الثقافة بين الهوية والمعرفة (نحو مثقّفٍ واعٍ وصانعٍ للتغيير)

الحراك الثقافي والعلمي المعاصر

المُطَّلع على الساحة العلميّة والفكريّة اليوم يجدها – بفضل الله – في حَرَاك ونشاط استثنائيّ مقارنةً بقرون الجمود والتقليد التي مرّت على الأمّة. فحركة الكتابة والنشر، وبخاصّة الكتابات “خارج الصندوق” كما يُقال، كثيرة، ومن رحم الكثرة تُولد النوعيّة والجودة بإذن الله.

دور وسائل التواصل والنشر

لقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل النشر الحديثة في تسهيل عملية النشر بعيداً عن مقصّ الرقابة والحذف والمنع، مما أتاح للمفكّرين والمثقّفين نشر أفكارهم بحرية أكبر، وبالتالي ساهمت في تنشيط الحراك الثقافي.

استمرار هيمنة ثقافة الجمود

ورغم هذا الحراك المتنامي فإن ثقافة الجمود والتقليد ما زالت تسيطر على ميادين علميّة وثقافيّة وفكريّة ليست بالقليلة، وأخطر هذه الميادين هي المؤسّسات التعليميّة. هذه الثقافة قد تبلورت وتكرّست عبر قرون، فتصلّبت وسيطرت على الحياة الثقافيّة، فنشأ عليها الصغير وشاب عليها الكبير، وأصبح تغييرها من أعسر الأمور. يقول ابن خلدون رحمه الله تحت عنوان “كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل”: “ولو اقتصر المعلّمون على كذا وكذا [يقصد الأساسيّات] لكان الأمر دون ذلك بكثير، وكان التعليم سهلاً ومأخذه قريباً، ولكنّه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه، فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها ولا تحويلها”.

ثقافة التجديد في مقابل التقليد

رغم الجمود فإن ثقافة الإبداع والتجديد والتطوير قد أحرزت اختراقات لا يُستهان بها، لكنّ قلاع التقليد ما زالت مسيطرة خصوصًا في المجالات المرتبطة بالهويّة الإسلاميّة والعربيّة، وذلك لتأثرنا المباشر بها، بخلاف بقية العلوم الكونيّة والطبيعيّة التي نحن فيها عالة على غيرنا، ممّا سمح بتطويرها لاعتمادها على علوم الأمم المتقدّمة، ولأنها لا تُعدّ في وعي الناس مجالًا للغزو الفكري.

إشكالية التكرار وضعف النقد

المطالع في كثير من الإنتاج العلمي والثقافي العربي يجد كثرة في المعلومات المكرّرة، وضعفاً في التمحيص والتحقيق، وافتقاراً للنقد المستمر، ومن أهمّ أسباب ذلك هو السعي لتكديس المعارف على حساب نوعيّتها وفاعليّتها، وضعف إعمال العقل في تحليلها، مما يرسّخ بيئة من الجمود والتقليد.

حاجة طلاب العلم إلى المنهجية

كثير من طلاب العلم الشرعي والثقافة الإسلاميّة يتساءلون عن برنامج علمي أو منهج ثقافي يسيرون عليه لتكوين ثقافتهم. غير أنّ الغالب في الواقع هو انشغالهم بجمع وتكديس الأفكار والمعلومات، وحفظها وتكرارها، بل والتفنّن في الدفاع عنها، والتوسّع في الشرح والتدليل عليها دون نقد أو إعادة نظر أو محاولة للإبداع.

أهمية بناء الثقافة الواعية

ما نسعى إليه هو الانتقال إلى ثقافة واعية تُمكّن الإنسان من تصوّر صحيح للواقع، وتقييم دقيق له، وقدرة على اتخاذ قرارات فاعلة مبنيّة على فهم السنن الكونيّة وطبيعة الأشياء. ولا يتمّ ذلك إلا بالتأمّل وبالاستفادة من المختصّين في مختلف الحقول، ومن خلال ثقافة عامة واسعة الأفق.

صفات المثقّف الفاعل

هذا البحث يهدف إلى تكوين مثقّف فاعل يتسلّح بالمعارف النوعيّة التي تعينه على المشاركة المؤثّرة في الإصلاح والإبداع والإضافة المعرفيّة ضمن تخصّصه. فالمثقّف الحقيقي لا يكتفي بتكرار ما حفظ، بل يسعى إلى تجاوز التخصص والانفتاح على علوم أخرى، مما يساعده على تكوين رؤية شاملة أعمق وأدقّ للظواهر والقضايا.

الرؤية البانورامية للثقافة

على المثقّف وطالب العلم أن يطّلع على مجموعة من العلوم، ويستوعبها، ويستخلص منها العلاقات المختلفة بين الأسباب والنتائج، ويبتعد عن النظر إلى الأمور من زاوية تخصّص واحد فقط. فكلّ علم يقدّم تحليله الخاص، والمثقّف الحقيقي هو من يكوّن رؤية بانوراميّة تجمع زوايا النظر المختلفة وتُنتج وعياً شاملاً ومتّزناً.

الخاتمة: دور المثقّف الشامل

الظاهرة الواحدة غالبًا ما تتداخل فيها عوامل متعدّدة بنسب متفاوتة، والمتخصّص يرى جانباً واحداً منها، بينما المثقّف المتعدّد المشارب ينظر إلى القضيّة الواحدة من عدّة زوايا، ليصل إلى تحليل أقرب إلى الصواب والموضوعيّة. وهكذا يكوّن المثقّف رؤية متكاملة، تشبه عمل النحلة التي تأكل من كلّ الثمرات لتخرج شراباً نافعاً فيه شفاء للناس.

ثانياً: معاني الثقافة

المعنى الاصطلاحي للثقافة

للثقافة أكثر من 150 تعريفاً، كثير منها متشابه، لكن ما يهمنا هنا معنيان:


المعنى الأول: ثقافة المجتمع

الثقافة: معنى عامّ مركّبٌ من المعارف والعقائد والأفكار والفنون والأخلاق، والقوانين والعادات والأعراف والتقاليد، والسلوكيّات وطرائق العيش، التي تميّز مجتمعاً ما أو جماعة معيّنة.

فالثقافة هي الصفات المميّزة لمجتمع عن غيره من المجتمعات، أو لجماعة عن غيرها، أو لأسرة عن غيرها، أو فرد عن غيره. فثقافة مجتمع هي هويّته، وبصمته الخاصّة، التي تمكّننا من التفريق بينه وبين غيره من المجتمعات، وهذه الثقافة فيها الصواب وفيها الغلط، وفيها ما لا يمكن وصفه بصواب ولا غلط، بل هو اختيار من بين خيارات أخرى.

عوامل تشكّل الثقافة بهذا المعنى كثيرة منها الدين والبيئة والعلوم والخبرات والاحتكاك بالأمم الأخرى. وهي متطوّرة ومتغيّرة، منها جوانب صلبة، ومنها جوانب مرنة، وفيها جوانب حضاريّة، وفيها جوانب متخلّفة، ومنها الجوانب العلميّة ومنها المبنيّة على التوارث والتقليد المحض، المبنيّ على الجهل والخرافات والأساطير.

وهي قويّة بحيث تهيمن على أفراد المجتمع، حيث يتمّ تلقّيها في الأسرة منذ ولادة المرء، ثمّ يساهم المجتمع كلّه في تكريسها، ووسم الأفراد بها، حتّى يموت المرء، وتتوارثها الأجيال. وهناك ثقافة بسيطة يتمّ تداولها تلقائيّاً، وهناك ثقافة منظّمة مدروسة يتمّ التخطيط لنشرها.

أمّا الأفراد، فمن تعريف الثقافة يتّضح لنا أنّ كلّ فرد ينتمي إلى جماعة، يحمل معه ثقافة تلك الجماعة، بشكل أو آخر، بغضّ النظر عن مستوى علمه ومعرفته.

ومهمّة المصلحين والمثقّفين والمتعلّمين إصلاحُ الأفكار والسلوكيّات الخاطئة، والارتقاء بالموجودة إلى الأفضل، أي العمل على تقويم وإصلاح ثقافة المجتمع بشكل مستمرّ. فتغيّر الثقافة يتمّ بشكل أسرع عند المتعلّمين والمنفتحين من الأفراد، ثمّ تنتقل هذه الإصلاحات الثقافيّة من النخبة إلى عامّة أفراد المجتمع بشكل متدرّج.

المعنى الثاني: الثقافة كمخزون معرفي

وهو المعنى المقصود في كتابنا. المعارف والعلوم والمهارات المطلوبة لتكوين الإنسان المثقّف، وهو الشخص الذي تجاوز تخصّصه، ووسّع دائرة اطلاعه وقراءاته واهتمامه، بحيث يحصل على رؤية شاملة للواقع والنظريّات والأفكار الإنسانيّة، حتّى يصبح أكثر تأثيراً بلسانه وقلمه، فيمتلك مجموعة أفكار إصلاحيّة وعلاجيّة من أجل بلوغ مجتمع أفضل.

تعريف المثقّف المسلم

هو الذي زاد على الماضيّ، باطلاعه على العلوم الإسلاميّة واستوعبها وهضمها، وانطلق بآرائه في ضوء ضوابط الإسلام ومبادئه وتصوّراته الكبرى، وحمل هموم أمّته وآمالها وقضاياها الكبرى.

من أكبر مهامّ المثقّف إنتاج فكر جديد، لحلّ أزمة حاليّة أو مستقبليّة متوقّعة. ونلاحظ أنّ رفع جَودة الثقافة بالمعنى الثاني (العلم والمعرفة) تؤثّر إيجابيّاً على رفع جَودة الثقافة في المجتمع بالمعنى الأوّل (الأفكار وطريقة الحياة).

تعريف الثقافة الإسلاميّة

هي مجموعة المعارف والمعلومات النظريّة، والخبرات العمليّة المستمدّة من القرآن الكريم، والسنّة النبويّة، التي يكتسبها الإنسان، ويحدّد على ضوئها طريقة تفكيره، ومنهج سلوكه في الحياة.

الألقاب الثقافيّة: المثقّف وغيره

فيما يلي تعريف لبعض الألقاب التي تطلق على أشخاص يعملون في الحقل الثقافيّ والتوعويّ الإصلاحيّ. ما سنذكره من تعريفات هي اصطلاحات وألقاب أغلبيّة، قد تنطبق على غالبيّة، وقد لا تنطبق على بعضهم، لكنها تقدّم فروقاً واقعيّة واضحة بين هذه الألقاب.

جدول يوضح الفرق بين المختص، العالم، الداعية، المصلح، المثقف، المفكر، الفيلسوف

الصنف التعريف المهام الرئيسية السمات المميزة
المختص طالب علم تخصّص في مجال معيّن وصرف فيه جزءًا من عمره دراسة علم محدد متخصص في علم واحد (مثل التاريخ، الكيمياء)
العالِم شخص برع في اختصاصه حتى فاق أقرانه التعمق والتبحر في علمه من المتفوقين أو المتميزين في تخصصه
الداعية لديه علم وهمّ إصلاحي، يركّز على التوجيه والإرشاد التبليغ، التذكير، الهداية، دفع الناس إلى الصلاح نشاطه ميداني، لا يُنتج غالبًا مفاهيم جديدة
المصلِح صاحب رؤى إصلاحية مستندة إلى ثقافة أمّته معالجة القضايا السياسية أو الاجتماعية أو الأخلاقية يغلب عليه النضال والتأثير العملي وليس التنظير الفكري
المثقّف تجاوز اختصاصه ووسّع دائرة قراءاته واهتماماته التأثير باللسان والقلم، تقديم أفكار علاجية وتقنية يعرف شيئًا عن كل شيء، احتكاكه بالجماهير أقل من الداعية والمصلح
المفكّر مثقّف يُحلّل الماضي، ويفهم الحاضر، ويستشرف المستقبل توليد الأفكار، إنضاجها، فهم الواقع بعمق أعلى من المثقّف، أقل من الفيلسوف، يمارس التفكير المنهجي المستمر
الفيلسوف الأكثر تجريدًا، يضع المفاهيم الكلية وينتج النظريات إنتاج مفاهيم ونظريات كبرى، فهم الوجود والعقل يعمل بالكليّات، يلبّي حاجات العقول، يقود التفكير المجرد