءهم ظهريّاً. 

كما أنّ عدم صلاحيّة بعض الاجتهادات القديمة للواقع تدفع الحكّامَ ورجال القانون لاعتماد أنظمة معاصرة غير إسلاميّة! 

فلندعُ لفتح الباب للاجتهادات الجديدة، ولا نخشَ، فدين الله محفوظ، ((فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)) [الرعد:١٧]. 

ثانياً: انتشار السلفيّة الأثريّة:

بداية لا بدّ من تسجيل الإعجاب بالمدرسة السلفيّة التي خفّفت كثيراً من التعصّب المذهبيّ، وفتحت باب الاجتهاد، لكنّنا نأخذ عليها أنّها اقتصرت على منهج الحنابلة والمحدّثين الذين يغلب عليهم الظاهريّة في التعامل مع النصّ، وأهملت السلفيّةُ الاجتهاد المقاصديّ الذي انتهجته مدرسةُ أهل الرأي (الحنفية والمالكية)، كما أنّها تعصّبت لما رجّحته من المسائل الخلافيّة! فوقعت فيما ذمّته في غيرها!
يقولون: (لا تقل رأياً ليس لك به سلف)، وقد سألتُ عن هذا أستاذي الدكتور محمد الزحيليّ حفظه الله، فقال: “هذا القول ليس له سلف!”.
فجاءت المدرسة الأثريّة ذات المزاج الظاهريّ، وأعملت النصوص التي اعتبرها الفقهاء مخصّصَة أو مقيَّدة أو منسوخَة أو شاذَّة، لأنّها تخالف المبادئ العامّة التي جاءت النصوص الأخرى لترسيخها ومراعاتها، ودون مراعاة للسياقات العامّة التي رسّختها النصوص الكثيرة، فأصبح فقههم -غالباً- غير منضبط بمقاصد ومبادئ عامّة، فالأحكام عندهم تعبّديّة ليست معلّلة، فلا ينظرون لعللها ومقاصدها.
فهي تجعل النصوص التفصيليّة رائدَها، و-غالباً- لا يقومون بوضعَ نسق عام يضبط النصوص، بل يتعاملون مع كلّ حديث كأصل قائم بذاته، وبالتالي ففيه قوّة على معارضة غيره من المبادئ والقواعد العامّة! التي رسختها نصوص كثيرة.

 بخلاف المدرسة التعليليّة المقاصديّة التي تجتهد في وضع أنساقٍ وقواعد، يستخرجونها من علل النصوص ومقاصدها، ثمَّ يجعلونها ضابطاً يرجعون له في فهم النصوص الجزئيّة الظنيّة الثبوت أو الدلالة، التي تخرج عن السياقات والمقاصد، فيقدّمون العمل بالقواعد العامّة على النصوص الجزئيّة التي تعارضها، وليس ذلك بالتشهي والتحكّم بل حسب اجتهادهم في فهم النصوص وعللها ومقصِد المشرّع.
طبعاً هنا لا نطالب بتجديد كلّ شيء، ففي الشرع أحكامٌ نصّ عليها الشارع الحكيم بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، أو قريبة من ذلك، وهي ما لا يتغيّر حسب الزمان والمكان، وهي من الثوابت التي لا يجوز المساس بها ولعلنا نتكلم لاحقاً عن ضوابط وقواعد إرشادية تبيّن ملامح التجديد الذي ننادي به[2].


[1] سيأتي الحديث عنها أيضاً ضمن عوائق التجديد.

[2] في بحث الإلحاد الجديد ومعالم التجديد الديني الستة.




لماذا يخافون الجهرَ بآرائهم التجديدية؟

 

(جراحةٌ في الأعماق)

المقدمة

جمعنا من عدة أيام مجلسٌ مع أحد رموز الحركة والفكر الإسلامي، ودار الحديث بمواضيع متعددة، وكان يُصرّح بآراء جريئةٍ ومفيدةٍ للساحة، لكنها تخالف السائد المعهود، فقلتُ له: سيدي لماذا لا تُعلن ذلك؟ قال: أنا أقولها هنا، وأنا خائف!

حتى عبارة: (عنده أفكارٌ خاصة) تُعدّ في كثيرٍ من الأوساط، كلمةَ جَرْحٍ، لا وصفَ مدحٍ، في حقّ العلماء وطلاب العلم، وكأنّ الواجب أن نكونَ نسخاً كربونية عن بعضنا بعضاً!!

مع أنَّ العقلاء يبحثون عن الأفكار الجديدة، أي: المختلفة عما يعرفونه، لأنّ وجهة النظر الجديدة ربما كانت أفضلُ وأعمقُ وأصحُّ من الأفكار التي نشؤوا عليها!

حتى مصطلح (طالب علم)، هل هو طالب لنفس المعلومات التي نشأ عليها؟ أم يطلب المعلومات الجديدة؟!

ظاهرة كتم الآراء قديمة معروفة:

ظاهرةُ كتمِ الآراء المخالفة ظاهرةٌ مكرّرة في كل زمان ومكان، وعلى أعلى المستويات، فالفلاسفة القدماء، وكبار المفكرين في أوربا لطالما تعرّضوا للنقد المؤلم، والاعتقال، وإحراق الكتب، والطرد، وحتى الإعدام في عصورهم المظلمة.

وفي تاريخنا حرقُ الكتب والمؤلفاتِ كان حاضراً، وإنْ كان بنسبةٍ أقل.

ها هو الإمام ابن تيمية رحمه الله يموت في السجن؛ بسبب آرائه التي خالف فيها الرأي السائد، بِوشايةٍ من علماء زمانه!!

فحرية التفكير والتعبير تَحدٍ كبير يقف في وجه كتم الآراء، وسيستمر التدافع بين الانفتاح والانغلاق مادامت السماوات والأرض.

وهنا يأتي سؤالٌ: إذا كان الأمر قديماً وسيبقى، فما الداعي لإثارة الموضوع إذن؟

الجواب: نحن الآن في عصر السرعة والمعلومات، والحياةُ تتطور بسرعة شديدة فكل يوم اختراعاتٌ وتطوراتٌ، والواقعُ تغيّر كثيراً؛ فينبغي أنْ نتسلّح بآليات مرنة في التعامل مع المعلومات، وديناميكية سريعة في تطوير الأفكار والتمحيص فيها، وهذا يتطلب جوّاً منفتحاً لطرح الأفكار ومناقشتها، أما التحفّظ والانغلاق سيجعلنا خارجَ المعادلة تماماً.

فعصرنا تغيّر عن العصور السابقة، ولم تَعُدْ تنفعُ كثير من الأقوال القديمة، ولو بقينا نتهيّب الاجتهاد، فسينحسرُ الإسلام عن حياة الناس رويداً رويداً، وسيبقى كعقائد وتصوّرات ذهنية، وعبادات فردية طقوسية!

ولو نوينا التفاعل والانفتاح فنحتاج إلى سرعة مذهلة للمواكبة في هذا المضمار، فكيف ونحن ما زلنا مُعْرِضِين وخائفين ومنكرين على من يقتحم المضمار؟!

فتطوّر الوسائل والآليات والمخترعات المادية والمعنوية تحتاج جوّاً علمياً منفتحاً على كلّ رأي جديد نافع.

وأسارع فأقول: مقالي هذا للصادقين المتخصّصين الراغبين بالإصلاح، وليس للمبتدئين، ولا لمن يريدون الإفساد باسم التجديد، وعلى كل حال فالمفسدون لا ينتظرون تشجيعاً من أحد ففسادهم يملأ الآفاق، كلامي هنا للراسخين من المتخصّصين فلولا تقصيرُهم لما تجرأ غيرُهم على الإقدام.

لذلك سأذكر في هذا المقال أسبابَ الخوف من الجهر بالآراء، وأناقشها حتى نكون واعين بهذه البواعث، فليست كلُّها مخاوفُ مشروعةً..

فما هي أسباب عدم الجهر بالآراء الخاصة؟!

نستطيع تقسيم الأسباب التي تجعل الناس لا يجهرون بآرائهم الخاصة إلى سبعة أسباب رئيسة، يندرج غيرها تحتها. وحتى نكون منصفين ليست كلُّ الأسباب سيئة، لذلك سنبدأ بالبواعث والأسباب الخيّرة ثم أتبعها بغيرها:

أولاً: أسباب دينية:

الخوف من الخطأ والضلال:

فالكثيرون يخافون الخطأ وتبعاته؛ كاتباع الناس لهم في تلك الآراء، فيحملون أوزارهم، لذلك لا يتكلمون بآرائهم الخاصة خشية أن تكون خاطئة، وبالتالي الخوف من شقّ الصفّ والفتنة.

الخوف من تبعات بعض الرخص الشرعية:

المقصود بالرخصة هنا: الرأي الفقهي الذي فيه تيسير على الناس، وليس المقصودُ الرخصةَ الخاصة بحالات السفر أو المرض أو الضرورة أو غيرها فقط!

هناك طلاب علم وعلماء يتبنون آراء (غيرَ مشهورة) فيها ترخيص وتخفيف في مسائل فقهية، وهم أنفسهم يفعلون تلك الرّخَص، ولا يفتون بها غيرَهم، وربما كانت تلك الرخص فيها فسحة وسهولة بأمر عمّت به البلوى، بل عامة الناس يتجنّبونها ويعتقدون أنّ فعلَهم لتلك الرخصة أمرٌ محرّم، ولو اضطُر العاميُّ وارتكب ذلك المحظور (برأيه) يعذّبه ضميره، ويشعر بالذنب الذي قد يؤدّي لأنْ يعتقد في نفسه أنه مرتكب لمحرم، وبعيدٌ عن الله تعالى! وربما أدّى به ذلك أن يترك واجباتٍ ويرتكب محرماتٍ أخرى، على مبدأ: أنا الغريق فما خوفي من البلل؟!.

ورغم ذلك، لا ينشر طلاب العلم تلك الرخص، بين عامة الناس لحجج وأعذار متعددة، كأن يقول طالب العلم في نفسه: أنا أتحمّل مسؤولية نفسي أمام الله تعالى لكن لن أتحمّل مسؤولية غيري!

أنا لن أتوسّع بالترخّص، وربما توسّع هذا العاميّ!

أنا أعرف ضوابطَ ومحدداتِ هذه الرخصة، بينما العاميّ ربما لا يعرفها أو يهملها ولا يراعيها أو ينساها!!

ويُقال لهؤلاء: كثيرةٌ هي أحكام الدين التي لها ضوابط، فلماذا نعلمهم تلك الأحكام المفصّلة، ولا نرشدهم لهذه الرخص مع ضوابطها؟! ثم لماذا نظنّ أننا نراعي الضوابط ولا نتوسع، ونظن بالناس السوء وأنهم سيتوسّعوا؟!

اعتقاد أفضلية أقوال السابقين:

لأنهم الأفهم والأعلم والأتقى والأورع، ولأنهم الأقرب من عصر التشريع، وبالتالي لا يجوز أن نخالف أقوال السلف، فأين نحن وأين هم؟! ويمكن تسمية ذلك الخضوع لسلطة القديم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)

وهنا ينبغي الانتباه إلى أنّ أفضلية أقوال السابقين ليست على إطلاقها، فاجتهادهم أَوْلى لزمانهم، واجتهاد علماء العصور التي تليها أقوى لزمانهم، فعلماءُ كلِّ عصر أدرى بظروف وملابسات زمانهم.

ولو جاء هؤلاء العلماء إلى زماننا لغيّروا آراءَهم!!
ثم بناء على قاعدتهم بأن الاقدمين أقوالهم أصوب كان ينبغي أن ينقطع التأليف بعد القرون الثلاثة الأولى.. فلماذا استمر التأليف بعدهم؟

الخوف من الخضوع للواقع المنحرِف:

فمع اعترافهم بتَغيّر الواقع، إلا أنهم يرون أنّ الحل ليس بالخضوع للواقع بل بتغييره، فواجب الدعاة والعلماء والجماعات الإسلامية تغيير الواقع حتى يتوافق مع أقوال العلماء القدماء، وعدم البحث عن اجتهادات جديدة تناسب الواقع وترقّعه.

وهذا الكلام ابتداءً صحيح، لكن ليست كلُّ التغيّرات كانت للأسوأ، بل كثير منها كان للأفضل، كانتشار الوعي والعلم والنظافة والمساواة وحقوق الإنسان وغيرها من القيم ومظاهر التحضّر، ثم إنّ كثيراً من التغيرات كان باتجاه التعقيد كالعقود والمعاملات، وأحياناً باتجاه التبسيط، وكل ذلك لا علاقة له بالخير أو الشر، فهنا ينبغي إيجاد أقوال تُراعي هذه التطورات، ولا نقصد التسامح مع الفساد والانحرافات، والخضوع لها.

ثانياً: الأسباب المنهجية المعرفية:

التربية العلمية على التقليد في البيئات المتخلّفة:

فمهمة طالب العلم حفظ الكتب المقرّرة، والتفنن بنشرها والدفاع عنها، في مثل هذه البيئة ينعدم الشك المنهجي، ونفقد التشجيع على البحث عن السؤال المعرفي الذي يعيش طالب العلم ليحلّ هذا السؤال، ويبلور إجابات علمية عليه، وكلما أنهى الجواب عن سؤال بحث عن غيره من الأسئلة.

في مثل تلك الأجواء تنشأ العقول البسيطة التي تكتفي بما تتشرّبه من أفكار سائدة في المجتمع، فيعتقدون أنّ هذا هو الحقَّ، وكل ما خالفه خطأ وضلال، فلا يخطر ببالهم أن يبحثوا عن أفكار أخرى أصلاً!

فالمنهجية العلمية التي تُنتجها بيئةُ التقليد تعتمد الاعتكاف والانكفاء على علوم السابقين تحقيقاً وجمعاً وتلخيصاً وحفظاً ونشراً، والقياسِ على أقوالهم (في أحسن الأحوال)، فأكبرُ همّ طالب العلم الحفظ والتكرار لعلوم السابقين، وهي كتب لا تنتهي، فهم في دوّامة (كثرة المصنّفات) كيف سيخرجون منها!! هي أشبه بالسجن المؤبّد مع الأشغال الشاقّة (في الدول المتخلّفة) فلا ينتهي السجين من حَفْر حفرة، حتى يردموها ويشغلوه بغيرها وهكذا..

بدلاً من أن يُوجّه الطالب للنقد والتطوير والبناء العلمي المتطوّر، فاللاحق يبني على السابق، وهكذا يتكامل الصّرح المعرفي ويتطوّر بشكل مستمر، حتى يرث الله الأرض ومن عليها! (وحتى عندها أُمِرْنا أن نستمر بعمارة الأرض ولو لم نشاهد الثمار).

الفكر الأيديولوجي:

الفكر الأيديولوجي وأقصد به: منظومة الأفكار والمعتقدات والفلسفات التي يعتنقها فرد أو جماعة تُفسّر بها الواقع، وأحياناً تُقدّم طريقة لتغيير الواقع المنحرِف للحالة المثالية التي تتخيلها.

المشكلة بهذه النظرة أنها تُقدّم تصورات غير قابل للنقد أو التطوير، وتعتبر كل فكرةٍ مخالفةٍ شُبهةً ينبغي الردّ عليها، وضلالاً ينبغي محاربته، أما عندما تكون الأيديولوجية مفتوحة ومرنة، أي: تُقدّم معلوماتٍ مبدئيةً وقابلةً للنقد والتطوير فعندها لا تُشكّل مشكلةً؛ لأنها تبقى مفتوحةً وقابلةً للتطوير عبر الاجتهاد البشري.

فمن يتبنى إحدى الإيديولوجيات يحصر فكره في نشرها والدفاع عنها، لا في نقدها وتطويرها.

الخوف من الحيرة العلمية:

كثيراً ما يبتعد الشخص بنفسه عن النقد والتفكير بالجديد، خوفاً من التفكير والقلق الفكري، والشكّ المعرفي، والركون إلى راحة البال والسكون والطمأنينة المزيّفة.

فالانتماءُ لمدرسةٍ فكريةٍ، وتبنّي كلَّ آرائها يُعطي المنتسِب لها طمأنينة مباشرة، وراحةً من عناء التفكير والمقارنة والترجيح، لكنها طمأنينةُ العاميّ الذي تبنّى الفكر الذي نشأ عليه وركن إليه، وليست طمأنينةُ العالم الذي وصل للحقيقة بعد رحلة علمية شاقة، فالبون بينهما شاسع، وصدق الله العظيم القائل: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).

ثالثاً: أسباب علمية:

عدم معرفة أدوات الاجتهاد والتجديد:

وعدمُ التمييز بين الثوابت والمتغيّرات بين المبادئ والوسائل، وبين الأهداف والأدوات، وعدمُ معرفة ما فيه مرونةٌ ويمكن تغييره، وما فيه صلابةٌ ولا يجوز العبث به، فيظن أنّ كلّ شيء ثوابتُ لا يجوز تغييرها، أو التفكير في ذلك أصلاً.

تهيّب مخالفة المألوف العلميّ:

عدم الثقة بالنفس وما يمكن تسميته: (الجبن العلمي) وعدم الجرأة على اقتحام المشكلات العلمية أو الإشكالات المعرفية، أو مخالفة السائد المحفوظ.

الخوف من مخالفة غالبية العلماء:

واعتقاد أنَّ الحقّ دائماً مع الجماعة الأكثر عدداً من العلماء، مع أنّ الحقّ بجانب الأقوى حجة ودليلاً وليس مع الأكثر عدداً وأعزّ نفراً، فكم خالف عالم محقق من علمائنا الغالبية، وكان الراجح مع الفرد.

الخوف من عدم نضوج الرأي علمياً:

فالإتيان برأي علمي جديد، أو يُخالف المألوف يَشعر معه صاحبه بأنه يحتاج تريّثاً وتأكّداً ومراجعة، وهذا حقّ لا ريب فيه، فالحقُّ غالباً مع غالبية المتخصّصين، لكن هذا ليس قاعدةً مطّردة، فإذا ظهر للمتخصّص رأيٌ فيه إشراق علمي جديد، عليه أن يتأكّد بمزيد بحث واستشارة للمتخصّصين، فمخالفة الجمهور ليست ممنوعة، لكنها ليست سهلة بنفس الوقت.

لكنَّ المبالغةَ والإحجامَ عن الصدع بالرأي العلمي الجديد، الذي استفرغ به الباحث وُسْعه، ولم يألُ فيه جهداً، والامتناعَ عن نشره خوفاً من الخطأ، أو تبكيت الآخرين وإنكارهم، هنا ينقلب التريّث والحذر العلمي المحمود إلى جبنٍ مذموم، فكما أنّ الإقدام المفرِط -قبل إنضاج البحث- تهوّر، فإنّ كتم الرأي -بعد إنضاج البحث- جبنٌ، والشجاعة العلمية وسط بينهما.

رابعاً: أسباب اجتماعية:

الخوف من تشويه السمعة والتسقيط الاجتماعي:

والخوف من طعن الزملاء والأساتذة والأقران، الذين كثيراً ما يُظهرون الغيرة الدينية والحرص العلميّ، ويكتمون داء الحسد ومشاعر الغَيرة الشخصية، بل ربما يلتبس على الحاسدين أنفسِهم ذلك فلا ينتبهون أنهم شامتون متشفّون بمن كانوا يحسدونه دون شعور منهم!

وهذا الطعن يستتبع انفضاض الطلاب والأتباع والمحِبون، وبالتالي انقطاع العطايا والهدايا.

الخوف من الطرد من الجماعة:

أو الفصلِ أو العزل من الجماعة أو الحزب أو المؤسسة التعليمية أو انفضاضِ الأتباع عنه، أو التحذيرِ منه ومن القراءة أو الاستماع له.

بل بعضهم ينتسب لجماعة وينافح عن أفكارها ومواقفها بحقّ وبباطل كالمحامي؛ لِما تعطيه تلك الجماعة له من مكانة ومكاسِب وأتباع، وأسوأ شيء ألا يكون المرء واعياً بذلك، فيظن نفسَه المناضل، ولو فتّش في أعماق نفسِه لوجد النوايا المدخولة.

الخوف من الإعلام:

وجمع الآراء الخاصة التي كثيراً ما تُسمى الشذوذات والأخطاء والضلالات، ونشرها.

الخوف من إنكار العوام:

فلربما يتقبّل العلماء الراسخون بعض الأقوال الجديدة، فيأتي بعض السفهاء من الغوغاء فيظنون أنفسَهم أنهم رعاة الأصالة وحماة الحقيقة، فينكرون ما لا ينكره العلماء الراسخون، ويُزكي نارَ الفتنة بعضُ أنصاف العلماء!

بل كثيراً ما ينتهي الخلاف الفكري إلى تحريش العامة على المخالِف فيؤول الأمر إلى الاعتداء الجسدي، أو القتل الذي يتقرّب به القاتل إلى الله بذلك!

خامساً: أسباب نفسية وتربوية:

إيثار الهدوء وعدم إثارة الإشكالات:

فمن يتصف بنقص الشجاعة، وضعف الشخصية، وعدم الثقة بالنفس، والجبن العلمي لن يملك الجرأة على مخالفة الآخرين، فالكثيرون يخافون من إثارة غضب الآخرين والجدل والنقاش والاعتراضات والتساؤلات، ويحبون أن يعيشوا مسالمين للجميع، سواء كان هذا طبعاً شخصياً أو صفة مكتسبة عبر التربية والتلقين فالنتيجة واحدة، وهذا في الميدان العلمي مضرٌ بالعلم ونموه وتطوّره.

الخوف من حظوظ النفس:

وهو سبب ديني نفسي، ونقصد به الخوف من شهوة النفس بطلب الشهرة والتميّز عبر الشذوذ والمخالفة للفتِ الانتباه والأنظار، (فالنقد يُعطي صاحبه تميّزاً وتفوّقاً مباشراً على المنقود)، وهذا التخوّف حقّ، ينبغي أن يَنتبه له كلُّ إنسان، فحظوظ النفس كثيرة ومتنوعة، وقد يخالط الحقّ حظٌ للنفس، حتى بالأعمال الصالحة كالصدقة والتعليم والجهاد في سبيل الله، كما ورد في الحديث أنّ أول ما تُسعَّر النار بهم لسوء نياتهم (نسأل الله السلامة)، وحتى مجابهة الحكّام الظلمة وقول كلمة الحقّ، قد يكون فيها حظّ نفس مثل المجاهد، ليُقال: (شجاع) وقد قِيل فيحبط ثوابُ عمله يوم القيامة.

لكن هنا ينبغي أنْ ننتبه إلى أنّ هذا الأمر قلبيّ لا يعلمه -على وجه اليقين – إلا الله تعالى، وعلى كل امرئ أن ينتبه لنفسه، (بل الإنسانُ على نفسِه بصيرة)، ولا نرمي به غيرَنا، فليس كلُّ مخالف للسائد مُحِبٌ للتميّز والظهور. فكثيراً ما تكون ضريبة الجهر بهذه الآراء تفوق حظوظ النفس، فالإنسان يحتاج مخالفة لنفسه التي تُؤثر السلامة حتى يصدع بآرائه، التي قد تُلحق به أذىً طول عمره، كما أنّ خوف هذا الحظّ النفسي (حبّ الظهور) ينبغي ألا يمنعنا من قول ما ترجّح عندنا من آراء.

سادساً: أسباب اقتصادية:

الخوف من الحصار الاقتصادي والتضييق في الوظائف:

فيُعزَل الخطيب والمدرّس والكاتب والمحاضِر، ويُمنع من نشر فكره المضلّل برأي مخالفيه، وهذا شائع مُشاهَد، ولعله من أخطر الأسباب وأقواها في كبت الآراءفكم فُصِل عالم من وظيفته بسبب أفكاره.

عدم وجود منصة يصرّحون فيها بآرائهم:

وذلك قبل انتشار الناس في أرض الله الواسعة، وفي بلادٍ هامشُ الحرية فيها واسع، وقبل ظهور (وسائل الإعلام الاجتماعي)، وهذه ترجمة أدقّ من (وسائل التواصل الاجتماعي)، لمصطلح: (سوشيال ميديا)، كان أصحاب الآراء الخاصة، يكادون لا يجدون من ينشر فكرهم من إعلام مقروء أو مسموع أو مرئي.

أما الآن فميدان النشر واسع ولله الحمد، لذلك بدأنا نرى ونسمع ونقرأ آراء جديدةً ـ وبكثافة ـ فريدةً، وهذا لا يخيفنا، بل يدعو للتفاؤل على المدى البعيد فالعاقبة للتقوى، فمن هذه الكمية سينتج نوعية مرضية إن شاء الله، (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

سابعاً: أسباب سياسية:

الخوف من السلطة السياسية، فلو خالف العالِمُ توجّهات السلطة السياسية ربما تعرّض للتضييق والاعتداء، وأحياناً كانت الدولة تتبنى آراء دينية أو سياسية أو اقتصادية وتُلزم الناس بها، وتعتبر من يخالف ذلك مخالفاً للدولة، وتُنزل بهم أشدّ أنواع العذاب، بل كثيراً ما كان السياسيون لا يتدخَّلون بآراء العلماء، لكن العلماء أنفسهم يشون ببعضهم، ويَسْتَعْدون السياسيين على مَنْ يخالفهم في الآراء الدينية، كالآراء العقدية أو الفقهية، ناهيك عن مخالفة سياسات الدولة ونقد تصرفات الحكّام وكبار المسؤولين!!

وقد أخّرت الأسباب السياسية، لأنه السبب الأول المتبادَر للأذهان حينما نناقش موضوع كتم الآراء، مع أنّ الواقع أنّ أسباباً كثيرة غيره ينبغي معالجتها والانتباه لها، ولا علاقة لها بالسياسية.

الحل: الشجاعة بإبداء الرأي مع الضوابط التالية:

1-ينبغي أن يتصدّرَ للاجتهاد المتخصّصون، وننزل آراء غير المتخصّصين منزلةَ فكرة تحتاج عرضاً على المتخصصين وتأكّداً من صوابها، فلا نردُّها مباشرة؛ لأنها صدرت عن غير متخصّص، فغير المتخصّصين يفكرون خارج الصندوق، كما يقال.

2-عدم التسرّع بنشر الآراء قبل استفراغ الجهد إلى حد الوصول إلى رأي يغلب على الظنّ رجحانه، ويطمئن له الباحث إلى حدٍ ما، أقول (إلى حد ما) لأنّ الآراء الجديدة يصعب الاطمئنان لها قبل عرضها على المتخصّصين وإقرارها.

3-عدم تجاوز الثوابت، وبالمقابل عدم توسيع الثوابت، فكما هناك من يتجاوز الثوابت والقطعيات فهناك أيضاً من يتوسّع بالثوابت والقطعيات ويُدخل فيها متغيراتٍ وظنيات.

4-الحذر من اتباع الهوى والكِبر عند ظهور الحقّ مع من يخالفكم، فعلى من يخوض بالعلوم أن يكون رائده الحقّ يدور معه أينما دار.

بعد ما مضى:

واقعنا يحتاج علماء فدائيون يخاطرون بكلّ ما سبق من المخاوف، ويجهرون بآرائهم دون وَجَل أو خَوْف إلا من الله تعالى.

علينا أن نُعلّم الناس أنّ هذه العلوم والأفكار ما هي إلا رأي واجتهاد بشريّ، وليست وحياً معصوماً!

وديننا يشجّع على الاجتهاد ووعدَ نبينا ﷺ من اجتهد فأخطأ فله أجر، فإنْ أصاب فله أجران! -فاجهر برأيك فلن تَضِل الأمةُ لو قلتَ شيئاً خاطئاً، فالأمة معصومة من التلبّس بخطأ يعمّها، ولا تبالغ بمكانتك، ولا تظننّ أنّ الأمة كلّها ستتبع رأيك بمجرد نشرك له، فلا تخشوا الخطأ فلن يستمر في الأمة، وستنبذه بتوفيق الله تعالى، ولن يبقى إلا ما كان صواباً إن شاء الله، ولو كان رأيك (صواباً أو خطأ)، كيف ستتأكّد من ذلك دون نشره وتعريضه لنار النقد والتمحيص؟

بما أنّ الاجتهاد بشري فسيعتريه القصور والضعف والخطأ و(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)، لذلك سيثيب الله تعالى من يأخذ بتلك الأقوال الخاطئة، لأنّ نية المقلّد أنه يريد اتباع الحقّ والرأي الأقرب لرضا الله تعالى. الذي ننادي به هو الانفتاح المنضبط، وعدم ردّ كل فكرة تخالف ما ألفناه. ورائدنا قوله تعالى: ((إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)).




قولبة العقول في المدارس الدينية

إنّ التخلّف الحضاري الذي تعيشه الأمّة منذ قرون، قد أثّر في كلّ مجالات الحياة، فسادت َرُوحُ التقليد واستنساخ الآراء وتكرارها، دون أدنى تقييم لها، وتلك من سمات المتخلّفين، لأنّهم يخافون المخالفة، فوظيفة العقل عندهم الحفظ والنقل، دون أدنى نقد، فضلاً عن الإبداع! وذلك في مجالات وتخصّصات الحياة كلّها. 

وفي المجال الديني، عندما نسمع أو نقرأ للمحقّقين والمجدّدين من العلماء عبر التاريخ، حتّى من المنتمين للمذاهب، نجد القاسم المشترك بينهم الانعتاقَ من التقليد، واعتقاد أنّ جهودَ القدماء غير كافية وغير ناضجة، وينقصها الكثير من التحقيق العلميّ، فينطلق العالم يدقّق ويحقّق ويختار وينتقي بين أقوال القدماء، وربما زاد عليها أقوالاً جديدة، نتيجة النظر والاجتهاد في النصوص. 

وكثيراً ما أتساءل: لماذا كان غالب علمائنا -الذين درّسونا في المدارس الشرعيّة- يرسِّخون فينا “عصمة الأئمة المجتهدين؟” وإن لم يصرِّحوا بذلك، كانوا يفعلون ذلك بذريعة زَرْعِ احترامِ العلماء، ومَنْعِ “صغار طلبة العلم” من التطاول على “الأكابر”. 

 

وحتى يتوازن توجيههم كان الأَحْرى بهم أن يترافق ذلك الكلام مع التأكيد على عدم عصمة العلماء السابقين، وتطبيقِ ذلك عمليّاً، عبر نقدِ مسائل تمرّ في المنهاج المقرّر، (رغم أنّ كثيراً منها كانت كتباً تراثيّة قديمة كُتبت منذ قرون)، يعني: كان عليهم نقد الكثير من الاجتهادات القديمة، وإظهار عدم صلاحيّتها لعصرنا، وتقديم نظرات جديدة أكثر ملاءمة للعصر، فالواقع قد تغيّر كثيراً.

 ويستمرّ ذلك المنهج -أقصد تقديس أقوال القدماء- مهما طال عمر الطالب، واتّسع اطلاعه، ولو تجاوز طالبُ علمٍ حدَّه وقَدْرَه وتجرّأ واعترض، لَقُوبِل بوابل من التوبيخ: يقتل في الطالب أيّ بذرةٍ للنقد أو الإبداع.  صحيح أنّ بعض الطلبة ربما ينقدون دون أهليّة، وربما يتطاولون على الأئمة، ويقول بعضهم: “هم رجال ونحن رجال”، بل ربما يتجاسر على الاجتهاد مَنْ لا يصلح لفهم كلام العلماء فضلاً عن الإتيان بمثله أو باجتهادٍ جديد!!

كلّ هذه المخاوف واقعية، وعلاجها بالتنبيه عليها لكن مع الحذر الشديد، كإجراء العمليّة الجراحيّة في العين، نعالجها مع الحفاظ عليها، فعقول طلبة العلم أغلى من عيوننا، فننتبه ألا نقوّي جرعة الدواء بحيث تقتل بذرة الإبداع والنقد عندهم، بل ننمّيها ونرعاها، ونقوّمها إن تجاوزت.. ككلّ شؤون الحياة، فعندما تعلّم ولدَك قيادة السيارة تنبهه من الوقوع في الحوادث، واستخدام السيارة بما لا يرضي الله، لكن هذه المخاوف لا تمنعك من تعليمه قيادة السيارة، وكذلك تعليم الطالب النقد والإبداع له مخاوف ومحاذير، لكن ذلك لا يلغي الهدف وهو تخريج طالب عليمٍ بصيرٍ ناقدٍ مبدِع.

ونذكر هنا “النقد” لأنّه بداية “الإبداع” فلا بدَّ من “نقدِ” السابق “لتبدع” جديداً، فنحن بحاجة ماسّة إلى مجتهدين، ولو (مجتهد مسألة) ونريد ترسيخ الحريّة الفكريّة.  المشكلة أنّ مَنْ أبدع من خريجي تلك المدارس إنّما كان حالات فرديّة، سبحَتْ بعكس التيار، ولم يكن ثمرةً طبيعية لتربية تلك المدارس!!

حيث كانت جمرة العقل تُطفأ في كثير من الأحيان إلا في مجال حفظ المذهب الذي اختاره المدرّس، وينحصر جُهْدُ الطالب في حفظ الأقوال، والتدليل عليها، والدفاع عنها!! فكانت التربية تعتمد “الكمّ” على حساب “الكَيْف” فالتباهي بكثرة المحفوظات وعدد المتون والكتب، وكان الأَحرى التركيز على بناء عقلية الطالب التي تميّز بين الأقوال، فتترك الرديء وتنشر الجيّد، ولا يكون الطالب كحاطِب ليل!

 

في أكثر المدارس الشرعيّة لو خالف أحدُ الطلبة أساتذَته.. يُلام! بدلاً من أن يفرح الأستاذ بنُضْجِ عقلِ تلميذِهِ، وظهور شخصيّته واستقلاله!! لكن العجب ينقضي عندما تعلم أنّ “فاقد الشيء لا يعطيه”، فالمدرِّسون ليس عندهم نظراتٌ اجتهاديّة، حتى يورِّثوها لتلاميذهم، فتجد غاية جهد أحدِهم، أنْ ينقل لك أقوال السابقين! دون ترجيح ولا نظر ولا نقدٍ ولا تقييم!

 حتّى إنَّ أحد الطلبة النابهينَ بعد أن حضر سنوات عند أحد الأساتذة ثم ترك الحضور قائلاً: (هذه الأقوال أستطيع الاطلاع عليها في بيتي، أين المنهج العلميّ النقديّ؟ أين اختيارات العالم نفسِه؟ ما ترجيحاته؟ ما رأيه في كلّ ما يقرأ؟) وحتّى لا نظلم الجميع فقد كان بعض العلماء ينمّي فيمن يحضر عنده روحَ الاجتهاد والنقد والتحقيق.. ولكنّهم -للأسف- نادرون!

رَحِم الله الإمامَ (أبا حنيفة) الذي كان يربّي عقولَ تلاميذه على الاجتهاد المستقِل، فكانت حلقته أشبه بحلقات الفلاسفة العِظام، فورّث الأمةَ مدرسةً فقهيّة مقارِنة، وهذا سرّ ثراء المذهب الحنفيّ بالأقوال. ولو كان سلفنا الصالح يحملون الروح الانهزاميّة التي سادت قرون الجمود الفكري، لاكتفوا بكُتُب القرن الأوّل ولم يؤلِّفوا في كلّ عصر كتباً جديدة..

طبعاً “المدارس غير الشرعية” ليست أفضل حالاً، لكن المدارس الشرعية عليها المعوّل في تخريج علماء الدين، الذين هم من قادة الرأي في مجتمعاتنا الإسلامية، فمنهم المصلِحون والموجّهون والمعلّمون والأئمة والخطباء والمفتون. 

وهنا لا بدّ من ذكر عاملين ساهما في كسر الجمود وتشجيع الاجتهاد المعاصر:

العامل الأول: انتشار الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه):

 ونظام البحوث العلمية والأطروحات الأكاديمية، فلها فضلٌ كبير في التشجيع على البحث والتحقيق والاجتهاد وكسر الجمود على أقوال السابقين، وإن كان ما يزال بعض الدكاترة (المناقِشين) يضيق ذرعاً بالباحث صاحب الشخصية الشجاعة البارزة بالترجيح وإبداء الرأي، فيحاولون كسر عنفوانه، بعكس الدول المتطوّرة التي تشجع الإبداع!! حتى إنّ بعض الدكاترة قال: أستطيع معرفة المناقِش (في لجان نقاش الأطروحات الأكاديمية) هل تخرّجَ من جامعة عربية أم غربية؟ من طريقة نقاشه! 

العامل الثاني الذي ساهم في كسر الجمود وتشجيع الاجتهاد المعاصر:

 ظهور المدرسة (السلفيّة) التي حاربت التعصّب المذهبيّ، وإن كانت وقعتْ بما ذمّتْه، حيث احتكرتِ الحقَّ بما ترجّح لدى بعضِ رموزها (كشيخ الإسلام ابن تيميّة وغيره من رموز السلفيّة القدماء والمعاصرين)، وحصرتْ منهجها بمدرسة أهل الأثر، مع أنّ السلف فيه مدرسة أهل الرأي ومدرسة أهل الأثر، فيه المقاصديّ والنصيّ، وهذان منهجان عقليّان عند كلّ البشر، وفي حديث: (لا يصليَنَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة) إقرارٌ للمدرستين والفهمَيْن.

لكنّ الدعوة السلفية خطوة جيّدة حرّرت العقلَ المسلمَ من كثير من الآصار التي كبّلتْه، وننتظر صَحَواتٍ تعيدُ لمدرسةِ العقل والرأي اعتبارَه، حتى يعود جناحا الدين الإسلاميّ، اللّذَانِ تميّز بهما، ولطالما طار بهما، وهما “العقل والنقل”. وأيامنا تبشّر بالخير، فنحن ننتقل من طَور التقليد والجمود إلى عصر النهضة، والعصور الانتقاليّة دائماً تشهد صراعاً بين التقليديّين المحافظين، وبين الحداثيّين والمجدّدين، وكلا المدرستين ضروريتان لكلّ “مذهب أو مبدأ أو مؤسّسة” فالمحافظون يشدّون المجدّدين للمحافظة على الثوابت، والمجدّدون يكسرون جمود المحافظين على الوسائل القديمة، فيتحقّق التوازن المطلوب.

التفاؤل يزداد وبخاصّة في ظلّ انتشار العلم والقراءة والكتابة، بعد أن كان حِكراً على فئات معيّنة في العصور السابقة، وبعد انتشار وسائل الإعلام الاجتماعيّ التي هيّأت منصاتٍ لينشر فيها المجدّدون آراءَهم، دون أن يستطيع السياسيّون كمّ أفواههم.

 فعندما نرى شاباً قد اتّقَدت عنده “شمعة إبداع” فلنحافظ عليها ونعلِّمْه كيف يداريها وينمّيها حتّى تتحوّل إلى مصباح كبير، يساهم في إنارة سبيلِ نهضةِ أمّتنا الطويل، وكلّنا أملٌ أن تصبح ثقافة النهضة والإبداع والتجديد ثقافة عامّة، تشمل المؤسّسات العلميّة كلّها وما ذلك على الله بعزيز.