من المتون المغلقة إلى آفاق الفهم تعرّف على أسرار التعليم الناجح
الثقافة التمازجيّة:
- يلزم المثقّف أن يتملّك رؤية واضحة للواقع، واستشراف المستقبل، وتشخيص مواطن الخلل، واقتراح كيفيّة العلاج كسياسات وآليّات وخطوات عمليّة واضحة، فلا يكفي الشعارات العامّة والكلمات الحماسيّة.
- وحتّى يحقّق ذلك، لا بدّ أن يمتلك المثقّف ثقافة تمازجيّة تكامليّة هدفها تكوين رؤية بانوراميّة حول القضيّة الواحدة التي ينظر إليها، ويتمكّن من استخراج المؤثّرات فيها واقتراح الحلول المؤثّرة.
- فكلّ علم له زاوية ينظر من خلالها للقضيّة المراد دراستها، وبتعدّد العلوم تتعدّد زوايا النظر، حتّى تصبح الرؤية بانوراميّة من كلّ الجهات، ولا ينحصر الباحث بزاوية تخصّصه الضيّقة.
يقول الدكتور عبد الكريم بكّار:
“المجتمعات حين تنهض، لا تنهض بفضيلة أو فضيلتين، وحين تنحطّ لا تنحطّ كذلك بعدد قليل من الرذائل، إنّ النهوض يرتبط بنسيج من الفضائل والعوامل الإيجابيّة، كما أنّ الانهيار يرتبط كذلك بمجموعة من الرذائل والأمراض الاجتماعيّة؛ ولهذا فإنّ على المتحدّث أن يتجنّب تضخيم العلّة التي استند إليها في إقناع جمهوره، وأن يتجنّب كذلك النمط اللغوي الذي يؤكّد على السبب الوحيد، والعامل الوحيد، والمكسب الوحيد..
نحن لا نشكّ في أنّ الظواهر الكبرى تستند في ظهورها إلى عدد من الأسباب، ولا نشكّ بأنّ لكلّ سبب وزنه الخاصّ، وتأثيره الخاصّ في حصول تلك الظاهرة، وهو الذي يسوّغ التركيز على بعض الأسباب وإبرازها، ولكن مع كلّ ذلك فلا بدّ من الحذر.”
- بداية لنصطلح على التخصّص العلميّ بـ العِلم العموديّ، وعلى الثقافة العامّة بـ الثقافة الأفقيّة.
- التخصّص مطلوب، والتركيز على العلم العموديّ لا بدّ منه، لكنّ المثقّف لا يجوز إلّا أن يمتلك ثقافة أفقيّة ممتازة.
- فليحذر من يريد تكوين معرفة ممتازة من أمرين اثنين:
- أن يتكلّس الباحث ضمن مسائل تخصّصه الجزئيّة: لأنّ رؤيته للعالم والواقع ستكون قاصرة، وسيصاب بالاختناق المعرفيّ، كالذي ينظر إلى غابة كبيرة من أنبوب ضيّق، ويريد وصفها من خلال رؤيته القاصرة تلك!
- أن يحذر من التشتّت في عالم المعرفة الواسع: فالعلوم لها جاذبيّة، وإن لم ينتبه المرء لنفسه سيتوه كلّ فترة في بحر من بحور المعرفة. فلا بدّ من خطّة محكمة يلتزم بها المثقّف حتّى تتكامل معلوماته ولا يكون متشتّتاً.
- المختصّ الذي لا يملك سوى معرفة بالعلوم الشرعيّة سيكون خطابه أُحادي البُعد، بينما لو دعّم العلوم الشرعيّة بالثقافة العامّة من بقيّة العلوم، وبخاصّة فيما يتناوله من مسائل، سيفهم الواقع علميّاً، ويكون خطابه أقرب لعقول الناس وقلوبهم.
- لأنّ التقسيم الأكاديمي للعلوم خيالي وليس حقيقيّاً، فالواقع متداخل بين الاقتصاد، الاجتماع، الثقافة، السياسة، الفيزياء، والكيمياء.
- في الواقع، لا نجد ظواهر منفصلة تمامًا: كيميائيّة بحتة، أو فيزيائيّة خالصة، أو سياسيّة مستقلّة. فكلّها تتداخل، والزوايا التي ننظر منها هي ما تحدد التخصّص الظاهر.
- إذن، الثقافة الأفقيّة ضروريّة لما ذكرنا، ولأنّ مشكلات الواقع أسبابها متعدّدة وليس سبباً واحداً. وبدون الثقافة الأفقيّة لن تُعرف هذه الأسباب المتعدّدة.
يقول العلّامة ابن خلدون رحمه الله:
“ولا شكّ أنّ كلّ صناعة مرتّبة يرجع منها إلى النفس أثرٌ يُكسِبها عقلاً جديداً، تستعدّ به لقبول صناعة أخرى، ويتهيّأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف”.
ويقول الإمام ابن حزم رحمه الله:
“من اقتصر على علم واحد لم يطالع غيرَه؛ أوشك أن يكون ضحكة، وكان ما خفي عليه من علمه الذي اقتصر عليه، أكثر ممّا أدرك منه، لتعلّق العلوم بعضها ببعض، كما ذكرنا، وأنّها درج بعضها إلى بعض، كما وصفنا، ومَنْ طلب الاحتواء على كلّ علم أوشك أن ينقطع وينحسر، ولا يحصل على شيءٍ”.
- لذا نحتاج ثقافة تمازجيّة، تمزج بين العلوم وتكتشف الترابط بين العلوم تأثّراً وتأثيراً، وبين المعلومات الجزئيّة تأثّراً وتأثيراً.
- هكذا تتكامل العلوم وتبني وحدةً فكريّة لا ينقض بعضُها بعضاً. وهذا لا يتحقّق إلّا بـ:
- التفكير بكلّ معلومة.
- إدخالها في مكانها ضمن النسق المعرفيّ الشخصيّ.
- وإلّا بقيت المعلومات مفكّكة ككومة من الخردة!
- كما أنّ المعلومات تتضارب أحياناً، فلا بدّ من حلّ هذا التعارض، ويتطلّب ذلك:
- صبراً في القراءة.
- وتفكيراً في المقروء.
- فليس المطلوب كثرة القراءة فقط، بل كثرة التفكير بالمقروء.
- القراءة قضم، والتفكير هضم، فلو لم تُعطِ الهضم وقتاً وطاقةً ستُصاب بعسر الهضم، وتصبح ممن يُقال فيهم: “يحفظون ولا يفهمون”!
- وهذا مشاهَد عند كثير من المثقّفين، وبخاصّة أصحاب الذاكرات القويّة، فتجدهم يناقضون أنفسَهم، لأنّ معلوماتهم:
- ليست مرتّبة.
- ليست مُعالَجة.
- تمّ تكديسها دون معالجة بالتفكير والتأمّل.
- فلا يمتلكون منهجيّة في التفكير، ويحفظون المتناقضات وهم لا يشعرون، لعدم بناء منهجيّة محاكِمة للمعلومات.
- فالعقل يمكن تشبيهه بـ جهاز الحاسوب، والمنهجيّة في التفكير بـ نظام التشغيل، والمعلومات بـ البيانات.
- نحذّر من الثقافة التكديسيّة، فالمطلوب التمـازج واستخراج العلاقات بين العلوم، وبناء بنية فكريّة متماسكة، كالنحلة التي:
- تزور الحقول والزهور.
- تعالج المحصول.
- تخرج عسلاً شفاءً للشاربين.
- ومن مهمات النخبة: إجراء تمازج بين الثقافة الإسلاميّة والثقافات الأجنبيّة المفيدة، بما يتحمّله مجتمعنا.
- فهضم واستيعاب الثقافات الأخرى يحتاج طاقة عالية، لاقتباس النافع وإهمال الضار، أو التحذير منه لو شاع بيننا.
في موضوع القراءة التمازجية ست ملاحظات وتنبيهات هامة أسوقها في النقاط التالية:
أ- كلّ علم هو الأفضل عند أهله:
تكلُّس الباحث ضمن مسائل اختصاصه الجزئيّة مرفوضٌ، وكذلك يُرفض ضياعه في عوالم المعارف الواسع، لذلك سأخصّص الكلام عن كلّ علم بعنوان مستقلّ، لعلّه -بفضل الله وكرمه- يكون هادياً ومعيناً لمن يرغب بتكوين ثقافة فاعلة.
فهناك مشكلة علميّة عند الحديث عن فضائل العلوم، حيث يتمّ المبالغة في مكانة العلم والتساهل في الروايات كما يتساهلون بوجه الاستدلال، التي تدلّ على فضيلته وأهمّيته، -وهذه الظاهرة موجودة في كلّ مباحث الفضائل والمناقب سواء للأشخاص أو الأماكن ( ) أو الأوقات أو الأعمال- ممّا يورث ارتباكاً علميّاً في تصوّر خارطة العلوم وأولويّاتها وأهميّتها، وأحياناً مكانتها الحقيقيّة في خارطة المعارف.
فكلّما فتحتَ كتاباً أو استمعتَ لمقدّمة دروس، أو محاضرات في علم ما، تجدُ في مقدّماته كلاماً كثيراً ما يكون مبالغاً فيه عن مكانة ذلك العلم، حتّى إنك تقرأ العبارة المكرّرة في كلّ علم بأنّ “هذا العلم أشرف العلوم”.
وإن احتاط المؤلّف وكان أكثر دقّة فإنّه يقول: (مِنْ أشرف العلوم) لتعلّق هذا العلم بكذا وكذا.. وهذا الأمر مهمّ جداً، فالعلم المتعلِّق به مهمّ كذلك! ثمّ يسوقون الروايات والاستدلالات (الصحيحة والضعيفة) لبيان أهميّة هذا العلم!
ومن أسباب المبالغة:
- أنّ المختصِّ -غالباً- ليس عنده إحاطة ببقيّة العلوم، فهو يقرأ عن فضائل هذا العلم، ويشتغل به ويدرك أهميته، ممّا يورثه استخفافاً -لا شعوريّاً- بأهميّة بقيّة العلوم.
- ومن أسباب المبالغة منهجيّة التساهل في رواية الأحاديث النبويّة في الفضائل والترغيب، فيتساهلون في الفضائل ما دام قصدهم شريفاً، وهو الترغيب بذلك العلم.
- ومن أسباب ذلك ضعف اهتمامنا بتاريخ العلوم وفلسفتها، فننشغل باختصاصنا، ونغفل عن غيره من الاختصاصات، فيكون تصوّرنا للخارطة المعرفيّة مشوّهاً.
وللأمانة فإنّ هذه الآفة موجودة عند كلّ التخصّصات في العلوم والمهن والأعمال، فذلك يُقنع كلّ إنسان بما أقامه الله عليه من مهنة عمليّة أو تخصّص علميّ، فهو يرى أهميّة عمله وضرورته، حتّى يُعمَر الكونُ وتُسَدّ الثغراتُ، وتُلبّى الاحتياجات:
{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]
لذلك سنحاول ضبط مكانة كلّ علم، ووضعه في مكانه المناسب ضمن خارطة بقيّة العلوم.
ب- الاختصاص الثنائي:
المتصدّون لبيان أحكام الإسلام وهداياته وتعاليمه كثر -ولله الحمد- ولكنّ أطروحات كثير منهم ينقصها العمق والنضج فيما يتعلّق في الاختصاص الذي يتحدّثون فيه، فالعلوم أصبحت متشعّبة جدّاً، فكلّ جزئيّة علميّة أصبح فيها مختصون عميقون، وشمول الإسلام وشمول تعاليمه لكلّ مرافق الحياة، لا يعني شموليّة الناطقين باسمه؟!
فمن العبث أن يتصدّى كلّ طالب علم أو عالم شرعيّ للكلام والتصريح والتقييم لكلّ ما يدور في المجتمع من قضايا بكافّة المجالات والاختصاصات.
فالثقافة الأفقيّة لا تؤهّل صاحبها للإدلاء بتصريحٍ وحُكم لكلّ قضيّة، وإلا سيكون كلامهم سطحيّاً، ومثاراً للنقد والأخذ والردّ والفتنة، وكثيراً ما يُوقع الناسَ بسوء الظنّ بالإسلام وعلمائه، والسبب اقتحام الناطقين باسم الإسلام لكل مجال دون مراعاة للتخصص.
وقد اقترح الدكتور نواف التكروري -حفظه الله- اقتراحاً جميلاً يعالج هذه المشكلة، وهي تقسيم اختصاصات الشريعة لعشرين، أو ثلاثين أو أربعين اختصاصاً، أو أقلّ، أو أكثر، بحيث يدرس الطالب الشقّ الشرعيّ والشقّ العلميّ المتعلّق بهذا الاختصاص، وبذلك يكون عميقاً بهذا الاختصاص.
وأذكر أنّ هذا الأمر كان هدفاً لِـ (الجامعة الإسلاميّة العالميّة في ماليزيا) حيث يدرس الطالب اختصاصيْنِ، الأوّل اختصاص شرعيّ والثاني اختصاص علميّ.
ولا شكّ أنّ ذلك مفيد حيث ينضج في ذهن الطالب العلمان، ويحلّ الإشكالات بين العلمين خلال المرحلة الجامعيّة، فيخرج منه بعد خلط هذا الطلع من الزهور المختلفة عسلاً صافياً سائغاً للشاربين -إن شاء الله- وبخاصة لو حصل بين الكلّيّات الشرعيّة والعلميّة تكاملٌ وتنسيق ومراعاة، فتكون المناهج تراعي هذا التكوين عند الدارس.
ويكون -بعد فترة- الأساتذة خريجين في هذه المناهج، فيتمّ التعديل والتطوير المستمرّ للمناهج الدراسة فيتخرّج علماء جمعوا بين العلم الشرعيّ وما يقابله من العلوم الدنيويّة، فنتخلّص من هذا الفصام النكِد بين العلوم الشرعيّة والدنيويّة!
قد يُقال: (هذا يحصل في مرحلة الدراسات العليا عند كثير من الدراسين) ونقول: هذا لا يكفيّ، لأنّه يجري اتفاقاً من دون تخطيط، بل كثيرون يدرسون اختصاصاً في الماجستير، وينتقلون لآخر في الدكتوراه! والمطلوب هو الاختصاص في مرحلة البكالريوس، وتعميق ذلك في مرحلة الدراسات العليا، لننتج باحثين عميقين مختصّين يكونون حُجّة وأعلاماً في هذه الاختصاصات!
لنضرب لهذه الاختصاصات أمثلة:
أمثلة الاختصاصات الفلسفة والعقيدة الإيمان والإلحاد والأسئلة الوجوديّة فلسفة الدين تفسير القرآن الكريم الحديث الشريف العبادات والتربية الروحيّة الأسرة والعلاقات الزوجيّة المعاملات الماليّة والتجاريّة البنوك والمعاملات المصرفيّة السياسة الشرعيّة وأنظمة الحكم العلاقات الدوليّة التربية والتزكية الحضارة والنهوض التاريخ الإسلاميّ أصول الفقه والمقاصد القضاء والمحاكم والقوانين القوانين والأنظمة القيم والأخلاق مقارنة الأديان الفرق والمذاهب الإسلاميّة التيّارات الفكريّة المعاصرة الأدب الإسلاميّ الشؤون الطبيّة علم اجتماع المجتمعات الإسلاميّة علم نفس المجتمعات الإسلاميّة ويمكن اقتراح اختصاصات أخرى..
ج- مطالبُ كثيرة تقتضي التخفيف:
تقول القاعدة الشرعيّة؛ وهي قاعدة عقليّة حكيمة: (إذا ضاق الأمر اتّسع) والقاعدة القرآنيّة تقول: {إنّ مع العُسر يُسراً}
بما أنّ تكوين ثقافة عامّة تتطلّب من المثقّف الاطلاع على علوم كثيرة، ففي المقابل سنخفّف من الكمّيّات المطلوبة في كلّ علم (التكديس) لنحصل على الكيفيّات والفائدة المرجوّة (الفاعليّة).
وهنا أحبّ الاستشهاد بقول الإمام “الغزاليّ” رحمه الله الذي خفّف شروط المجتهد المعهودة؛ يقول الإمام “الغزاليّ” في شروط المجتهد في الشريعة الإسلاميّة:
“أَمَّا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ الْأَصْلُ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَلْنُخَفِّفْ عَنْهُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْكِتَابِ، بَلْ مَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ مِنْهُ، وَهُوَ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ آية.
الثَّانِيَ: لَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بَلْ أَنْ يَكُونَ عَالِماً بِمَوَاضِعِهَا بِحَيْثُ يَطْلُبُ فِيهَا الْآيّة الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى أُلُوفٍ، فَهِيَ مَحْصُورَةٌ وَفِيهَا التَّخْفِيفَانِ الْمَذْكُورَانِ”( ).ونحن نريد مثقّفاً له رأي في الواقع، واجتهاد في تشخيص علله وأدويته، ولتكوين ثقافته شروط كثيرة، لذلك سنخفّف في الكمّيّة بالتركيز على النوعيّة.
فكثير من المدرّسين يحبّون تدريس ما يؤلّفون، قديماً (أصحاب المتون) وحديثاً (دكاترة الجامعة) للمكانة العلميّة التي تعطيها المؤلّفات للمدرّسين، وفي كثير من الأحيان للكسب الماليّ من بيع الكتب.
لكن المشكلة أنّ أغلب هذه المؤلّفات تكرّر ما سبقها، دون إضافة علميّة تُذكر، لذلك فالحرص على جمع المؤلّفات في كلّ علم، والحرص على قراءتها كلّها لا فائدة كبيرة منه، فكثيراً ما يكون بعض المؤلّفين غير متمكّنين من العلم، فيشوّهون بعض المعلومات، فتلتبس الفروق بين المؤلّفات في ذهن القارئ، وتختلف أساليبهم في التصنيف والتقييم والاصطلاح، فيظنّ القارئ أنّ المشكلة في استيعابه وفهمه، ولكنّ الحقيقة أنّ بعض المؤلّفين غير محقّقين في العلم الذي يؤلّفون فيه!
ينبغي الحرص على اقتناء الكتب النوعيّة في كلّ علم، تلك الكتب التي نقلت ذلك العلم نقلات نوعيّة في العلم المراد دراسته، والاختصاص فيه.
ولهذا ننصح بالقراءة للنوابغ في العلوم، فجملة واحدة من هؤلاء تفتح آفاقاً لا تفتحها كتب من كلام غيرهم!
يقول العلامة ابن خلدون رحمه الله:
“الفصل الرابع والثلاثون( ) في أنّ كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل:
اعلم أنّه ممّا أضرّ بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف، واختلاف الاصطلاحات في التعليم، وتعدّد طرقها، ثمّ مطالبة المتعلّم والتلميذ باستحضار ذلك، وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلّم إلى حفظها كلّها أو أكثرها ومراعاة طرقها، ولا يفي عمره بما كُتب في صناعة واحدة إذا تجرّد لها فيقع القصور ولا بدّ، دون رتبة التحصيل»( ).ويمثّل لذلك من الفقه على المذهب المالكيّ مثلاً بكتاب المدوّنة وما كتب عليها من الشروحات الفقهيّة، مثل كتاب ابن يونس واللخمي وابن بشير، والتنبيهات والمقدّمات والبيان والتحصيل على العتبيّة، وكذلك كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه.
ثمّ إنّه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانيّة من القرطبيّة والبغداديّة والمصريّة وطرق المتأخّرين عنهم، والإحاطة بذلك كلّه، وحينئذ يسلم لمن يلمّ بكلّ ذلك منصب الفتيا وهي كلّها متكرّرة والمعنى واحد.
والمتعلّم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها، والعمر ينقضي في واحد منها.
ولو اقتصر المعلّمون بالمتعلّمين على المسائل المذهبيّة فقط، لكان الأمر دون ذلك بكثير، وكان التعليم سهلاً ومأخذه قريباً، ولكنّه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه، فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها ولا تحويلها( ).
ثمّ يذكر ابن خلدون نبوغ ابن هشام في العربيّة ويقول:
“ودلّ ذلك على أنّ الفضل ليس منحصراً في المتقدّمين، لا سيّما مع ما قدّمناه من كثرة الشواغب بتعدّد المذاهب والطرق والتآليف، ولكنّ فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذا نادر من نوادر الوجود، وإلّا فالظاهر أنّ المتعلم ولو قطع عمره في هذا كلّه، فلا يفي له بتحصيل علم العربيّة مثلاً الذي هو آلة من الآلات ووسيلة، فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة؟ ولكنّ الله يهدي من يشاء”.
د. البداية بالتفاصيل يُعجز المتعلّم وينفّره
أترك البيان للخبير بالنفس البشرية، للعبقريّ ابن خلدون رحمه الله:
“وقد شاهدنا كثيرًا من المعلّمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته،
ويحضرون للمتعلّم في أوّل تعليمه المسائل المقفلة من العلم،
ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلّها، ويحسبون ذلك مرانًا على التعليم وصوابًا فيه،
ويكلّفونه رعي ذلك وتحصيله ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعدّ لفهمها.
فإنّ قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجًا،
ويكون المتعلّم أوّل الأمر عاجزًا عن الفهم بالجملة، إلا في الأقلّ، وعلى سبيل التقريب والإجمال والأمثال الحسّيّة.
ثمّ لا يزال الاستعداد فيه يتدرّج قليلاً قليلاً بمخالفة مسائل ذلك الفنّ وتكرارها عليه،
والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتمّ الملكة في الاستعداد، ثم في التّحصيل، ويحيط هو بمسائل الفنّ.
وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي، وبعيد عن الاستعداد له، كل ذهنه عنها،
وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله، وتمادى في هجرانه!
وإنّما أتى ذلك من سوء التعليم.
ولا ينبغي للمعلّم أن يزيد متعلّمه على فهم كتابه الذي أكبّ على التعليم منه بحسب طاقته، وعلى نسبة قبوله للتعليم،
مبتدئًا كان أو منتهياً، ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها، حتى يعيه من أوّله إلى آخره،
ويحصّل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره؛
لأنّ المتعلّم إذا حصّل ملكةً ما في علم من العلوم، استعدّ بها لقبول ما بقي،
وحصل له نشاط في طلب المزيد، والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم،
وإذا خلط عليه الأمر، عجز عن الفهم، وأدركه الكلال، وانطمس فكره، ويئس من التّحصيل، وهجر العلم والتعليم!
والله يهدي من يشاء.”
هـ. منهاج مختصر ثم متوسط ثم مفصل
من المفيد التدرّج في شرح العلم للمتعلّم المختص إلى ثلاث مراحل:
- مرحلة الاختصار،
- ثم التوسّط،
- ثم التطويل،
ويُفضل عدم تفريق جلسات التعليم حتى تبقى في ذهن الطالب، فيربط بينها وتحصل له الملكة بذلك.
أترك الشرح للعلّامة ابن خلدون رحمه الله حيث يقول:
“الفصل السابع والثلاثون في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته:
اعلم أنّ تلقين العلوم للمتعلّمين إنّما يكون مفيدًا إذا كان على التدريج شيئًا فشيئًا وقليلاً قليلاً،
يُلقى عليه أوّلًا مسائل من كل باب من الفنّ، هي أصول ذلك الباب،
ويقرّب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوّة عقله، واستعداده لقبول ما يرد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفنّ،
وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنّها جزئيّة وضعيفة، وغايتها أنّها هيّأته لفهم الفنّ وتحصيل مسائله.
ثمّ يرجع به إلى الفنّ ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال،
ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفنّ، فتجود ملكته.
ثمّ يرجع به وقد شدّ، فلا يترك عويصًا ولا مهمًا ولا مغلقًا إلا وضّحه، وفتح له مقفله،
فيخلص من الفنّ وقد استولى على ملكته، هذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنّما يحصل في ثلاث تكرارات،
وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك، بحسب ما يُخلق له ويتيسّر عليه.”ويضيف:
“وكذلك ينبغي لك ألا تطوّل على المتعلّم في الفنّ الواحد، بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها،
لأنّه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفنّ بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها.
وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان؛ كانت الملكة أيسر حصولًا، وأحكم ارتباطًا، وأقرب صبغة،
لأنّ الملكات إنّما تحصل بتتابع الفعل وتكراره، وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه، والله علّمكم ما لم تكونوا تعلمون.”أعود وأؤكد أنّ هذا للمختصّين وليس لبناء الثقافة.
و. احذر المتون المستغلَقَة
يقول العلّامة ابن خلدون رحمه الله:
“الفصل السادس والثلاثون: في أنّ كثرة الاختصارات الموضوعة في العلوم مخلّة بالتعليم:
ذهب كثير من المتأخّرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم، يولعون بها، ويدوّنون منها برنامجًا مختصرًا في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلّتها،
باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفنّ، وصار ذلك مخلًّا بالبلاغة وعسرًا على الفهم!
وربّما عمدوا إلى الكتب الأمّهات المطوّلة في الفنون للتفسير والبيان؛ فاختصروها تقريبًا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه، وابن مالك في العربيّة، والخونجيّ في المنطق وأمثالهم، وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتّحصيل،
وذلك لأنّ فيه تخليطًا على المبتدئ، بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعدّ لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم كما سيأتي.
ثمّ فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلّم، بتتبّع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم، بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل من بينها؛
لأنّ ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظّ صالح من الوقت.
ثمّ بعد ذلك، فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تمّ على سداده ولم تعقبه آفة؛
فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطوّلة، لكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامّة،
وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقِلّته، كشأن هذه الموضوعات المختصرة،
فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلّمين، فأركبوهم صعبًا، يقطعهم عن تحصيل الملكات النّافعة وتمكّنها،
{ومن يهدِ الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له} والله سبحانه وتعالى أعلم.”
وخطورة كتب المتون في عصور التخلّف العلميّ عندنا
يصف العلامة الفقيه الدكتور مصطفى الزرقا رحمه الله وضع العلم في عصر التخلّف بدقة ومنصف، وهو من المدرسة الشرعية العريقة، حيث يقول:
“الدور الفقهي السادس، من منتصف القرن السابع إلى ظهور المجلة سنة 1286هـ،
في هذا الدور أخذ الفقه بالانحطاط، فقد بدأ في أوائله بالركود، وانتهى في أواخره إلى الجمود،
وإن كان في بحر هذا الدور الواسع قد برز بعض الفحول اللامعين، من الفقهاء والأصوليين.
ففي هذا العصر ساد الفكر التقليديّ المغلق، وانصرفت الأفكار عن تلمّس العلل والمقاصد الشرعية في فقه الأحكام إلى الحفظ الجاف،
والاكتفاء بتقبّل كلّ ما في الكتب المذهبية دون مناقشة!
وطفق ذلك النشاط الذي كان لحركة التخريج والترجيح والتنظيم في فقه المذاهب، يتضاءل ويغيب،
وأصبح مريد الفقه يدرس كتاب فقيه معيّن من رجال مذهبه، فلا ينظر إلى الشريعة وفقهها إلا من خلال سطوره،
بعد أن كان مريد الفقه قبلاً يدرس القرآن والسنة، وأصول الشرع ومقاصده، وأدلّة الأحكام.
وقد أصبحت المؤلفات الفقهية – إلا القليل – أواخر هذا العصر اختصارًا لما وجد من المؤلفات السابقة، أو شرحًا له،
فانحصر العمل الفقهي في ترديد ما سبق، ودراسة ألفاظ وحفظها.
وفي أواخر هذا الدور حل الفكر العامّي محل الفكر العلمي لدى كثير من متأخّري رجال المذاهب الفقهية.”ويكمل الدكتور الزرقا:
“وقد شاعت نتيجة ذلك طريقة (المتون) في التأليفات الفقهية وأصبحت هي الطريقة السائدة العامة،
وحلّت كتب المتأخرين فيها محل كتب المتقدمين القيّمة في الدراسة الفقهية.
وطريقة المتون هذه يعمد فيها المتأخرون إلى وضع مختصرات يجمعون فيها أبواب العلم كلها في ألفاظ ضيقة يتبارون فيها بالإيجاز،
حتى تصل إلى درجة المسخ أو الألغاز، وتكاد كل كلمة أو جملة تشير إلى بحث واسع أو مسألة تفصيلية،
كمن يحاول حصر الجمل في قارورة! ويسمى هذا المختصر (متن).
ثم يعمد مؤلف المتن نفسه، أو سواه، إلى وضع «شرح» على المتن لإيضاح عباراته، وبسط تفاصيل مسائله، والزيادة عليها.
ثم توضع من قبل آخرين تعليقات على تلك الشروح تسمى (الحواشي) ثم توضع على تلك الحواشي ملاحظات تسمى (تقريرات).
وتتضمن تلك الشروح والحواشي والتقريرات كثيرًا من المناقشات اللفظية في حل العبارات والألفاظ دون المقاصد الجوهرية في العلم،
وقد يضيع الموضوع الواحد أو يتشتت ما بين المتون والشروح والحواشي والتقريرات.
ولا نعني بهذا خلو الحواشي من الفوائد العلمية، بل هي مشحونة بكثير من التحليل والتحقيق والتمحيص والمباحث ذات الشأن،
ولكنّها قد مزج فيها اللباب بالقشور، وعانى الفقه فيها سقم الطريقة.
وتاريخ المتون في الحقيقة يرجع إلى أقدم من هذا العصر،
ولكنّها عندما ظهرت قديمًا كان الغرض منها حكيمًا، وهو جمع المسائل الأولية البسيطة في متون صغيرة، بعبارة سهلة،
لتكون مبادىء لشداة الفقه، على نحو (الآجرّوميّة) في علم النحو،
وهذا الغرض يقضي بأن يبقى المتن مختصرًا بسيطًا سهلًا للمسائل الأولية، مقصورًا عليها للغاية التعليمية،
فلا توضع عليه الشروح الواسعة، ولا الحواشي المعقدة.
ولكن المتون انقلبت في العصر المبحوث عنه إلى طريقة عامة تعقيدية في تأليف الفقه،
حتى إنّ من يريد أن يترك له أثرًا وذكرًا علميًا لا يفكر أن يخدم العلم بمؤلف مستقل يعمد به إلى التجديد في أسلوب الفقه ولغته،
وفي تنقيحه وتقسيمه، وترتيبه وتبويبه، والرجوع بمسائله المشتّتة في غير أبوابها إلى أبوابها ومناسباتها،
فيضيف إلى جهود المتقدمين الحميدة جهودًا جديدة، بل كان كل مؤلف متأخر يحصر جهده في وضع حاشية على شرح،
أو شرح على متن معقد، أو يضع متنًا على نسق سائر المتون الاختزالية اللغزية التي تقدّمته.
ومن هنا نرى أنّ طريقة المتون بدأت قديمًا معقولة الفكرة والغرض لوضع مبادئ العلم البسيطة تسهيلاً على المبتدئين،
ثم أصبحت بالعوامل التقليدية على أيدي المتأخرين أشواكًا وتعاريج توعّر بها طريق الفقه، واعتص على غير ذوي الاختصاص،
وأصبحت دوحة الفقه في أخريات هذا الدور تحمل الورق الكثير، عوضًا عن الثمر اليانع.”
خاتمة
طبعًا، أطلت النفس في هذا العنوان، لانتشار طريقة قراءة المتون في الدراسات الشرعية،
وفيها يتم التركيز على (حل العبارات) أكثر من التركيز على فهم العلم ومناقشة أفكاره ومسائله،
حيث يضيع الوقت والجهد والتركيز في فك طلاسم بعض المتون و(حلحلة) العبارة، وتفكيكها، كأنها شيفرة أو لغز.وقد كنّا نعتقد أنّ الكتاب كلما صعُبت عبارته كلما كان دسمه أكثر، واحتاج إلى أستاذ حتى يشرحه،
وإلا فما فائدة الأستاذ إذا كانت عبارة الكتاب واضحة؟وكم أضعنا من جهود في فك عبارات تلك الكتب، كان الأجدى بنا لو ركزنا على فهم ذلك العلم وتفعيله،
وتطبيق قواعده على المستجدات من المسائل، لكان أكثر فائدة لنا ولمعلّمينا، ولدنيانا وآخرتنا.{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]
هذا المقال جزء من كتاب مقدمات منهجية من سلسلة من التكديس الى الفاعلية